• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39

شارك مئات الآلاف، في الأول من أكتوبر الجاري، في مسيرة معارضة ضد الحكومة الشعبوية القومية التي يقودها حزب القانون والعدالة الحاكم، في العاصمة البولندية وارسو، استجابة لدعوات المعارضة المنظمة للمسيرة، ممثلة في الموالين لرئيس الوزراء السابق والرئيس السابق للمجلس الأوروبي وزعيم حزب المنصة المدنية المعارض دونالد تاسك. وعلى خلفية ذلك، انضم العشرات من الشخصيات السياسية البارزة إلى الاحتجاج ضد الحكومة، مشيرين إلى رغبتهم في تشكيل حكومة ديمقراطية وأوروبية حديثة تناهض الفكر الشعبوي الذي خيم على بولندا على مدار ثماني سنوات.

وقد جاءت تلك التظاهرة تحديداً لحشد المواطنين في كافة أنحاء الدولة، للتعبير عن رفضهم مواقف السلطات التي تحكم الدولة، في توقيت شديد الحساسية قبل أسبوعين من الانتخابات التشريعية، التي يُتوقع أن تحدد مستقبل بولندا في الاتحاد الأوروبي، ومكانتها الديمقراطية، على حد اعتقاد المعارضة بما في ذلك حزب المنصة المدنية الليبرالي. جدير بالذكر أنه بينما يروج منظمو التظاهرة بأن مليون شخص قد احتشدوا ضد الحكومة، فإن وكالة الأنباء البولندية، نقلاً عن الشرطة المحلية، أشارت إلى أن نحو 100 ألف شخص قد شاركوا في المسيرة المعارضة.

دوافع محفزة

عبر زعماء المنبر المدني المعارض عن آمالهم في استعادة السلطة من قبضة حزب القانون والعدالة المحافظ الذي يحكم بولندا منذ عام 2015، وعليه استند المعارضون إلى جملة من الدوافع والانتقادات للحكومة الحالية، يمكن استعراضها فيما يأتي:

1. تآكل سيادة القانون في الدولة: ينتقد المعارضون أداء حزب القانون والعدالة الحاكم وممارساته تجاه الاتحاد الأوروبي، التي وصفوها بأنها “تآكل في سيادة القانون”؛ فبحسب تاسك الرئيس السابق للمجلس الأوروبي، فإن حزب القانون والعدالة قد يهدف إلى إخراج بولندا من الاتحاد الأوروبي، مستنداً في ذلك إلى اشتباك الحزب مع بروكسل وحلفاء غربيين آخرين بشأن قضايا تتعلق بسيادة القانون، وقد بلغ هذا الصراع ذروته قبل عامين، حين اعتبرت المحكمة العليا في بولندا أن قواعد الاتحاد الأوروبي تخضع للقانون البولندي، وأن بعض بنود المعاهدات الأوروبية لا تنسجم مع الدستور الوطني، وهو ما اعتبرته بروكسل هجوماً غير مسبوق على سيادة القانون الأوروبي، وتحدياً لأولوية قانون الاتحاد الأوروبي، وهو المبدأ الذي ربط الاتحاد على مدار عقود؛ ما دفع الاتحاد الأوروبي منذ ذلك الحين إلى فرض غرامة على بولندا تقدر بنصف مليون يورو يومياً. وعلى الرغم من أن تلك الانتقادات داخل الاتحاد الأوروبي قد هدأت حدتها، منذ أن أصبحت بولندا حليفاً رئيسياً في التحالف الداعم لأوكرانيا فإنه في المقابل، ينفي حزب القانون والعدالة الانتقادات الغربية التي تتهمه بتقويض الأعراف الديمقراطية، ويشير إلى أن إصلاحاته للسلطة القضائية تهدف إلى جعل البلاد أكثر عدلاً وخالية من بقايا الشيوعية، والتخلص من النفوذ الأجنبي.

