• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
قراءات

على الرغم من ارتفاع أسهم حزب العمال بين المواطنين، واحتمالات فوزه بالانتخابات البريطانية العامة المقبلة وفق استطلاعات الرأي، فإن الحزب يعاني داخلياً؛ فقد وصل إجمالي عدد الأعضاء المنفصلين عن الحزب منذ فبراير 2024 حتى الآن – أي خلال شهرين فقط – إلى 23 ألف عضو. وفي 2 أبريل 2023، استقال 20 عضواً من أعضاء مجالس البلديات في لانكشير من حزب العمال، وهي ثاني أكبر حملة استقالات جماعية في ظل رئاسة كير ستارمر بعد استقالة 11 عضواً احتجاجاً على قرار ستارمر بعدم مساندة قرار وقف إطلاق النار في غزة في نوفمبر 2023، وهو ما يطرح تساؤلات حول أسباب الاستقالات الجماعية، وتداعياتها المحتملة على الحزب.

انقسام حاد

ترتبط موجة الاستقالات الأخيرة داخل حزب العمال بعدد من العوامل الرئيسية تتمثل فيما يلي:

1انعكاسات الحرب على غزة: فقد سبق أن استقال 11 عضواً احتجاجاً على قرار ستارمر بعدم مساندة قرار وقف إطلاق النار في البرلمان في نوفمبر 2023؛ لما يمثله هذا الموقف من عدم اتساق بين قيم الحزب وقيم أعضائه، كما تم آنذاك وقف بعض الأعضاء منهم، مثل محمد إقبال الذي تم وقفه لمدة 18 شهراً على خلفية التفوه بتعليقات معادية للسامية خلال اجتماع الحزب، وهو ما أنكره لاحقاً واستقال ضمن العشرين عضواً مؤخراً.

كذلك قام الحزب بسحب دعمه لأزهر علي في الانتخابات المحلية بعد التصريحات التي أدلى بها حول العملية العسكرية التي قامت بها حماس في 7 أكتوبر 2023 والتي أكد فيها أن "إسرائيل سمحت بالعملية العسكرية لتكون ذريعة لها للقضاء على قطاع غزة وفعل ما يحلو لها". علاوة على ذلك، فإن من بين الأعضاء المستقيلين محمد عامر، وروبي أنور، وزعفر علي وثلاثتهم كانوا من بين 250 عضواً هم مجموعة المسلمين داخل حزب العمال الذين طالبوا الحزب بدعم قرار وقف الحرب على غزة بعد مرور ثلاثة أسابيع على بدايتها.

جدير بالذكر أن ستارمر اضطر إلى تغيير موقفه من الحرب على غزة في خطابه أثناء مؤتمر حزب العمال في جلاسكو في 19 فبراير 2024، بعد أن صوت أعضاء المؤتمر بالإجماع قبل يوم واحد من خطابه على ضرورة وقف إطلاق النار وقفاً نهائياً لا مجرد هدنة إنسانية، كما ذكر بات ماكفادين منسق الحملة الوطنية لحزب العمال أن الحزب قد تقدم بثلاثة طلبات وهي إطلاق سراح المحتجزين، ووقف إطلاق النار وقفاً نهائياً، وضمان مستقبل أفضل للفلسطينيين. وقد وصل إجمالي عدد المستشارين المستقيلين إلى 70 منذ بداية حرب غزة، وهو ما أسفر عن فقدان حزب العمال السيطرة على مقاطعات أوكسفورد، وبرونلي، وهاستنجز، ونورويتش.

2رفض كير ستارمر الاستقالة واستمراره في قيادة الحزب: لم تقتصر تداعيات الحرب على غزة على ظهور الاختلافات الداخلية بين الأعضاء المسلمين وقيادة الحزب، بل امتدت آنذاك إلى مطالبة رئيسي مجلسي بلديتي بيرنلي وبيندل بلانكشير، كير ستارمر بالتنحي عن قيادة الحزب وتركها لمن هو أكثر تعاطفاً وقدرة على رفض الظلم بشكل علني، وهو ما لم يحدث.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن رئيسي مجلسي بلديتي بيرنلي وبيندل من ضمن العشرين عضواً المستقيلين حديثاً؛ أي بعد خمسة أشهر من مطالبات وقف إطلاق النار في غزة واستقالة ستارمر في نوفمبر 2023. إن ظهور كير ستارمر قائداً لحزب العمال اقترن بتغيير نمط القيادة؛ فوفق ما ذكره دارين جونز وزير الظل الأول للمالية، فإن مقارنة ارتفاع حجم عضوية الحزب في عهد جيرمي كوربين بحالات الانفصال وانخفاض العضوية في عهد كير ستارمر مردها اختلاف نمط القيادة؛ ففي الوقت الذي تبنى فيه كوربين سياسة تقوم على المهادنة ورد الفعل واسترضاء بعض الفئات وأصبح الحزب في ظله هو "حزب احتجاج" يتبنى موقفاً مناوئاً لما تتبناه الحكومة بالضرورة؛ يتبنى ستارمر سياسات ومواقف أكثر حسماً. ولا يعني ذلك بالضرورة التمسك بمعارضة الحكومة، وصعوبة إرضاء جميع الأطراف أو الفئات في وقت واحد؛ حيث تتطلب إدارة الدولة قدراً من الواقعية والاختيار بين المواقف.

