• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
تقدير موقف

هل ينجح الرئيس شي في السيطرة على أزمات الصين الاقتصادية؟


شهدت الصين خلال الفترة من 4 إلى 11 مارس 2024، انعقاد الاجتماع السنوي للهيئة التشريعية الرئيسية الصينية (البرلمان)، والذي يُطلق عليه "الدورتين السنويتين"، وقد سيطرت القضايا الاقتصادية على مناقشات الدورتين؛ إذ عُرض "تقرير عمل الحكومة"، والذي ركز على تحفيز الاقتصاد الصيني في مواجهة تباطؤ وتيرة نموه، بما يؤدي إلى تجاوز المشكلات العديدة التي يُعاني منها، والتي لا تقتصر تأثيراتها في الداخل الصيني فحسب، وإنما تمتد أيضاً لتشمل العالم بأسره. وهو ما يزيد من الضغوط التي تواجهها القيادة الصينية للتعامل مع تلك الأزمات.

أبرز مشكلات الاقتصاد الصيني:

يواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم في الوقت الراهن، مجموعة من المشكلات والتحديات الهيكلية العميقة، التي ترتب عليها تعثر التعافي الاقتصادي في مرحلة ما بعد "كوفيد19"؛ إذ سجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 5.2%، وهو أقل معدل نمو منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. أزمة قطاع العقارات: يمثل القطاع العقاري والصناعات المرتبطة به نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي للصين. ويشهد هذا القطاع أزمة غير مسبوقة في ظل أزمة الديون الطائلة التي تعاني منها شركات التطوير العقاري، والتي ترتب عليها انهيار شركة العقارات العملاقة "إيفرغراند" وخضوعها للتصفية، كما تواجه شركة "كانتري غاردن" التماساً بالتصفية. وقد أدت الأزمة إلى تراجع وتيرة بناء المساكن الجديدة، وتراجع إقبال الصينيين على شرائها.

فقد توقع صندوق النقد الدولي، انخفاض الطلب على المساكن الجديدة في الصين بنحو 50% خلال العقد المقبل، وهو ما يصعب من مسألة استيعاب المخزون الفائض، ما يطيل فترة التكيف على المدى المتوسط ويؤثر في النمو.

2. الأزمة الديمغرافية: أظهر بيان لمكتب الإحصاء الصيني، في 17 يناير 2014، حدوث انخفاض في عدد سكان الصين خلال عام 2023، بمقدار 2.08 مليون نسمة مقارنة بعام 2022، والذي شهد انكماشاً في عدد سكان الصين لأول مرة منذ ستة عقود. كما استمرت أعداد المواليد في التراجع؛ إذ تم تسجيل ولادة 9.02 مليون طفل في الصين، مقارنة بنحو 9.56 مليون طفل في عام 2022. وفي نفس الوقت، ارتفع عدد الوفيات من 10.41 مليون إلى 11.1 مليون. وهو ما يعكس المعضلة الديمغرافية التي تواجهها الصين في الوقت الحالي، في ظل التراجع الحاد في أعداد المواليد وتزايد شيخوخة السكان.

ومما يفاقم الأمر، توقع الأمم المتحدة أن يستمر انخفاض سكان الصين ليصل إلى 800 مليون نسمة بنهاية القرن الحالي، مقارنة بـ 1.4 مليار نسمة حالياً. وهو ما سيجعل الاقتصاد الصيني يواجه تحديات مستقبلية؛ من أبرزها انخفاض عدد القوى العاملة، ارتفاع معدل أعمار السكان (الشيخوخة)، وهو ما يفرض ضغوطاً على الحكومة لتوفير الرعاية الاجتماعية.

3. ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب: تمثل أزمة البطالة تحدياً كبيراً للصين، ولاسيما في ظل معاناة سوق العمل من مشكلات هيكلية، والذي يُتوقع أن يشهد انضمام 11.79 مليون خريج جامعي جديد هذا العام. وهو الأمر الذي يؤثر في طموحات الصين الاقتصادية لرفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. وقد سجلت البطالة لدى الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً نسبة قياسية بلغت 21.3% في يونيو 2023، بينما سجلت نسبة البطالة الإجمالية 5.3% في يوليو من ذات العام.

وتتعرض السلطات الصينية لضغوط كبيرة لخلق فرص عمل كافية، لكنها تواجه العديد من التحديات في سبيل ذلك، خاصة مع سعي عدد كبير من خريجي الجامعات إلى الحصول على وظائف إدارية في ظل اقتصاد متباطئ، فضلاً عن مقاومة الشباب الجهود الحكومية التي تستهدف توجيههم إلى الوظائف الحرفية والتقنية.

