تعَد جمهورية الصين من القوى الدولية الفاعلة التي حرصت على أن تُبلوِر استجابات متوازنة إلى حد كبير حيال الانقلابات العسكرية والأنظمة المنبثقة عنها في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، وقد ارتكزت هذه الاستجابات في الأساس على الحفاظ على دعم خيارات التسوية السلمية القائمة على الحوار السياسي والتفاوض، وهو ما يتسق مع الخط العام لسياستها في أفريقيا، المعتمد على مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” لدول القارة؛ وذلك في محاولة لتأكيد اختلافها عما تتبناه القوى الغربية من استراتيجيات قائمة على تمرير التدخل بمختلف أشكاله، بما فيها العسكري، وهو ما قد يجعلها أكثر قبولاً لدى الشعوب والأنظمة الانتقالية في مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية. وقد صاحب الانقلابات الأخيرة العديد من التأثيرات الفعلية والمحتملة على المصالح الصينية، وهو ما دفع بكين إلى تبني أنماط استجابة محددة تجاه تغيرات ما بعد الانقلابات العسكرية في أفريقيا.
تأثيرات مُلحَّة
ثمة العديد من التأثيرات المحتملة للانقلابات العسكرية في أفريقيا خلال الآونة الأخيرة على منظومة الأهداف والمصالح الصينية، وهي التأثيرات المتمثلة فيما يلي:
1– تبلور مخاطر بشأن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية: تتمثل هذه المخاطر في الأساس في تأثير ظروف عدم الاستقرار السياسي المصاحبة للمراحل الانتقالية في الدول التي شهدت انقلابات عسكريةعلى الأطر المتعلقة بتفعيل هذه المبادرة، ومنها الجابون مثلاً التي انضمت إلى المبادرة عقب التوقيع على مذكرة تفاهم بين الطرفين في 28 مايو عام 2018، وقد وصلت العلاقات بينها وبين الصين في عهد الرئيس المعزول “علي بونجو” إلى مستوى الشراكة التعاونية الاستراتيجية الشاملة في إطار الزيارة الرسمية التي أجراها إلى الصين في أبريل من العام الجاري، وهو ما يعتبر أعلى مستوى من العلاقات الثنائية بالنسبة إلى الصين؛ علماً بأن هذه الزيارة قد سبقتها زيارة أجراها وزير الخارجية الصيني السابق “تشين جانج” إلى الجابون في يناير من العام الجاري.
ومن ثم فإن استمرارية دعم الجابون لهذه المبادرة متوقف على طبيعة توجهات وأولويات النظام العسكري الانتقالي بقيادة الجنرال “بريس أوليجي أنيجما”. ويجدر القول إن هذه المبادرة تشكل واحداً من المرتكزات الاستراتيجية الصينية لتعزيز نفوذها العالمي؛ حيث تعد بمنزلة مشروع بنية تحتية ضخم يهدف إلى توسيع روابط الصين التجارية عبر بناء الموانئ والسكك الحديدية والمطارات والمجمعات الصناعية، من خلال فرعين رئيسيين؛ هما: طريق الحرير البري، وطريق الحرير البحري، وقد أطلقها الرئيس الصيني “شي جين بينج” في عام 2013، وتُعَد أفريقيا جزءاً رئيساً منها.
2– تأثر منظومة المصالح الاقتصادية الصينية: يوجد نوعان من التأثيرات على المصالح الاقتصادية الصينية في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية في أفريقيا خلال الآونة الأخيرة؛ أما الأول فيرتبط بالتأثيرات الفعلية من قبيل قيام شركة مجموعة البناء والهندسة الصينية العملاقة بتعليق مشروع سد “كاندادجي” للطاقة الكهرومائية الواقع على بعد (180) كم في شمال غرب عاصمة النيجر “نيامي”، الذي تبلغ تكلفته نحو (808) ملايين دولار؛ حيث أعلنت أن العقوبات المرتبطة بالانقلاب أدت إلى وقف التمويل الرئيسي. والجدير بالذكر أن السد من المفترض أن يولد سنوياً نحو (629) جيجاواط في الساعة. ويهدف المشروع في الأساس إلى دعم قطاع الطاقة في النيجر.
