خلال ما يزيد عن ثلاثة أشهر من القتال الدائر بين إسرائيل وحركة حماس وحلفائها في غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، تعرضت الولايات المتحدة لانتقادات حادة من جانب نخب سياسية وإعلامية ومظاهرات شعبية سواء في الداخل أو في معظم دول العالم، بسبب موقفها الداعم لإسرائيل رغم سقوط عشرات الآلاف من الضحايا في الغارات المستمرة للطائرات الإسرائيلية على معظم مدن القطاع.
الدعم الأمريكي الكبير لإسرائيل في هذه الحرب سياسياً وعسكرياً، ربما يخفي عمق الخلافات بين البلدين، على الأقل منذ بداية ولاية الرئيس جو بايدن في عام 2021، لأسباب عديدة سوف نحاول إيضاحها باختصار للتركيز على الآثار التي ستخلفها الحرب الدائرة في غزة حالياً على العلاقات بينهما في المدى المنظور.
قبل بداية حرب غزة شهدت العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية خلافات في أربعة ملفات هى:
1- معالجة القضية الفلسطينية: وصلت إدارة بايدن إلى الحكم في مطلع يناير2021 وهي تحمل وعوداً بسحب صفقة القرن التي وضعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمعالجة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والعمل بدلاً من ذلك على إعادة إحياء التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أساس مبدأ حل الدولتين. وحتى ما قبل اندلاع حرب غزة، لم تف إدارة بايدن بوعدها، ولم تقدم مشروعاً بديلاً لصفقة القرن، الذي كان يحتوي بالفعل على عرض بدولة فلسطينية على 70% من مساحة الضفة الغربية المحتلة بالإضافة إلى قطاع غزة، بما كان يعني أن العرض يتضمن دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل، وبالتالي لم يكن هناك اختلاف حقيقي بين ما تطرحه صفقة القرن وبين تمسك إدارة بايدن بحل الدولتين. بل يمكن القول إنه كما كانت صفقة القرن تفتقر للواقعية كونها لا تراعي وجود شبه إجماع في معظم الأحزاب السياسية الإسرائيلية على اختلاف توجهاتها برفض إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة سواء على حدود الرابع من يونيو1967 ، أو على جزء منها (باتفاق الطرفين)، لم تكن لدى إدارة بايدن أيضاً تصورات واضحة عن حدود الدولة الفلسطينية في حل الدولتين المستند إلى اتفاق أوسلو الموقع بين الفلسطينيين وإسرائيل في عام 1993. كما لم يكن لديها القدرة الفعلية على إقناع إسرائيل بقبول هذا الحل في ظل حكم اليمين المتشدد الذي هيمن على إسرائيل منذ مطلع القرن الحالي.
2- الملف النووي الإيراني: شهد هذا الملف توتراً مستمراً في العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية، خاصة في فترة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما (2008-2016)، وإذا كانت إسرائيل لم تنجح في منع الولايات المتحدة من قيادة جهود دولية للوصول إلى الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015، إلا أن الإدارة اللاحقة (إدارة ترامب) استجابت للضغوط الإسرائيلية وانسحبت من الاتفاق في عام 2018، وأعادت فرض العقوبات على إيران، قبل أن تأتي إدارة بايدن الحالية وتبدأ في مفاوضات متعددة الجولات للعودة للاتفاق، وخلالها توصلت طهران وواشنطن لتفاهمات أدت إلى رفع الحظر المفروض على بعض الأموال الإيرانية المجمدة مقابل الإفراج عن عدد من الأمريكيين الذين تحتجزهم ايران في سجونها. وقد أثار هذا الاتفاق من جانب وإصرار إدارة بايدن من جانب آخر على العودة للاتفاق النووي وتطبيع العلاقات مع إيران، خلافات عميقة مع إسرائيل التي حذرت من خطورة تلك التوجهات ليس فقط على أمن إسرائيل، بل على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
3- عودة نتنياهو للحكم في إسرائيل: قام بنيامين نتنياهو فور عودته للحكم في يناير 2023 بتشكيل حكومة من الأحزاب الدينية المتشددة، وُصفت بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، على نحو أعاد التوتر إلى العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية بشكل أكبر على خلفية تقديم حكومة نتننياهو لخطة التعديلات القضائية، والتي أطلقت احتجاجات عارمة في إسرائيل، واعتبرتها إدارة بايدن ضربة شديدة لمشروعها الداعي لإقامة نظام ليبرالي عالمي يستند إلى القيم الغربية وعلى رأسها الديمقراطية، في مواجهة محاولات روسيا والصين لإقامة نظام عالمي بديل يرفض هيمنة القطب الواحد، ويدعو لعدم التدخل في شئون الدول.