4. عدم استقرار سوق الأوراق المالية: تواجه سوق الأسهم في الصين أزمة حادة وحالة من عدم الاستقرار، أثارت مخاوف المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء. وهو ما دفع السلطات الصينية إلى إقالة رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية. ويأتي هذا التطور بعد محو ما يقرب من 7 تريليونات دولار من القيمة منذ ذروة السوق في عام 2021.

وتواجه بكين مخاوف متعددة ناجمة عن الأزمة؛ إذ يمتلك أكثر من 200 مليون مواطن صيني أسهماً؛ مما يجعل المسؤولين عرضة للّوم العام عن اضطرابات السوق. كما أدى عدم اليقين إلى انسحاب كبير للمستثمرين الأجانب من الأسواق الصينية، مع مخاوف من احتمال احتجاز الموظفين واتهامهم بارتكاب جرائم مالية.

5. انخفاض التضخم: واصلت أسعار المستهلكين في الصين انخفاضها للشهر الرابع على التوالي لتسجل أكبر هبوط منذ حوالي 15 عاماً في يناير 2024، كما انخفضت أسعار المنتجين أيضاً؛ مما يسلط الضوء على المخاطر الانكماشية المتواصلة التي تواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم لتحقيق تعافٍ قوي. فقد أظهرت بيانات المكتب الوطني للإحصاء، في 8 فبراير 2024، انخفاض مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 0.8% في يناير على أساس سنوي بعد تراجعه 0.3% في ديسمبر 2023. كما ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 0.3% على أساس شهري بعد ارتفاعه 0.1% في ديسمبر 2023. وتواجه الصين تباطؤاً بالتضخم منذ أوائل عام 2023، مما أجبر صناع السياسات على خفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو.

6. انخفاض التجارة الخارجية الصينية: انخفضت تجارة الصين مع شركائها الرئيسيين في عام 2023؛ إذ تراجعت صادراتها السنوية للمرة الأولى منذ سبع سنوات مع انخفاض الطلب على السلع الصينية وسط تباطؤ النمو العالمي.

7. انخفاض الاستثمارات الأجنبية: تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين في عام 2023، إلى أدنى مستوى منذ التسعينيات، فقد بلغ إجمالي التزامات الاستثمار المباشر للصين، نحو 33 مليار دولار في عام 2023، منخفضاً بنسبة 82% عن نظيره في عام 2022.

8. تزايد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة وبعض الشركاء الدوليين: تُعد تلك المشكلة من أبرز التحديات التي تواجهها الصين في السنوات القليلة الماضية. فقد كثفت الولايات المتحدة ضغوطها على الشركات الصينية، عبر إصدار قواعد تهدف إلى تقييد قدرة الصين على الوصول إلى رقائق أشباه الموصلات المتقدمة أو الحصول عليها أو تصنيعها وسط مخاوف من استخدامها لأغراض عسكرية. كما أعلنت واشنطن عن لوائح جديدة تحظر بيع رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين. كما وافق مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً على مشروع قانون لتقييد التعامل مع شركات التكنولوجيا الحيوية الصينية؛ بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي.

وأعربت واشنطن عن مخاوفها بشأن التهديد الذي تمثله شركات صناعة السيارات الكهربائية الصينية بالنسبة لها، وأعلنت عن إطلاق تحقيق فيما إذا كانت واردات السيارات الصينية تشكل مخاطر على الأمن القومي الأمريكي.

وبجانب تفاقم التوترات التجارية بين بكين وواشنطن، فقد تفاقمت أيضاً التوترات التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي؛ إذ أعلنت المفوضية الأوروبية إجراء تحقيق فيما إذا كانت ستفرض تعريفات عقابية لحماية المنتجين الأوروبيين من واردات السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة التي تقول إنها تستفيد من الدعم الحكومي.

وكشفت المفوضية أيضاً عن استراتيجيتها للاستجابة بحزم أكبر للمخاطر التي تؤثر في أمنها الاقتصادي، مع التركيز على الصين بشكل خاص.

كما أعلن الاتحاد الأوروبي فتح تحقيق في فرع مجموعة (CRRC) الصينية العملاقة للسكك الحديدية، للاشتباه بأنها تستخدم الدعم الحكومي للتفوق بشكل غير منصف على الشركات الأوروبية المنافسة. وقد جاء التحقيق في وقت يسعى فيه الاتحاد الأوروبي لتشديد الضوابط على الواردات الصينية. كما كشفت بروكسل عن سلسلة مبادرات لمنع وقوع التكنولوجيا أو البنى التحتية الحساسة في أيدي جهات منافسة اقتصادياً، مثل الصين.