ويكمن الثاني في التأثيرات الاقتصادية المحتملة، من قبيل عدم وضوح مستقبل الاستثمارات المتعلقة بشركة النفط الصينية التي تديرها الدولة “سينوبك”، والتي وقعت على اتفاقية مع حكومة النيجر في مايو الماضي لتسريع تنمية موارد النفط والغاز، وتسعى إلى استكمال الهيمنة التقليدية التي تتمتع بها على قطاع النفط في النيجر. وذلك بالإضافة إلى عدم وضوح مصير مشروع خط أنابيب النفط الضخم الذي تنفذه شركة “بتروتشاينا” الصينية في النيجر، الذي كان من المقرر أن يكتمل بنهاية العام الجاري، والذي كان قد تم الموافقة على إنشاؤه في عام 2019، واكتمل بالفعل نحو (75%) منه، وسيشكل أطول خط أنابيب عابر للحدود في القارة الأفريقية بمجرد اكتماله؛ حيث يمتد لنحو ألفَي كيلومتر، ويربط حقول “أجاديم” الواقعة جنوب شرق النيجر بميناء “سيمي” في بنين. وقد قدرت حكومة النيجر في وقت سابق أن هذا الخط يمكن أن يولد ما يصل إلى ربع الناتج المحلي الإجمالي، ونصف الإيرادات الضريبية للبلاد في عام 2019.
كما أن من المحتمل أن تتأثر المنطقة الصناعية الصينية المزمع إقامتها في عاصمة النيجر “نيامي”، التي تحدث عنها سفير الصين لدى النيجر “جيانج فنج” مع الرئيس المعزول “بازوم” قبل وقوع الانقلاب العسكري مباشرةً، والتي من المفترض أن يكون لها تأثير كبير على قطاعات مثل الأغذية الزراعية والتصنيع والتعدين والعقارات.
وبصفة عامة، يمكن القول بوجود تأثير محتمل على مجمل الاستثمارات الصينية في النيجر، وهو ما قد يؤثر على مصالحها الاقتصادية، ولا سيما في ضوء أنها تعد ثاني أكبر مستثمر في الاقتصاد النيجري بعد فرنسا، وخصوصاً في قطاع الطاقة. والتأثيرات السلبية المحتملة ذاتها تنسحب على تأثر المصالح الاستراتيجية للصين في الجابون؛ حيث تستورد الصين نحو (22%) من خام المنجنيز من الجابون، كما تدير الشركات الصينية أكثر من نصف مناطق قطع الأشجار التجارية في البلاد؛ وذلك على الرغم من أن الواردات الصينية من الجابون تمثل أقل من نحو (1%) و(1.3%) من الطلب على النفط الخام والأخشاب في الصين على التوالي.
3– تضرر المصالح العسكرية الصينية: يتمثل ذلك في تأثر الأهداف العسكرية للصين في إطار الدول التي شهدت انقلابات عسكرية في أفريقيا خلال الآونة الأخيرة، ومنها عدم وضوح الرؤية بشأن إقامة قاعدة بحرية صينية على المحيط الأطلنطي في شبه جزيرة “ماندجي” الواقعة على بعد نحو (90) ميلاً من عاصمة الجابون “ليبرفيل”، التي جرى بشأنها اتفاق شفهي بين رئيس الجابون المعزول “علي بونجو” ونظيره الصيني “شي جين بينج”، وهو الاتفاق الذي يقضي بأن يحصل جيش التحرير الشعبي الصيني على هذه القاعدة العسكرية؛ حيث تتطلع الصين منذ سنوات طويلة إلى أن يكون لها موطئ قدم على المحيط الأطلسي بغية دعم مصالحها الاستراتيجية، وعلى رأسها مبادرة “الحزام والطريق”. ويتوقف إنشاء هذه القاعدة على طبيعة التوافق بين الصين والنظام العسكري الانتقالي في الجابون في الفترة المقبلة.
وإذا تم إنشاء هذه القاعدة فستكون الثانية من نوعها للصين في أفريقيا؛ إذ كانت قد أنشأت أول قاعدة عسكرية لها في أفريقيا في جيبوتي في أغسطس 2017، وهي القاعدة التي هدفت إلى تعزيز المصالح الاقتصادية للصين في منطقة القرن الأفريقي، وعلى رأسها الواردات النفطية القادمة من منطقة الشرق الأوسط؛ حيث تمر نسبة (40%) من إجمالي هذه الواردات الصينية عبر المحيط الهندي، كما تعد هذه القاعدة بمنزلة مرفق بحري يساهم في دعم عمليات مكافحة القرصنة، وحماية الأصول الخارجية للصين، وتسهيل مهمة إخلاء الرعايا الصينيين في مختلف مواقف الأزمات، ودعم الجهود الدبلوماسية الصينية في أفريقيا، وكذلك توفير المساعدة للأعداد المتزايدة من المواطنين الصينيين المنخرطين في التجارة والمقيمين في أفريقيا وجنوب آسيا والعاملين بالشركات الصينية الخاصة المملوكة للدولة في هذه المناطق.
