لم تكن الأزمات المتتالية التي واجهتها الأجهزة الأمنية والشرطية الفرنسية في الشهور الأخيرة سوى تعبير عن المأزق المتزايد للأجهزة الأمنية في مختلف الدول الأوروبية وتعرضها للعديد من الإشكاليات خلال السنوات الأخيرة؛ وذلك نتيجة تصاعد الاتهامات الموجهة ضدها باضطلاعها بالعديد من الممارسات الفاسدة، وكذلك التعسف في استخدام القوة، ناهيك عن الاتهامات المتعلقة بالعنصرية، وشنها اعتقالات واستجوابات غير مبررة ضد العديد من الأفراد، بجانب إفراطها في استخدام سلطاتها، حتى أصبح البعض يتعجبون من طرق تعامل تلك الأجهزة مع موجات الاحتجاجات التي شهدتها العديد من العواصم والمدن الأوروبية الكبرى خلال الفترة الماضية؛ حيث باتت طريقة تفاعل هذه الدول العريقة ديمقراطياً وقانونياً مع نزع فتيل الاحتجاجات وإخمادها من طرف قوات الأمن وإنفاذ القانون بطرق غير مشروعة، موضع تساؤلات عديدة.
أزمات مركبة
ثمة أزمات متعددة تعصف بأداء الأجهزة الأمنية في أوروبا، ويمكن تناول أبرز مؤشراتها على النحو التالي:
1. تصاعد شبهات الفساد: ينسب إلى العديد من أجهزة الأمن الأوروبية وجود شبهات للفساد بين قياداتها؛ ما قد يؤدي إلى تسريب المعلومات أو استخدام الأجهزة الأمنية لأغراض غير مشروعة، فضلاً عن تأثيرها السلبي على الأمن القومي لهذه الدول؛ فعلى سبيل المثال، انتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما وصفه بـ”الفساد المنهجي” في الإعفاءات الطبية للذين يتهربون من أداء الخدمة العسكرية في زمن الحرب، قائلاً “إن النظام يخضع للرشاوى والمغادرة الجماعية إلى الخارج”؛ وذلك على الرغم من جعل الإدارة الأوكرانية الحالية من مكافحة الفساد أولوية لها في الوقت الذي تواصل فيه هجوماً مضاداً بعد مرور أكثر من عام ونصف على العملية العسكرية الروسية، وهو ما دفع زيلينسكي إلى طرد جميع رؤساء مراكز التجنيد الإقليمية بالجيش الأوكراني، وتوجيه مجلس الأمن القومي والدفاع نحو النظر في البيانات التي تُظهر مدى الإعفاءات الكاذبة وقبول الرشوة والهروب إلى الخارج.
2. الإخفاق في مواجهة التهديدات الأمنية: واجهت الأجهزة الأمنية الأوروبية إخفاقات متعددة في مواجهة التحديات التي تواجهها بلادهم؛ وذلك نتيجة لزيادة ضغوط تلك التهديدات على عمل هذه الأجهزة، والتعرض لتهديدات مستحدثة. لقد ظهر هذا النموذج مؤخراً في حالة السويد في ظل التعرض لموجة من العنف والجرائم المنظمة التي خلفت نحو 12 قتيلاً في شهر سبتمبر الماضي؛ حيث كشفت هذه الأحداث عن إخفاق الأجهزة الأمنية والشرطية في التعامل مع التهديدات؛ ولذلك صرحت الحكومة السويدية في نهاية شهر سبتمبر الماضي بأنها “ستفسح المجال أمام الجيش لتقديم مساعدة أكبر إلى الشركة في مكافحة الجريمة”، كما أفادت الحكومة بأنها “ستبحث تغيير القانون لتوسيع نطاق الظروف التي يمكن للشرطة فيها طلب مساعدة الجيش”.