نهج الصين في التعامل مع أزماتها الاقتصادية:

لجأت بكين إلى تبني العديد من السياسات والإجراءات بشأن التعاطي مع الأزمات الاقتصادية المختلفة التي واجهتها وما زالت تواجهها حتى الآن، ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

1. تحديد أهداف الناتج المحلي الإجمالي والمؤشرات الاقتصادية الأخرى: تضمن تقرير عمل الحكومة الصينية أمام الاجتماع السنوي للبرلمان الصيني، الإعلان عن المستهدفات التالية:

تحديد هدف نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 بنسبة 5%.

السعي إلى توفير 12 مليون فرصة عمل جديدة في المناطق الحضرية، والإبقاء على نسبة البطالة في هذه المناطق ضمن حدود 5.5% للعام الحالي.

تحديد نسبة العجز في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% لهذا العام، بانخفاض عن 3.8% في العام الماضي. ومن المتوقع زيادة العجز الحكومي بمقدار 180 مليار يوان عن ميزانية العام 2023.

التخطيط لإصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل بقيمة تريليون يوان (138.9 مليار دولار) هذا العام، لتمويل مشروعات كبرى تتماشى مع الاستراتيجيات الوطنية.

التخطيط لإصدار سندات حكومية محلية خاصة بقيمة 3.9 تريليون يوان في عام 2024، بزيادة قدرها 100 مليار يوان عن العام السابق.

تحديد هدف التضخم الاستهلاكي عند 3%.

التعهد بإزالة القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي في التصنيع.

الاستمرار في تطبيق سياسة مالية استباقية وسياسة نقدية متزنة.

2. إطلاق نموذج تنمية جديد للعقارات: في الوقت الذي أخفقت فيه جهود الحكومة الصينية لإنعاش الطلب على الإسكان، مع استمرار معاناة شركات التطوير العقاري الكبرى من أزمات السيولة، فقد اتجهت إلى التخلي عن تحفيز الشركات المتعثرة، وتركها تواجه مصيرها ليس فقط بالإفلاس، ولكن أيضاً بإمكانية التحقيق معها وفقاً للقانون. وأكد رئيس مجلس الدولة، لي تشيانغ، في "تقرير عمل الحكومة" اعتزام الصين التحرك بشكل أسرع لتعزيز نموذج تنمية جديد للعقارات، والعمل على توسيع نطاق بناء وتوريد المساكن المدعومة من الحكومة، فضلاً عن تحسين الأنظمة الأساسية للإسكان السلعي، لتلبية احتياجات الصينيين من المنازل ومطالبهم للحصول على سكن أفضل.

3. التركيز على الابتكار التكنولوجي: أعلنت الصين عن تبني سياسة صناعية طموحة للعام 2024؛ تركز على الابتكار التكنولوجي والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، في محاولة لبناء نظام صناعي حديث وتعزيز قدراتها التنافسية. فقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال مؤتمر العمل الاقتصادي السنوي في ديسمبر 2023، ضرورة استخدام "الابتكار التكنولوجي لقيادة بناء نظام صناعي حديث"، كما دعا إلى "تطوير الاقتصاد الرقمي وقطاع الذكاء الاصطناعي بقوة".

4. إصلاح سوق الأوراق المالية: اتخذت الحكومة الصينية جملة من الإجراءات لضبط الأسواق وإنعاشها، مثل: ضخ السيولة من خلال خفض نسبة متطلبات الاحتياطي الإلزامي للبنوك والتصدي لعمليات بيع الأسهم على المكشوف، فضلاً عن تعيين مدير متشدد في رئاسة لجنة تنظيم الأوراق المالية.

وتعمل الصين على إجراء إصلاحات طويلة الأجل لإعادة تشكيل ديناميكيات سوق الأسهم في الصين، وذلك من خلال تحويل التركيز من جمع رأس المال إلى الحفاظ على ثروات المستثمرين؛ بهدف إنشاء سوق أكثر "توجهاً نحو المستثمرين"، وهو ما يستلزم عدداً أقل من العروض العامة الأولية والمزيد من السيولة الموجهة نحو التداول الثانوي. كما تتضمن خطة الحكومة أيضاً رفع القيمة السوقية للشركات المملوكة للدولة، وجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين، عبر تقديم مقاييس مثل: العائد على الأسهم، والأرباح المنتظمة، وإعادة شراء الأسهم.