4– الاستفادة الممكنة من تنامي العداء ضد الغرب: تحاول الصين – شأنها في ذلك شأن روسيا – الاستفادة من تنامي حالة العداء ومشاعر الكراهية ضد قوى الاحتلال السابقة، وعلى رأسها فرنسا بطبيعة الحال، التي تنامت الموجات الرافضة لوجودها، سواء على مستوى الأنظمة العسكرية الانتقالية أو قطاعات عريضة من المواطنين في كافة الدول التي شهدت انقلابات عسكرية منذ عام 2020، وهي مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري والنيجر والجابون؛ حيث جرى اتهامها بأنها السبب الرئيسي في تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول.
ولذا تحاول الصين الاستفادة، في هذا الإطار، من عدم وجود ميراث استعماري سابق لها في القارة الأفريقية بصفة عامة، وذلك عبر الترويج لنموذجها القائم على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، والاعتماد على الأدوات الاقتصادية في المقام الأول، سواء عبر التجارة أو الاستثمارات أو المِنَح والقروض الميسرة أو المساعدات التنموية باعتبار ذلك مدخلاً رئيسياً في تفاعلاتها؛ وذلك على النقيض من النموذج الغربي القائم على الترويج لتجربة “الديمقراطية الغربية”، باعتبارها هي الحل الأمثل للمشكلات السياسية في البيئات الأفريقية، ومحاولة استخدامها ورقةً لتمرير التدخل في شؤون دول القارة.
اعتبارات حاكمة
ثمة العديد من الاعتبارات الحاكمة لتفاعل الصين حيال التغيرات الواقعة في مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية في أفريقيا خلال الآونة الأخيرة، وهي الاعتبارات المتمثلة فيما يلي:
1– تبني آلية “الدبلوماسية الهادئة” حيال الأنظمة الانقلابية: تبلور ذلك بشكل جلي من خلال الاستجابة الصينية حيال الانقلابات العسكرية التي حدثت في دول إقليم غرب أفريقيا، وربما يُستثنَى من هذه القاعدة موقفها تجاه الانقلاب العسكري في غينيا كوناكري في سبتمبر 2021؛ حيث عارضته وطالبت بالإفراج الفوري عن الرئيس السابق “ألفا كوندي”، وفي المقابل جاء موقفها أكثر هدوءاً في الحالات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “تشاو ليجيان” الدعوة إلى حل الخلافات من خلال الحوار في بوركينا فاسو؛ وذلك عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب “روش مارك كريستيان كابوري” في مطلع فبراير 2022.
وهو الموقف الذي يتسق مع سلوكها حيال الانقلاب العسكري في النيجر في 26 يوليو الماضي؛ حيث أكدت وزارة الخارجية الصينية في 3 أغسطس الماضي أنها تعتقد أن النيجر ودولاً أخرى في المنطقة لديها الحكمة والقدرة على إيجاد حل سياسي عقب وقوع الانقلاب العسكري في 26 يوليو الماضي، كما دعت الأطراف المعنية إلى استعادة النظام الدستوري في أسرع وقت ممكن.
وهو الموقف الذي تبنَّته في الجابون؛ حيث أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانج ون” فور وقوع الانقلاب العسكري في 30 أغسطس الماضي، دعوة الصين الأطراف المعنية في البلاد إلى الانطلاق من المصالح الأساسية للأمة والشعب، وحل الخلافات سلمياً من خلال الحوار، واستعادة النظام الدستوري في الدولة. ويتناقض الاتجاه العام للسلوك الصيني حيال الأنظمة العسكرية الانتقالية مع السلوك الغربي، وتحديداً الفرنسي، الذي وصل إلى حد دعم خيار التدخل العسكري في حالة النيجر ضد الانقلابين لإعادة الرئيس المعزول "بازوم".