3. زيادة الاتهامات بالعنصرية: في إطار مكافحتها الأنشطة الإرهابية، استهدفت الأجهزة الأمنية في تدابيرها المهاجرين واللاجئين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والناشطين، والأقليات المسلمة والملونة (السود) على وجه الخصوص؛ حيث يُنظر إليهم هناك على أنهم أكثر ميلاً نحو التطرف والتشدد وارتكاب الجرائم، كما يتم استهدافهم تعسفياً في بعض الأحيان؛ وذلك تحت مبرر الحفاظ على الأمن القومي؛ فقد كشف قتل الشرطة الفرنسية للشاب “نائل” ذي الأصول الجزائرية، وأعمال الشغب المدمرة التي تلت ذلك في يونيو الماضي، عن التوترات العميقة التي لا تزال قائمة بين قوات الأمن ومجتمعات المهاجرين التي تعيش في البلاد؛ ما ألقى نظرة جديدة على الاتهامات بالعنف المنهجي والعنصرية من قبل رجال الشرطة الفرنسيين وخاصة أن حادث “نائل” لم يكن الأول من نوعه؛ ففي نوفمبر 2020، تظاهر الكثيرون أيضاً ضد عنف الشرطة، بعد المعاملة التي تعرض لها المنتج الموسيقي الأسود “ميشيل زيكلير” على أيدي الشرطة الفرنسية.
هذا وقد وجدت دراسة أجرتها منظمة “المدافعون عن حقوق الإنسان” – وهي منظمة مستقلة لمراقبة حقوق الإنسان في فرنسا – عام 2017، أن الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم سود أو عرب كانوا أكثر عرضةً للإيقاف من قبل الشرطة بنسبة 20 مرة مقارنة بأقرانهم. واتهمت جماعات حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية، الشرطة الفرنسية أيضاً بالتنميط العرقي، وأوصت بإصلاح عميق ومنهجي لمعالجة التمييز. من جانبها، دعت الأمم المتحدة فرنسا إلى معالجة “القضايا العميقة المتعلقة بالعنصرية والتمييز في مجال إنفاذ القانون”.
4. اتهامات بالتعسف في استخدام القوة: بالإضافة إلى سياساتهم العنصرية، أوضح سيباستيان روش خبير الشرطة في جامعة “ساينس بو” في مدينة جرونوبل، أن “الشرطة الفرنسية تعاني من مشكلة مزدوجة تتمثل في التمييز العنصري والتعامل القاسي، مع عدم اعتراف الحكومات السابقة والحالية بأي منهما؛ حيث تتمتع الشرطة الفرنسية بتاريخ طويل من القسوة، خاصة مع الأقليات العرقية”، على حد وصفه. وبوجه عام فإن طريقة تعامل الشرطة الفرنسية مع المشتبه بهم – وخاصة مع الجدل الذي أثارته المادة 435-1 من قانون الأمن الداخلي، التي أقرت في عام 2017، والتي منحت الشرطة سلطة أوسع في التعامل – تسببت في العديد من حالات الوفيات في الأعوام الأخيرة؛ فقد حددت المادة ظروفاً جديدة أكثر تساهلاً تتيح للشرطي استخدام سلاحه. ونتيجة لذلك أصبحت فرنسا تتبوأ المركز الأول بين الدول الأوروبية من حيث عدد ضحايا عنف الشرطة.
5. ممارسة اعتقالات واستجوابات غير مبررة: أحياناً ما تتخذ أوروبا إجراءات صارمة ضد الاحتجاجات المناخية، بل تلجأ بعض البلدان إلى الصلاحيات القانونية التي غالباً ما تستخدم ضد الجريمة المنظمة والجماعات المتطرفة؛ فعلى سبيل المثال، اعتزم أحد المواطنين الألمان لصق بعض اللافتات بأحد شوارع ألمانيا لجذب انتباه الرأي العام إلى قضية تغير المناخ في شهر يونيو الماضي، ولكن انتهى به الأمر في حجز الشرطة له قبل أن يغادر منزله. أما في فرنسا، فقد وصف الوزراء الفرنسيون النشطاء المناخيين بأنهم “إرهابيون بيئيون” واعتقلوا عدة أشخاص خلال هذا النوع من الاحتجاجات، والتي تم تنظيمها في شهر مايو الماضي؛ هذا بجانب اللجوء إلى السلطات القانونية الفرنسية التي غالباً ما تستخدم ضد الجريمة المنظمة والجماعات المتطرفة من أجل التنصت على المكالمات الهاتفية وتعقب هؤلاء النشطاء. من جانبها، قامت المملكة المتحدة بمنح الشرطة صلاحيات واسعة لاعتقال النشطاء البيئيين من أجل قمع الاحتجاجات المناخية التي اندلعت خلال صيف العام الماضي.