5. استمرار الانفتاح على العالم الخارجي: أكدت الحكومة الصينية الاستمرار في توسيع نطاق الانفتاح العالي المستوى على الخارج، ومضاعفة الجهود لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى الصين، وأهمية العمل على تعزيز البناء المشترك عالي الجودة لمبادرة "الحزام والطريق"، فضلاً عن تعميق التعاون الاقتصادي الثنائي والمتعدد الأطراف والإقليمي، وذلك من خلال تعزيز تنفيذ اتفاقيات التجارة الحرة الفعالة، والتفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الحرة واتفاقيات الاستثمار عالية المستوى مع المزيد من الدول والمناطق.

سيناريوهات متعددة:

في ضوء المستهدفات التي أفصحت عنها الحكومة الصينية مؤخراً، حول النمو الاقتصادي المتوقع خلال العام الجاري، فإن هناك العديد من السيناريوهات التي يمكن طرحها بشأن مدى نجاح الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في إخراج بلاده من الأزمات الاقتصادية المتعددة التي تواجهها في الوقت الراهن، ويمكن توضيحها في الآتي:

السيناريو الأول: النجاح في إخراج الاقتصاد الصيني من أزماته: يذهب هذا السيناريو إلى أن السياسات والخطط التي أعلنت عنها الحكومة الصينية سوف تنجح في تمكين الاقتصاد الصيني من تخطي عثراته المتعددة، وذلك بالرغم من التحديات العديدة التي تواجهه. ومما يعضد إمكانية تحقق هذا السيناريو أن الهدف الذي حددته بكين للنمو الاقتصادي خلال العام الجاري وهو 5%، يُعد هدفاً مدروساً ويمكن تحقيقه. فهذا الهدف يأخذ في اعتباره جميع الاحتياجات والاحتمالات بالنظر إلى الظروف والعوامل المختلفة في الداخل والخارج، كما أنه يعكس عزم السلطات الصينية على العمل بنشاط، ويعزز ثقة السوق وتوقعات المجتمع الصيني. فضلاً عن أنه يستند إلى إمكانات النمو وظروف الاقتصاد الصيني، ويأخذ في الاعتبار الحاجة إلى تعزيز التوظيف، وزيادة دخول السكان، ومنع المخاطر ونزع فتيلها في المجالات الرئيسية.

فضلاً عن نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 5.2% في الربع الرابع من 2023، وتوقع البنك المركزي الصيني تحسن وانتعاش اقتصاد البلاد عام 2024.

هذا بجانب تجاوز نمو الصادرات والواردات الصينية خلال شهري يناير وفبراير 2024 التوقعات، مما يعكس تحسن التجارة العالمية ويعطي إشارة مشجعة لواضعي السياسات بعد التباطؤ الذي طال أمده في قطاع التصنيع وشكل عبئاً على الاقتصاد.

السيناريو الثاني: النجاح المشروط: يشير هذا السيناريو إلى قدرة الاقتصاد الصيني على الخروج من أزماته المتعددة واستدامة التعافي، من خلال تكثيف الدعم النقدي والمالي وتسريع الإصلاحات الهيكلية. مع ربط تحقق ذلك بنجاحه في التعامل مع التحديات والمشكلات الهيكلية العديدة التي تشوب أداءه. فرغم واقعية هدف النمو الاقتصادي للصين لعام 2024، فإن نجاح الصين في النهوض باقتصادها يتطلب ضرورة بذل جهود جديدة لتعميق الإصلاح، وتوسيع الانفتاح العالي المعايير، وتسريع التنمية، وإحداث إصلاحات جذرية في القطاع العقاري، وتعزيز الشفافية لبناء الثقة مع المستثمرين الخارجيين والمحليين، وإحداث نقلة نوعية بشأن تعزيز الاستهلاك المحلي بدلاً من الاعتماد المفرط على الصادرات، وضرورة تبني استراتيجيات تشمل تعزيز الاستقرار القانوني والاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا، وتحسين البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن تعزيز التواصل والتعاون مع المجتمع الدولي، وهو ما ستترتب عليه المساعدة على مواجهة تحدياتها الاقتصادية بفعالية وبناء ثقة قوية مع المستثمرين المحليين والدوليين.