وقد اعتبرت إدارة بايدن توجه حكومة نتنياهو في إسرائيل، التي تعد أهم حلفائها في الشرق الأوسط، نحو إجراء تعديلات قضائية تمنح السلطات التنفيذية قوة كبيرة وتخصم من قوة السلطة القضائية، اقتراباً من الدعوات التي تطلقها روسيا والصين ضد النظام الليبرالي العالمي الذي تسعى واشنطن لإحيائه.
4- جهود توسيع الاتفاقات الإبراهيمية: والتي بدأتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ففي حين كانت إدارة بايدن تسعى إلى الضغط على إسرائيل لإبداء المرونة في عودة المفاوضات مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين، مقابل مساعدة واشنطن لها على توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية، كانت حكومة نتنياهو تسعى على العكس من ذلك، إلى تكريس سياسة فصل القضية الفلسطينية عن قضية تطبيع علاقاتها مع بعض الدول العربية.
كيف بلورت حرب غزة الخلافات الأربعة؟
قبل اندلاع حرب غزة المستمرة حتى اليوم بين إسرائيل وحركة حماس، كانت الخلافات الأربعة السابقة بين واشنطن وتل أبيب تبدو منفصلة في النقاشات الدائرة بين الطرفين. وفي حين كانت إسرائيل تحرص على إنكار أي علاقة بينها، كانت الولايات المتحدة تسعى في اتجاه ربط بعضها ببعض. بالنسبة لإسرائيل التي تعتبر إيران النووية بمثابة تهديد وجودي لها، فقد اتّبعت سياسة الضغط على الولايات المتحدة لحل هذا الخلاف أولاً قبل الحديث عن تناول الخلافات الأخرى. وعلى مدى سنوات طويلة قبل الوصول للاتفاق النووي بين ايران والدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، فشلت إسرائيل في دفع الولايات المتحدة لوضع الخيار العسكري ضد إيران كبديل محتمل لفشل محاولات تقييد المشروع النووي الإيراني عبر المفاوضات. وازداد فشل السياسة الإسرائيلية أكثر بتوقيع الاتفاق عام2015 ، والذي رأت فيه إسرائيل اعترافاً من قبل الغرب بحق إيران في امتلاك السلاح النووي مستقبلاً.
بالنسبة للولايات المتحدة، اعتبر الاتفاق النووي مع إيران وسيلة للضغط على إسرائيل للقبول بحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وفق مبدأ حل الدولتين. كما حاولت إدارة بايدن أن تزيد من ترابط عناصر الخلاف الأربع مع إسرائيل بربط التقدم في توسيع الاتفاقات الإبراهيمية بمدى استعداد إسرائيل للسير في حل الدولتين، وتهيئة البيئة السياسية الإقليمية العربية للقبول بتشكيل مظلة أمنية من الدول العربية المعتدلة والحليفة لواشنطن بمشاركة إسرائيل، لمواجهة المخاطر الناتجة عن انتشار الأذرع المسلحة لإيران في المنطقة، والتي تشكل خطراً إيرانياً مشتركاً ضد هذه الدول جميعاً.
وعلى الرغم من أن إدارة بايدن كانت قد مارست بعض الضغوط على حكومة نتنياهو قبل اندلاع الحرب لإيقاف خطة التعديلات القضائية التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية، على اعتبار أن هذه الخطة ولو بطريق غير مباشر ستؤثر على سعى الولايات المتحدة لتعزيز قوة النظام الدولي الليبرالي في مواجهة بدائله التي تطرحها روسيا والصين، والتي تهدد ريادة الولايات المتحدة عالمياً، وتؤثر على مصالحها الاستراتيجية خاصة في منطقة الشرق الأوسط….على الرغم من ذلك، أتت حرب غزة لتقضي على خطة التعديلات القضائية المثيرة للجدل والتي كانت جزءاً من الخلافات العديدة بين واشنطن وتل أبيب، من دون أن تحتاج الولايات المتحدة لمناقشة هذا الملف مع إسرائيل، بعد أن حسمت المحكمة العليا في إسرائيل الأمر في يناير الجاري بإبطالها أحد أهم بنود هذه التعديلات (بند المعقولية) الذي كان البند الأكثر إثارة لاعتراضات الولايات المتحدة وبعض من القوى السياسية في إسرائيل.
