استضافت الولايات المتحدة قمة “منتدى جزر المحيط الهادئ” لزعماء دول جزر المحيط الهادئ على مدار يومَي 25 و26 من شهر ايلول/ سبتمبر الفائت. وعلى الرغم من تركيز هذه القمة بشكل رئيسي على تعزيز التواصل مع دول المنطقة لمواجهة تصاعد نفوذ الصين وترسيخ وجودها في المنطقة، فإنها تناولت أيضاً تأثيرات التغير المناخي، والقلق المتزايد بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية، والنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة والصحة العامة ومكافحة الصيد غير القانوني. وقد ضم المنتدى 18 عضواً من دول المحيط الهادئ تتقدَّمهم أستراليا، وبابوا غينيا الجديدة، ونيوزيلندا وجزر سليمان.
دلالات متعددة
هناك دلالات كاشفة عديدة عكستها هذه القمة حول ديناميات العلاقات الأمريكية–الآسيوية في اللحظة الراهنة التي تشهد سياقاً عالمياً مضطرباً ومتوتراً بسبب التطورات المتلاحقة. وتشير أبرز تلك الدلالات إلى:
1. تعزيز الشراكة الإقليمية بين واشطن ودول المحيط الهادئ: جدد الرئيس الاميركي جو بايدن التزام بلاده بتعزيز شراكتها مع جزر المحيط الهادئ، والحكومات المعنية، وهي الشراكة التي يدعمها التاريخ والقيم المشتركة والعلاقات بين الشعوب، أملاً في تحقيق رؤيتها المشتركة لمنطقة المحيط الهادئ المرنة التي يسودها السلام والأمن والاندماج الاجتماعي والرخاء؛ حيث تزدهر الديمقراطية، كما أعلنت الولايات المتحدة أيضاً أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تخطط لمضاعفة عدد موظفيها الحاليين وتوظيف المزيد من سكان جزر المحيط الهادئ لتقديم برامج فعَّالة ومستنيرة لمنطقة المحيط الهادئ.
لذلك أكدت وزارة الخارجية الأمريكية ضرورة دفع الشراكة بين الولايات المتحدة والمحيط الهادئ إلى الأمام لتعزيز التعاون الثنائي والإقليمي القوي والمثمر مع جزر المحيط الهادئ، والاستماع لأولويات المنطقة والاستجابة لها، كما أكدت واشنطن أنها تسترشد باستراتيجية عام 2050 بشأن المحيط الهادئ ومن ثم دعم الهيكل الإقليمي للمنطقة بقيادة منتدى جزر المحيط الهادئ.
2. مساعي واشنطن لمواجهة نفوذ الصين في الهندوباسيفيك: انعقاد هذه القمة للمرة الثانية في الولايات المتحدة يؤكد المساعي الأمريكية لمنع المزيد من التوغل الصيني في منطقة استراتيجية، تعتبرها واشنطن منذ فترة طويلة بمنزلة حديقتها الخلفية. وتأكيداً لزيادة البصمة الدبلوماسية والتنموية للولايات المتحدة في المنطقة، أوضحت وزارة الخارجية الأمريكية اعتزام بلادها فتح سفارة في فانواتو في عام 2024 وأخرى في كيريباتي، بعد أن أكملت إجراءات إخطار الكونجرس هذا العام، على غرار فتح سفارتين في جزر سليمان وتونجا عقب القمة الأخيرة التي عُقدت في نيويورك، بجانب فتح مقر للبعثة الإقليمية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في المحيط الهادئ في فيجي، ومكتب تمثيلي قُطري في بابوا غينيا الجديدة.
3. تأكيد حلفاء الصين دعمها في المحافل الدولية: إذ إن غياب رئيس وزراء جزر سليمان “ماناسيه سوفاجاري” الحليف الوثيق لبكين عن هذه القمة، بعد مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بحجة وجود التزامات برلمانية في بلاده، يدل على تخوف حلفاء الصين من حضور مثل هذه القمم الخاصة مع خصمها التقليدي لها؛ حيث وقَّعت جزر سليمان في أبريل 2022 اتفاقاً أمنياً مع بكين، أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها.
وكان سوجافاري قد أشاد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بالتعاون مع الصين في مجال التنمية، ووصفه بأنه أقل تقييداً وأكثر استجابةً ومواءمةً للاحتياجات الوطنية، وقال إن بكين هي الشريك الرئيسي لبلاده في البنية التحتية، كما أعلن سوجافاري توصُّله إلى تفاهم مع الرئيس “شي جين بينج” خلال زيارة قام بها إلى الصين في يوليو الماضي؛ من أجل تحقيق التنمية في جزر سليمان من خلال اتباع سياسات الصين، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق ومبادرة الأمن العالمي.