السيناريو الثالث: الفشل في معالجة مشكلات الاقتصاد الصيني: يشير هذا السيناريو إلى فشل الحكومة الصينية في ترجمة المؤشرات والتوقعات التي طرحها القادة الصينيون إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. وذلك بالنظر إلى غياب أي أسس واضحة وشفافة بشأن مؤشرات وتوقعات أداء الاقتصاد الصيني خلال عام 2024، وعدم توافر أية بيانات أو تفسيرات من القادة الصينيين حول كيفية تحقيق هذه المستهدفات، وفشل تعهدات السلطات الصينية على مدى الأشهر الماضية في دعم سوق العقارات المتعثر، وكذلك إجراءات وقف اضطرابات الأسواق المالية، وعدم تضمن التعهدات الرسمية بتقديم دعم جديد؛ لأي إجراءات إنقاذ كبيرة لإنعاش الاقتصاد  المتعثر، في ظل عدم استعداد قادة الصين للجوء إلى خيار تعزيز ثروات الأسر ودخلها، وهو أمر ضروري لإنعاش الاقتصاد. كما أن الأزمة العقارية تجعل نسبة النمو المستهدفة غير ممكنة.

ومن الاعتبارات الأخرى التي تدعم هذا السيناريو أيضاً، التوقعات الاقتصادية المتشائمة بأن 2024 سيكون عاماً أكثر صعوبة بالنسبة للصين من العام الماضي، خاصة فيما يتعلق بتحقيق نسبة النمو المستهدفة. فقد كان النمو الاقتصادي الذي حققته الصين في 2023 منخفضاً نسبياً مقارنة بعام 2022. وبما أن هدف العام الحالي أعلى قليلاً، فإن ذلك يعني أن تحقيق هذا المعدل من النمو سيكون أكثر صعوبة، وقد ينخفض؛ في ضوء ارتفاع معدل الاستهلاك العام الماضي بعد انتهاء قيود "كورونا".

هذا بالإضافة إلى الأداء الاقتصادي الضعيف للمقاطعات الرئيسية في الصين، فقد أخفقت 15 مقاطعة من أصل 31 في تحقيق أهداف نمو عام 2023. وكذلك افتقاد الأرقام والبيانات الصينية الرسمية إلى المصداقية؛ ما يتوقع معه أن يكون هدف النمو بنسبة 5% لعام 2024؛ يرمي إلى "بعث إشارة رمزية إلى أن الاقتصاد الصيني ليس بهذا السوء وأن الحكومة الصينية قادرة على التعامل مع التحديات الاقتصادية".

تأثير السياسات الاقتصادية للنظام:

تطرح سياسات النظام الصيني للتعامل مع الأزمات المتعددة التي يعاني منها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، العديد من التداعيات والانعكاسات على المستويين الداخلي والخارجي، وذلك بالنظر إلى المكانة الاقتصادية المهمة للصين على المسرح العالمي. ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

1- على المستوى الداخلي: تعكس السياسات الاقتصادية للرئيس شي جين بينغ، العديد من الإشكاليات والدلالات المهمة، تتمثل في الآتي:

أ. مسؤولية شي عن نتائج الأزمات الاقتصادية الداخلية، فالكثير من المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الصيني اليوم تُعد نتاجاً لقراراته في السنوات الأخيرة لمعالجة الاختلالات طويلة الأجل في الاقتصاد الصيني. ويعكس هدف النمو المتفائل نسبياً بنسبة 5% إلى جانب الدفعة الجديدة من السندات الخاصة، قلق بكين من أن السماح للاقتصاد بالتدهور بسرعة كبيرة قد يُعرض أهداف شي، على المدى الطويل للخطر.

ب. عدم اليقين بشأن مسار الاقتصاد الصيني على المدى القريب، وهو ما يعكسه تراجع توقعات المنظمات الدولية بشأن النمو المستقبلي للاقتصاد الصيني؛ إذ تتوقع المنظمات الدولية انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين لعام 2024 إلى ما بين 4.5% و4.9% فيما جاءت تقديرات الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية أعلى بما يتراوح ما بين 4.8% إلى 5%.

ويتوقع محللون أن تخفض الصين توقعاتها للنمو السنوي في المستقبل، كما يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ النمو الاقتصادي في الصين 4.6% هذا العام، ثم يتراجع أكثر على المدى المتوسط إلى نحو 3.5% في عام 2028. وهو ما يجعل النظرة المستقبلية للاقتصاد الصيني قاتمة إلى حد كبير.