2– إقامة روابط مع الأنظمة العسكرية الانتقالية: حيث لجأت بكين إلى إقامة علاقات مع الأنظمة العسكرية الانتقالية في الدول التي شهدت انقلابات؛ وذلك من أجل الحفاظ على استمرارية المصالح الصينية المختلفة؛ فعلى سبيل المثال عقد سفير الصين لدى النيجر “جيانج فنج” لقاء مع وزير الدفاع النيجري الجنرال “ساليفو مودي” في مطلع سبتمبر الجاري، وهو اللقاء الذي أكد خلاله الجانب الصيني دعم النيجر، وقد أعقب ذلك لقاء جمع السفير الصيني برئيس الوزراء الذي عيَّنه المجلس العسكري الانتقالي “علي الأمين زين”، وهو اللقاء الذي أكد من خلاله أن الحكومة الصينية تعتزم القيام بدور المساعي الحميدة مع الاحترام الكامل لدول المنطقة، والتزام الصين بالعمل وسيطاً في الأزمة مع احترام السيادة والشؤون الداخلية لدول المنطقة المعنية، كما ذكر أن الصين تقف بجانب شعب النيجر في الوضع السياسي الصعب الذي تمر به البلاد، ومواصلة جميع المشروعات التي تصب في مصلحة السلطات النيجرية.
3– دعم الأنظمة العسكرية الانتقالية في المحافل الدولية: تعمد الصين إلى تقديم الدعم للأنظمة العسكرية الانتقالية في الأمم المتحدة، وتحديداً في مجلس الأمن الدولي؛ حيث استخدمت حق الفيتو لحماية وكسب تأييد الأنظمة التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية على مدى الأعوام السابقة. ومن أبرز الأمثلة في هذا الشأن، امتناع الصين عن التصويت بشأن القرار المتعلق بفرض عقوبات مقترحة من الأمم المتحدة ضد المجلس العسكري الانتقالي في مالي بقيادة “أسيمي جويتا” بعد فشل قادته في تنفيذ تعهدهم بإجراء انتخابات وإعادة الحكم المدني في أواخر عام 2021.
4– الحفاظ على استمرارية المصالح في المراحل الانتقالية: تسعى الصين إلى الحفاظ على ديمومة المصالح المختلفة القائمة في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية خلال السنوات الأخيرة، التي تشمل تعزيز الروابط الاقتصادية القائمة من قبيل الحفاظ على الاستثمارات الكبيرة في قطاع الطاقة في النيجر، والاستثمارات في مناجم الليثيوم في مالي، ودعم الصلات العسكرية من قبيل تقديم المساعدات والمنح الدراسية العسكرية والأسلحة الصغيرة والاستثمارات في الاتصالات وأنظمة المراقبة الأمنية في بوركينا فاسو، والسيطرة على الموارد الطبيعية، من قبيل شركات الاستخراج الصينية العاملة في غينيا كوناكري؛ حيث تعمل نحو (14) شركة صينية مملوكة للدولة وخاصة في أعمال الألمنيوم؛ إذ تعد الصين أكبر منتج ومستهلك للألمنيوم في العالم؛ حيث استوردت نحو ( 52.7) مليون طن من البوكسيت (خام الألمنيوم) من غينيا كوناكري في عام 2020، فضلاً عن استثمارات الشركات الصينية في مجال استخراج خام الحديد، ومنها شركة “باوو” الصينية التي حصلت على حقوق القيام بعمليات التنقيب والاستخراج في منجم “سيماندو” الغيني، الذي يعد أكبر مستودع لخام الحديد غير المستغل في العالم، وقد جمع المشروع احتياطيات تزيد على (10) مليارات طن من خام الحديد العالي الجودة.
وختاماً، يمكن القول إن الصين قد تبنت استراتيجية قائمة على التكيف والتأقلم فيما يخص التعامل مع الأنظمة الانتقالية الناتجة عن الانقلابات العسكرية في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة. ويرتبط ذلك بمحاولة الحفاظ على استمرارية منظومة أهدافها ومصالحها الذاتية، ولا سيما الاقتصادية من جانب، ومحاولة شغل الفراغ الذي تركته القوى الغربية في الدول محل الانقلابات العسكرية، وعلى رأسها فرنسا، من جانب آخر، وكذلك مزاحمة النفوذ الأمريكي الذي يحاول احتواء الأنظمة العسكرية الانتقالية في هذه الدول من جانب ثالث.