4. الاستثمار في العلاقات التجارية والتنمية الاقتصادية: أكد انعقاد هذه القمة اهتمام الولايات المتحدة بالشراكة مع جزر المحيط الهادئ والحلفاء والشركاء لدفع النمو الاقتصادي والازدهار، بما في ذلك زيادة العلاقات التجارية والاستثمارية، وتقديم المساعدة لتعزيز البيئات التمكينية، والبنية التحتية، واستقرار الاقتصاد الكلي، والدعم المستمر للتعافي من جائحة كوفيد–19.
5. دعم التزام “بايدن” بمواجهة تغير المناخ: أكد “بايدن” لزعماء جزر المحيط الهادئ أنه يسمع تحذيراتهم بشأن تأثير تغير المناخ على منطقتهم، وأن إدارته ملتزمة بمساعدتهم على مواجهة التحدي؛ إذ انتقد الكثيرون الدول الغنية لعدم قيامها بما يكفي للسيطرة على تغير المناخ على الرغم من كونها مسؤولة عن جزء كبير من المشكلة، ولتربُّحها من القروض المقدمة للدول الضعيفة للتخفيف من آثارها، كما التقى الزعماءُ مبعوثَ بايدن الخاص بشأن المناخ “جون كيري”، لإجراء محادثات مغلقة تركز على تغير المناخ، وكان في استضافتهم وزير الخارجية “أنتوني بلينكن”، وسفيرة الأمم المتحدة “ليندا توماس جرينفيلد”، كما استضاف “كيري” و”سامانثا باور” مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، الزعماءَ لإجراء محادثات بشأن المناخ.
وفي هذا الصدد، أكدت الولايات المتحدة العمل مع جزر المحيط الهادئ لتعزيز الطموح العالمي للحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية، وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة، ومساعدة جزر المحيط الهادئ على التكيف مع آثار تغير المناخ وإدارتها.
6. التنسيق في مجال الأمن البحري: قام بعض الزعماء بزيارة سفينة تابعة لخفر السواحل الأمريكي في ميناء المدينة للحصول على إحاطة بشأن مكافحة الصيد غير القانوني. وأعلن “بايدن” أنه سينشر في وقت لاحق من هذا العام سفينة تابعة لخفر السواحل الأمريكي في المنطقة للتعاون والتدريب مع دول جزر المحيط الهادئ.
وفي سياق ذي صلة، شددت وزارة الخارجية الأمريكية على مشاركة دول جزر المحيط الهادئ في ورشة عمل مركز القانون الدولي التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، والمركز الوطني الأسترالي لموارد وأمن المحيطات (ANCORS) حول الحدود البحرية لتعزيز قدراتها القانونية؛ من أجل التفاوض وإنشاء حدودها البحرية الخاصة بها في مواجهة ارتفاع مستوى سطح البحر والتهديدات التي تُهدِّد منطقة المحيط الهادئ الحرة والمفتوحة.
مخرجات جوهرية
لقد عكست القمة توسيع وتعميق التعاون بشأن القضايا الرئيسية بين الولايات المتحدة ودول المحيط الهادئ، مثل تغير المناخ، والأمن البحري، وحماية البيئة، وتعزيز منطقة المحيطَين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة. وبوجه عام، أسفرت القمة عن عدد من النتائج الرئيسية على مدار يومَي انعقادها، يمكن استعراضها فيما يأتي:
1. اعتراف واشنطن رسمياً بجزر كوك ونيوي: أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” اعتراف الولايات المتحدة رسمياً بجزر كوك ونيوي في المحيط الهادئ ، بوصفهما دولتَين مستقلتَين ولهما سيادة، وإقامة علاقات دبلوماسية معهما، وهما دولتان تتمتعان بالحكم الذاتي، وترتبطان ارتباطاً حراً بنيوزيلندا، وتتمتَّعان بعلاقات متنامية مع الصين؛ وذلك في مسعى للحد من نفوذ الصين. واعتبر “بايدن” أن هذه الخطوة ستُساهم في دعم منطقة الهندوباسيفيك “حرة ومنفتحة”.
كما أشار “بايدن” إلى أن تاريخ ومستقبل جزر المحيط الهادئ والولايات المتحدة مرتبطان بشكل لا ينفضُّ، والاعتراف بجزر كوك ونيوي وإقامة العلاقات الدبلوماسية لن يؤدي إلى تعزيز العلاقات فحسب، بل سيُساعد في ضمان أن يكون المستقبل المشترك أكثر أمناً وازدهاراً؛ لذلك وصفه الرئيس “بايدن” بأنه إنجاز تاريخي من شأنه أن يعزز الصداقات ويعمق الروابط لسنوات عديدة قادمة.