ج. التداعيات السلبية لعدم التدخل الحكومي في قطاع العقارات، ممثلة في حدوث سلسلة كبيرة من حالات التخلف عن سداد الديون، وقد يصل الأمر إلى الإعلان عن حالات إفلاس في عام 2024.

2- على المستوى الخارجي: ويشمل عدة نقاط منها ما يلي:

أ. التأثير في آفاق النمو الاقتصادي العالمي: وذلك بالنظر إلى أن الصين مسؤولة عن أكثر من ثلث النمو الذي يشهده العالم.

ب. توقع تزايد الاحتكاكات التجارية مع الغرب: وذلك في ضوء زيادة فائض إنتاج المصانع الصينية، وعدم قدرة اقتصادها المحلي على استيعاب هذا الفائض، خاصة السيارات الكهربائية والألواح الشمسية.

ج. التأثير في الوضع في أسواق النفط العالمية: يعتمد سوق النفط بدرجة كبيرة على الطلب الصيني؛ إذ تُعد الصين من أكبر الاقتصادات استيراداً واستهلاكاً للوقود الأحفوري. وبالتالي، فإن نجاح الاقتصاد الصيني في استعادة مسار النمو سوف يؤدي دوراً حاسماً في تحديد مسار أسعار النفط في عام 2024.

د. قيود جديدة: ارتفاع احتمال تعرض الصين لعقوبات غربية أو فرض قيود على التصدير والاستيراد، على خلفية تشدد موقف القادة الصينيين، خلال اجتماعات البرلمان الصيني السنوية، تجاه تايوان.

ه. التأثير سلباً في مبادرة "الحزام والطريق"، في حالة استمرار الأزمات الاقتصادية الداخلية للصين، خاصة وأنها استثمرت خلال العقد الأخير أكثر من تريليون دولار في مشروعات مبادرة "الحزام والطريق" في أكثر من 150 دولة، بالإضافة إلى تأثيرات محتملة في القارة الإفريقية؛ إذ إن انخفاض معدل النمو في الصين بمقدار نقطة مئوية واحدة يمكن أن يؤدي إلى تراجع متوسط النمو في إفريقيا بنحو 0.25 نقطة مئوية في غضون عام واحد، وذلك في ضوء كون بكين أكبر شريك تجاري لبلدان جنوب الصحراء، واستحواذها على 17% من الدين الخارجي للمنطقة.

و. خفض معدلات التضخم في العالم: يتوقع أن يدفع فائض الإنتاج في الاقتصاد الصيني المتباطئ المصدرين الصينيين إلى خفض أسعار الصادرات. كما أن تباطؤ الاقتصاد الصيني يمكن أن يؤثر بشكل كبير في الأسواق الناشئة، وخاصة تلك التي لها علاقات تجارية كبيرة مع بكين.

ز. تأثيرات في الغرب: على الرغم من مساعي الاتحاد الأوروبي إلى تقليل الاعتماد على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإن الغرب سيعاني من تراجع الاقتصاد الصيني؛ إذ سيترتب على المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الصين إلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي، بما في ذلك الولايات المتحدة والغرب. وهو ما يعني أن من مصلحة الغرب مساعدة الصين والتعاون معها لمواجهة مشكلاتها الاقتصادية؛ لأن من مصلحته ضمان استقرار الاقتصاد الصيني.

وفي التقدير، يمكن القول إن الاقتصاد الصيني يعاني من العديد من الأزمات والمشكلات المعقدة في مرحلة ما بعد "كوفيد19"، مثّلت –ولا تزال– تحدياً كبيراً للقيادة الصينية، التي تمتلك تصوراً محدداً بشأن كيفية التعامل مع هذه الأزمات، وطرحت بالفعل الحلول والإجراءات التي ترى أنها كفيلة بإخراج اقتصاد البلاد من المأزق الراهن الذي يواجهه، سواء أكانت حلولاً داخلية أم خارجية؛ سيترتب عليها العديد من الانعكاسات المحلية والدولية، بالنظر إلى المكانة المهمة التي تحظى بها الصين، كثاني أكبر اقتصاد في العالم. ويظل نجاح الرئيس الصيني شي جين بينغ، في السيطرة على أزمات بلاده الاقتصادية مرهوناً بمدى قدرته على التطبيق الفعلي للسياسات والخطوات التي طرحتها الحكومة الصينية خلال الدورة السنوية الأخيرة للبرلمان، وتحويل تعهداته ووعوده بشأن تحفيز الاقتصاد الصيني وإعادته إلى مسار النمو الذهبي في العقود السابقة مرة أخرى إلى أفعال ونتائج ملموسة على أرض الواقع.