2. اتهام السلطة بالترويج لسياسات شعبوية: تتهم المعارضة الحكومة في بولندا بالترويج لسياسات شعبوية، كمطالبة ألمانيا بدفع تعويضات عن الفظائع التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية، وكذلك حظر عمليات الإجهاض. فضلاً عن ذلك تعارض الحكومة بشدة مساعدة اللاجئين بكافة السبل؛ ففي سبتمبر الماضي من العام 2023، أُلقي القبض على عامل إغاثة، بحجة مساعدته مهاجرين وطالبي لجوء تقطعت بهم السبل على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا. وعلى خلفية ذلك، تعهد الائتلاف المدني المعارض المكون من أربعة أحزاب معارضة، باتباع سياسات أكثر تسامحاً من الحكومة القومية بقيادة حزب القانون والعدالة في حال فوزه في الانتخابات المقبلة.

3. الضغط البرجماتي على السلطة بشأن سياسات التعامل مع المهاجرين: بالرغم من تصاعد الخطاب الرافض لاستقبال المهاجرين، وخاصة المسلمين على امتداد خريطة القوى السياسية المختلفة في بولندا؛ بدا أن المعارضة تستخدم هذه القضية بصورة برجماتية من أجل الضغط على الحكومة؛ حيث تتبنى الحكومة البولندية الحالية توجهات رافضة لاستقبال اللاجئين المسلمين، على اعتبار أن ذلك فيه حفاظ على هوية وأمن المجتمع، وهو ما تحرص الحكومة على تأكيده في مناسبات عدة، ويدعمها في ذلك عدد من نواب البرلمان البولندي؛ فقد سبق أن صرح النائب dominik tarczynski، بأن بولندا لن تستقبل اللاجئين المسلمين؛ لأنهم يختلفون مع الثقافة المسيحية لبولندا، مؤكداً حق الحكومة البولندية في رفض اللاجئين المسلمين. وعلى العكس من ذلك،استقبلت بولندا نحو مليوني أوكراني وسط ترحيب ودعم شديدين.

وعلى الرغم من ذلك، فإن المعارضة وجهت انتقادات حادة للسلطة خلال الشهور الماضية على خلفية قضية الفساد التي تم الكشف عنها في منح التأشيرات لبعض المهاجرين من دول الشرق الأوسط، واتهم زعيم المعارضة دونالد تاسك، في 7 سبتمبر الماضي، الحكومة بالنفاق؛ لأنها “سمحت بقبول أعداد كبيرة من العمال الأجانب على الرغم من خطابها المناهض للمهاجرين والمؤيد للجدار الحدودي الجديد”. وجاءت هذه التصريحات بالتزامن مع كشف تقارير إعلامية عن تورط القنصليات البولندية في بعض الدول الآسيوية والأفريقية بتسهيل إجراءات تأشيرات العمل في بولندا مقابل رشى مادية.

4. تحميل الحزب الحاكم مسؤولية خسارة مليارات اليورو: تشير المعارضة إلى أن بولندا لم تتمكن بعد من الوصول إلى مليارات اليورو من أموال التعافي من فيروس كورونا في الاتحاد الأوروبي، وهي الأموال التي حجبتها بروكسل بسبب إصلاحات المحكمة البولندية. وبحسب عمدة وارسو رافال ترزاسكوفسكي، فإنه في الوقت الذي يستثمر فيه الجميع في الوظائف، وفي مكافحة كارثة المناخ، فإن بولندا قد حُرمت من تلك الأموال، معللاً ذلك قائلاً: “لأن شخصاً ما قرر تدمير الديمقراطية في بولندا”.

5. الترويج للفرص التي تحملها علاقات “تاسك” بالاتحاد الأوروبي: تعهد الائتلاف المدني بإصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، التي توترت خلال السنوات الثماني التي حكم فيها حزب القانون والعدالة البلاد، استناداً إلى علاقة تاسك القوية بالاتحاد الأوروبي؛ حيث قضى تاسك قرابة خمس سنوات رئيساً للمجلس الأوروبي، بعد أن أمضى سبع سنوات رئيساً لوزراء بولندا، ومن ثم يشار في هذا السياق إلى أنه يحظى بعلاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تكون مفيدة في إصلاح ما تم إفساده في علاقة بولندا بالاتحاد.