2. التفاوض لتجديد “اتفاقية الارتباط الحر” مع جزر مارشال: أكدت القمة أيضاً المُضي قدماً في المفاوضات مع جزر مارشال لتجديد “اتفاقية الارتباط الحر”، التي شكَّلت حجر أساس للتعاون بين الولايات المتحدة ومنطقة المحيط الهادئ منذ ما يقرب من أربعة عقود؛ حين أبرمتها الإدارة الأمريكية مع ميكرونيزيا وأرخبيل بالاو – وهما منطقتان كانتا خاضعتين سابقاً للإدارة الأمريكية – وكان من المقرر أن تنتهي شروطها الحالية بحلول 30 ايلول /سبتمبر الفائت؛ فبموجب هذه الاتفاقية يسمح للولايات المتحدة بوجود عسكري في هذه الجزر، مقابل تقديم واشنطن مساعدات اقتصادية وضمانات أمنية، بل تمكين سكان هذه الجزر من العيش والعمل في الولايات المتحدة.
3. ضخ مزيد من الاستثمارات لدول المحيط الهادئ: أعلن بايدن، أن الإدارة الأمريكية تعمل مع الكونجرس على مساعدة إضافية بقيمة 200 مليون دولار لدول جزر المحيط الهادئ، وهي الخطوة التي تدعم مساعي إدارته لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة ذات أهمية حاسمة للدفاع الأمريكي؛ حيث تم الإعلان عن عدد كبير من المبادرات الأمريكية، وكانت أكبر البنود هي 64 مليون دولار أمريكي من مساعدات التنمية، و40 مليون دولار أمريكي للبنية التحتية، كما أكد “بايدن” أن الولايات المتحدة ملتزمة بأن تكون منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومنفتحة ومزدهرة وآمنة.
4. تعزيز المؤسسات الإقليمية: أكدت الولايات المتحدة أن من المهم الاسترشاد بأولويات واحتياجات منطقة المحيط الهادئ، ووجود منتدى قوي ومُوحَّد ومرن لجزر المحيط الهادئ. ولتحقيق هذه الغاية، أعلنت الولايات المتحدة عن تقديم 500 ألف دولار، بشرط إخطار الكونجرس، لتعزيز القدرة المؤسسية لمنتدى جزر المحيط الهادئ وزيادة التعاون بين الولايات المتحدة ومنتدى جزر المحيط الهادئ.
5. دعم آليات الاستعداد الإقليمي للكوارث: قدَّمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 12.2 مليون دولار لتعزيز الاستعداد لمواجهة الكوارث على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية، وتدخلات بناء القدرات في جميع أنحاء جزر المحيط الهادئ التي تعزز الاعتماد على الذات، وتمكين البلدان الشريكة من تقليل آثار المخاطر الطبيعية والاستجابة بشكل أكثر فاعليةً لمواجهة الكوارث، كما تُواصِل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دعم تعافي ولايات ميكرونيزيا الموحدة من إعصار “وتيب”، الذي وصل إلى اليابسة في عام 2019، وتُقدِّم 6.3 مليون دولار من المساعدات الإضافية في حالات الكوارث التي تدعم الجهود المستمرة لإعادة بناء قطاع الإسكان والبنية التحتية العامة.
6. تأكيد أهمية مبادرة الشركاء في المحيط الهادئ الأزرق (PBP): شهدت القمة إعادة تأكيد أهمية مبادرة الشركاء في المحيط الهادئ الأزرق التي أُطلقت في يونيو 2022، بهدف حشد موارد جديدة لتحقيق نتائج عملية وملموسة لدعم أولويات منطقة المحيط الهادئ. وتتعاطى المبادرة مع عدد من الملفات الرئيسية، على غرار المساعدات الإنسانية في المنطقة، وتحسين القدرة الإقليمية على الصمود في مواجهة مخاطر الكوارث وتغير المناخ من خلال ما يُعرَف ببرنامج التخزين الإنساني في منطقة المحيط الهادئ (Pacific Humanitarian Warehousing Program)، كما تتضمن المبادرة ملفات أخرى مثل قضايا الأمن البحري، ومواجهة الصيد الجائر، والأمن السيبراني في دول المنطقة.
وإجمالاً لما سبق، فإن قمة منتدى جزر المحيط الهادئ التي استضافها الرئيس “جو بايدن”، تدل على رغبة أمريكية مُلحة لتعزيز الشراكات الإقليمية بين الولايات المتحدة ودول جزر المحيط الهادئ وفقاً لمبدأ “المكسب للجميع” (Win–win Approach)، كما أنها أكدت اتباع نهج شامل في مواجهة التحديات الإقليمية المشتركة، ومن ثم فإنها تمثل خطوة مهمة في تعزيز العلاقات والتعاون الوثيق في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في الأساس.