وفي حادثة الشاب نائل في فرنسا، دفعت أحداث العنف المتعاقبة في جميع أنحاء فرنسا المسؤولين الفرنسيين إلى إطلاق حملة قمع، تم خلالها حشد أكثر من 40 ألف ضابط شرطة للقيام بدوريات في المدن في جميع أنحاء البلاد، وهي الحملة التي تم على إثرها اعتقال أكثر من 2000 شخص، وفقاً لحسابات شبكة CNN بناء على الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية.
6. تفاقم الأزمات الداخلية في الأجهزة الأمنية: بجانب ممارساتهم العنيفة وغير المبررة، تواجه الأجهزة الأمنية في أوروبا العديد من الأزمات الداخلية، منها تنصل بعض أفرادها من أداء واجباتهم على النحو المطلوب، وهو ما قد ظهر عندما قرر عدد من عناصر شرطة لندن المسلحة، في سبتمبر الماضي، التخلي عن حمل أسلحتهم إثر توجيه اتهام بالقتل إلى شرطي أطلق النار على شاب أسود في عام 2022؛ ما دفع الجيش البريطاني إلى إبداء استعداده ليحل محل شرطة العاصمة. هذا التصعيد دفع وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان إلى تأكيد دعمها عناصر الشرطة، قائلةً بأنه "يجب ألا يخشوا أن يجدوا أنفسهم في قفص الاتهام بسبب تأديتهم واجبهم".
سياق مضطرب
تلاحقت هذه الأزمات السابقة على الأجهزة الأمنية الأوروبية نتيجة مجموعة من العوامل والأسباب، منها:
1. انشغال القيادات السياسية بالأزمات الدولية: إن القيادات السياسية في معظم الدول الأوروبية غارقة في القضايا العالمية الملحة، بدءاً من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى أزمات الشرق الأوسط وأوكرانيا، وهذا يجعل من الصعب معالجة المسائل الأكثر جوهريةً المتعلقة بالنظام الأمني الداخلي في أوروبا، ومن ثم تعمل هذه العوامل الخارجية المتعددة على تفاقم الصعوبات التي تواجه هذا النظام، وهو ما يعمق حدة هذه الأزمات، بل يساعدها على التوسع والانتشار بشكل غير مسبوق؛ وذلك نتيجة غياب الرقابة العليا على أداء ومهام الأجهزة الأمنية، ويقلل من فرص معالجة أزماتها.
2. توفير غطاء رسمي لأنشطة الأجهزة الأمنية: يُرجع الكثير من النشطاء والحقوقيين الأزمات التي تعصف بالأجهزة الأمنية إلى وجود غطاء حمائي من حكوماتهم المحلية لأنشطتهم المثيرة للجدل؛ حيث قد أشار الكثيرون بأصابع الاتهام إلى المادة 435-1 من قانون الأمن الداخلي، التي أقرت في عام 2017 والتي تسمح لرجال الشرطة في فرنسا باستخدام أسلحتهم النارية حتى عندما لا تكون حياتهم أو حياة الآخرين في خطر داهم؛ فبعد الموافقة على مشروع القانون، ارتفع عدد الذين قُتلوا في سياراتهم بعد عدم الالتزام بإيقاف حركة المرور، وكانت غالبية القتلى من السود أو من أصل عربي، أبرزهم الشاب "نائل".
وفي سياق ذي صلة، أشارت مجموعة من النقاد الفرنسين إلى أن مشروع “قانون الأمن الشامل” الجديد، الذي تم التصديق عليه في أبريل 2021، قد حدَّ حرية الصحافة، خاصة المادة 24 منه، التي تهدف إلى حماية عناصر الشرطة من حملات الكراهية ودعوات القتل التي تصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فهي تعد وسيلة لمنع الكشف عن تجاوزات الشرطة.
ولعل من أكثر التطورات المثيرة للقلق في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي هو تيسير الدول لإعلان حالة الطوارئ، بل تمديدها في الكثير من الأحيان؛ وذلك كرد فعل على العمليات الإرهابية أو التهديد بشن اعتداءات عنيفة في المجتمع، حتى أصبحت تدابير الطوارئ مدرجة بشكل دائم ضمن القوانين الجنائية العادية في عدد من البلدان الأوروبية، على الرغم من أنه يفترض بها أن تظل تدابير مؤقتة، وهو ما يظهر أن الأجهزة الأمنية قد تتمتع بمجموعة من الصلاحيات الواسعة التي يرجح ألا يقتصر تطبيقها على الضالعين بارتكاب الأعمال الإرهابية فقط.