تحديات راهنة

رغم مساعي المعارضة البولندية لاستغلال الحدث في الترويج لها في الانتخابات التشريعية المقبلة، المزمع عقدها في 15 أكتوبر الجاري، فإن ثمة تحديات ومؤشرات قد تعيق فرص تقدم المعارضة على الحكومة، يمكن تناول أبرزها فيما يأتي:

1. الانقسام في صفوف المعارضة: في الوقت الذي تسعى فيه المعارضة البولندية التي تخوض حملة انتخابية شرسة بهدف الإطاحة بالحكومة الشعبوية القومية، ورغم الخطابات الجماعية والتصريحات المناهضة للحكومة، فإن “دونالد تاسك” يواجه رياحاً معاكسة خلال معركته من أجل أن يصبح رئيساً للوزراء، تتمثل في الانقسام في صفوف المعارضة والحملة الحكومية الشرسة ضد حزبه، التي ترمي إلى تصويره على أنه عميل ألماني غير وطني.

2. دعم الاتحاد الكونفدرالي اليميني المتطرف للحكومة: تحظى الحكومة البولندية بورقة رابحة، قد تشكل دعماً كبيراً لها في الانتخابات المقبلة، تتمثل في الاتحاد الكونفدرالي اليميني المتطرف، الذي يجتذب العديد من المؤيدين من الشباب البولندي، والذي يُتوقع أن يكون الحليف الوحيد الذي يمكن لحزب القانون والعدالة تشكيل ائتلاف عملي معه.

3. تصدر حزب القانون والعدالة استطلاعات الرأي: رغم ترويج المعارضة للعديد من الحجج والانتقادات المشككة في سياسات الحكومة البولندية، فإن حزب القانون والعدالة، الذي يتولى السلطة منذ عام 2015، جاء متصدراً استطلاعات الرأي بفارق واضح قبل الانتخابات؛ وذلك على الرغم من أنه قد يحتاج إلى شريك في الائتلاف كي يتمكن من تشكيل الحكومة، كما قد يواجه صعوبات في تشكيل أغلبية وسط استياء البعض من ارتفاع تكاليف المعيشة والقلق من تآكل الضوابط والتوازنات الديمقراطية، فيما احتل حزب تاسك المدني المركز الثاني في استطلاعات الرأي.

4. مخاطر عدم الوصول إلى عتبة الـ8٪: يتمثل التحدي الأكبر والأبرز أمام المعارضة البولندية، في مدى قدرتها على الوصول إلى البرلمان؛ إذ من أجل تشكيل ائتلاف فعال، فإن “تاسك” يحتاج إلى دعم الأحزاب اليسارية وائتلاف الطريق الثالث، لبلوغ عتبة 8% المطلوبة لدخول البرلمان. ومن ثم، فإنه إذا انخفض عدد المشاركين في الائتلاف إلى ما دون ذلك، فسيتم إعادة توزيع أصواتهم بين الأحزاب الأخرى، وفي تلك الحالة فإن ذلك سيصب في صالح حزب القانون والعدالة.

ختاماً، بينما تسعى المعارضة لشحذ الهمم بغرض زعزعة فرص نجاح الحكومة في الانتخابات التشريعية المقبلة – وهو ما تبدى جلياً من خلال تنظيمها تظاهرة مناهضة للحكومة – فإن حزب القانون والعدالة على الجانب الآخر، لا يزال متمسكاً بتوجهاته ورؤاه عبر ميله نحو الأفكار اليمينية المتطرفة، على أمل جذب الناخبين المحافظين من خلال الترويج لصورة كاثوليكية قومية، وإن كانت استطلاعات الرأي والمؤشرات الحالية تتجه لصالح سيناريو حصول حزب القانون والعدالة على أصوات أكثر من الائتلاف المدني بزعامة تاسك، فإن النتيجة النهائية يمكن أن تتأثر على نحو غير متوقع بشكل التحالفات المحتملة، بجانب الطريقة التي يعمل بها النظام الانتخابي في بولندا.