بصورة أكثر وضوحاً، يمكن القول إن حرب غزة منحت الفرصة للولايات المتحدة لوضع الخلافات الأربع مع إسرائيل: حل الدولتين، تحجيم الخطر الإيراني، توسيع الاتفاقات الإبراهيمية، إبعاد المتطرفين الذين يقفون خلف خطة التعديلات القضائية المثيرة للجدل في إسرائيل والولايات المتحدة عن الائتلاف الحاكم في إسرائيل، في إطار معادلة واحدة بحيث يمكن لإدارة بايدن تحقيقها بجعل دعمها لإسرائيل في مواجهة إيران وأذرعها في المنطقة مرهوناً بتغيير تشكيل الائتلاف الحاكم في إسرائيل الذي تغلب عليه أحزاب ترفض حل الدولتين، تمهيداً لفتح الطريق عبر المفاوضات لتطبيق هذا الحل، وربط توسيع الاتفاقات الإبراهيمية بقبول إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية إلى جوارها.
على العكس من ذلك، فإن إسرائيل، التي حاولت تفكيك الروابط بين الخلافات الأربع مع واشنطن، أتت حرب غزة لتضعها في موقف صعب، فهي تحتاج للدعم الأمريكي لها سياسياً (منع صدور قرارات دولية تدينها في مجلس الأمن) وعسكرياً (استمرار تدفق السلاح للجيش الإسرائيلي، وردع محاولات إيران لتوسيع جبهات الحرب ضدها)، ولابد أن تدفع ثمناً سياسياً لهذا الدعم.
رهانات نهاية الحرب في غزة
رغبة إسرائيل في الاستمرار في سياسة فصل الخلافات الأربع الثابتة بينها وبين الولايات المتحدة عن بعضها البعض وتناول كل منها على حدة، ستعتمد على مدى قدرتها على حسم الحرب في غزة في وقت قريب. إذ يدرك نتنياهو أن الضغوط الأمريكية عليه، وضغوط الداخل الإسرائيلي تتزايد كلما استمر عجز الجيش الإسرائيلي عن حسم الحرب هناك. صحيح أن الولايات المتحدة ما تزال ترفض تحديد سقف زمني للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ولكن إدارة بايدن تحت ضغوط من الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي تريد تخفيف الآثار التي خلفتها حرب غزة على صورة الولايات المتحدة في الخارج، كدولة تدعم قتل الأبرياء بالغارات والحصار الذي تمارسه إسرائيل في القطاع منذ بدء الحرب.
من هنا، تخشى إسرائيل من أن تتحرك الولايات المتحدة أبعد من مجرد الطلب منها بتخفيف غاراتها على القطاع، والسماح لسكان شمال غزة بالعودة إلى ديارهم، على غرار تمرير قرار دولي في مجلس الأمن بإيقاف الحرب.
ورغم أنه من غير المتوقع أن تعمل الولايات المتحدة على استصدار قرار دولي من بند واحد ينص على الوقف الفوري للقتال في غزة، بل ستحاول ربطه بتشكيل لجنة دولية لنزع سلاح غزة، فإن نجاح تمرير مثل هذا القرار يبقى ضعيفاً، إذ لن تقبل حماس بالتخلي عن سلاحها، ولن تقبل إسرائيل بوقف إطلاق النار والانسحاب من المناطق التي احتلتها في غزة قبل أن تتأكد من أن القطاع لم يعد يشكل مصدر تهديد لأمنها، وقد ترفض روسيا والصين قراراً من هذا النوع أيضاً.
وفي إطار سياسة الولايات المتحدة الحريصة على أن تمسك بمفاتيح حل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي بيدها، بعيداً عن التدخلات الدولية، كنوع من تأكيد هيمنتها وانفرادها بإدارة الأزمات الدولية وفقاً لمصالحها الاستراتيجية، فإن حل الدولتين ينبغي أن يمر عبر الرعاية والوساطة الأمريكية وحدها.
وعلى أى حال، ما يزال من المستبعد أن تنجح واشنطن في إقناع إسرائيل بوقف الحرب أو تحويلها إلى عمليات نوعية واستخبارية، في ظل رفض الرأي العام الإسرائيلي نفسه لإيقاف الحرب (وفقاً لاستطلاعات الرأي هناك) قبل تحقيق أهدافها وعلى رأسها القضاء على حركة حماس، وهو وضع لا يستطيع فيه نتنياهو كرئيس للحكومة الحالية، أو أي بديل محتمل له في حالة رحيله عن السلطة الوقوف ضد إرادة الرأي العام، على نحو يسمح باستمرار صراع الرؤى بين واشنطن وتل أبيب حول مدى ترابط أو انفصال ملفات الخلافات بينهما.