3. تعدد التهديدات الأمنية الداخلية: لقد أدى التحول من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، والانفتاح المتسارع لمنطقة أوروبا الشرقية بأكملها، فضلاً عن أنشطة قوى الجريمة المنظمة، إلى الوضع الذي أصبحت فيه جنوب شرق أوروبا من حيث ظهور أنواع مختلفة من التحديات الجديدة، مثل الهجرة غير الشرعية، والإرهاب، والاتجار بالأسلحة والمخدرات، والانتشار الهائل للجريمة المنظمة، وهي التحديات التي تعد جميعها تحديات غير تقليدية حظيت بتوسع وانتشار في بقية الدول الأوروبية نتيجة للحركة الانسيابية المرتفعة التي تتمتع بها هذه الشعوب عبر الحدود الأوروبية. ونتيجة لذلك، شكا قادة الأمن في بلجيكا مراراً من أنه ليس بوسعهم التعامل مع عدد كبير من مواطنيهم المتشددين إسلامياً، وهو ما دفعهم إلى المطالبة بزيادة مخصصاتهم المالية؛ حتى يتسنى لهم مواجهة تلك التحديات وتداعياتها المحتملة.
4. استمرار حالة التكتيم الداخلي: يساهم التستر على الجرائم الحالية التي ترتكبها الأجهزة الأمنية في انتشارها وتعمق أبعادها؛ حيث سبق أن صرحت وزارة الخارجية الفرنسية بأن بلادها وقوات الشرطة التابعة لها تكافح بكل قوة كافة مظاهر العنصرية وجميع أشكال التمييز الأخرى، مبررة استخدام القوة من قبل الشرطة الوطنية بأنه يخضع لمبادئ الضرورة المطلقة، بل يتم تنظيمه ومراقبته بشكل صارم.
ورغم توصية المفوضية الأوروبية ومطالبات داخلية عدة بإجراء دراسة عن مدى وجود عنصرية داخل أجهزة الشرطة الألمانية، فإن وزير الداخلية الألماني الأسبق هورست زيهوفر، قد رفض في مرات عديدة السماح بإجراء هذه الدراسة، وهو ما أثار حينها جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الألمانية، بيد أنه بعد خلاف دام أشهراً طويلة، أعلن زيهوفر في أكتوبر 2020 عن استعداده لمنح التكليف بإجراء دراسة علمية عن العنصرية بالشرطة؛ وذلك بعدما تم الكشف علناً عن مجموعة يمينية متطرفة لأفراد شرطة في عدة ولايات ألمانية، فضلاً عن تواتر شهادات وتقارير تتهم أفراداً في الشرطة الألمانية بالعنصرية.
5. التوظيف الإجرامي للتقنيات التكنولوجية الجديدة: بغض النظر عن تزايد حالات التطرف في أوروبا، فضلاً عن زيادة عدد المستعدين لتنفيذ هجمات إرهابية، فإن استخدام الإرهابيين والمجرمين التقنيات الجديدة، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، للتواصل والتخطيط لهجمات، قد سهل عليهم ممارسة أنشطتهم بشكل أكبر عبر الحدود، وهو ما يعيق بشدة عمل الأجهزة الأمنية لمواجهة ومنع تلك العمليات الإرهابية والإجرامية؛ ففي عام 2021، تعرضت أكثر من 54% من الشركات الفرنسية لهجمات سيبرانية بتقنيات متنوعة، وهو ما يدل على أن المتسللين يجدون باستمرار ثغرات جديدة لخداع الشركات والمنظمات والأفراد لتنفيذ هجماتهم.
خلاصة القول: تواجه الأجهزة الأمنية في العديد من الدول الأوروبية – خاصة ذات النظم السياسية الديمقراطية – العديد من الأزمات والتحديات التي تجعلها عاجزة في بعض الأحيان عن أداء مهامها بكفاءة، فضلاً عن تسببها في إحراج أنظمتها دولياً نتيجة لممارساتها وتعسفها الشديد في استخدام القوة. ومع ذلك، يمكن القول في الوقت ذاته إن تلك الأجهزة تواجه بيئة أمنية معقدة ومليئة بالتحديات؛ الأمر الذي قد يجعل من الصعب إيجاد حلول عملية لمواجهة أزماتها، بيد أنها تحتاج إلى مواصلة التكيف والتطور من أجل مواجهة هذه التهديدات، ولا سيما ضرورة وجود نوايا حقيقية لمعالجة تحدياتها الداخلية.