3تراجع الديمقراطية الداخلية في الحزب: حيث فسر أعضاء الحزب أسباب استقالاتهم بأن هناك اتجاهاً من جانب بعض المسؤولين الحزبيين للسيطرة على ما يقوله كل عضو، وفرض رأيهم على المستوى المحلي؛ بدايةً من إصدار الحزب قراراً لأفرعه المحلية بحظر مناقشة الحرب على غزة وتوجيه الممثلين المنتخبين بضرورة عدم المشاركة في التظاهرات المؤيدة لفلسطين؛ وذلك وفق ما ورد في خطاب الاستقالة الجماعية لأعضاء بلديات أوكسفورد.

بالإضافة إلى ذلك، احتج المستقيلون على عدم عدالة عملية اختيار المرشحين للانتخابات المحلية؛ حيث ذكر أسجد محمود رئيس مجلس بيندل أن الحزب يستخدم "تكتيكات بلطجة لقمع حرية التعبير عن الرأي"، وأن الحزب "يستهدف أعضاء المجالس المحلية لمنع بعضهم من الترشح لإعادة انتخابهم". بعبارة أخرى، فقد استخدم الحزب الانتخابات الفرعية كعصا لعقاب كل من اختلف مع دعم ستارمر المطلق لإسرائيل على موقفه.

تداعيات جوهرية

تنطوي موجة الاستقالات داخل الحزب على عدد من التداعيات المتمثلة فيما يلي:

1خسارة حزب العمال نفوذه السياسي في لانكشير: فبعد أن كانت لانكشير مقاطعة عمالية بامتياز، ونتيجةً للاستقالة الجماعية لأعضاء مجالس بلدياتها، فسوف يتم إعادة انتخاب أربعة من العشرين عضواً المنفصلين عن الحزب بصفتهم مستقلين، في حين ظهر تحالف انتخابي بين بعض الأعضاء الذين استقالوا وبين الحزب الديمقراطي الليبرالي لمنع حزب العمال من الفوز في مجالسهم المحلية. ومن ثم، فإن لانكشير هي المقاطعة الثانية التي يخسرها حزب العمال، بعد خسارته روتشدال لصالح جورج جالاوي بعد سحب الحزب دعمه لأزهر علي كمرشح للحزب؛ لتبنيه سردية "المؤامرة الإسرائيلية" في تفسيره لمجريات الحرب على غزة.

2التأثير المحتمل على نتيجة الانتخابات العامة: صحيح أن حزب العمال قد خسر مقاطعة لانكشير، إلا أنها تظل مقاطعة واحدة، ولا زالت استطلاعات الرأي تشير إلى ارتفاع مستويات الدعم الشعبي له واحتمالات فوزه بالانتخابات، إلا أن المشكلة الأساسية لا تكمن في انتماء الأعضاء المنفصلين الجغرافي بقدر ما تكمن في انتمائهم العقائدي والقيمي.

وبصورة أوضح، فإن غالبية الأعضاء المنفصلين مؤخراً مسلمو الديانة، وربما تكون استقالاتهم كاشفة عن تراجع دعم المسلمين لحزب العمال على خلفية الموقف من الحرب على غزة ودعم رئيسه المطلق لإسرائيل. وبمراجعة نتائج الانتخابات العامة في 2019 يتضح أن حزب العمال قد فاز في 20 مقاطعة تضم 30% من إجمالي المسلمين المقيمين في بريطانيا، وأن المسلمين في لانكشير يمثلون 6.9% (أي 103 آلاف و155) من نسبة سكانها، في حين يمثلون 24.2% من تركيبة سكان روتشدال (53 ألفاً و705 ناخبين مسلمين).

وعليه، فإن حزب العمال قد خسر مقاطعتين تمثلان 10% من إجمالي المقاطعات الانتخابية التي اعتاد السيطرة عليها، ومعهما نسبة ليست كبيرة من أصوات الناخبين المسلمين؛ وذلك إذا ما قورنت هاتان المقاطعتان ببرمنجهام هودج هيل التي يعد 62% (أي 75 ألفاً و440) من سكانها مسلمين، وبرادفورد ويست التي يمثل فيها الناخبون المسلمون 59% (326 ألفاً و34) من السكان، تليهما إيلفورد ويست بنسبة 44% (38 ألفاً و16) من السكان، وليستر ثاوس التي يمثل فيها الناخبون المسلمون نسبة 32% (أي 117 ألفاً و952) من سكانها؛ أي إن إجمالي عدد الناخبين المسلمين في أكبر أربعة مقاطعات عمالية يتجاوز المليون نسمة؛ فماذا إذا أضيف إليهم بقية الثماني عشرة مقاطعة؟

صحيح أن خسارة المقاطعتين في حد ذاتها قد لا تؤثر على نتيجة الانتخابات بالنسبة إلى حزب العمال، إلا أن توقيت الاستقالة الجماعية من شأنه أن يجدد الجدل حول موقف حزب العمال من الحرب على غزة واتساق ذلك مع قيم الحزب، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة أصوات الناخبين المسلمين، وسيؤثر حتماً على نتيجة الانتخابات، لا سيما أن سبعة من أعضاء البلديات في ليستر قد نشروا خطاباً "ينأون فيه بأنفسهم عن دعم كير ستارمر لإسرائيل"، وهي المقاطعة التي خشي وزير خارجية الظل ديفيد لامي أن يفقدها حزب العمال بعد أن كانت مقاطعته لمدة 16 سنة. ويكفي الاستدلال بما توصلت إليه دراسة الانتخابات البريطانية عام 2019 عن قوة العلاقة الارتباطية بين الانتماء الديني والتفضيلات الحزبية (ومن ثم السلوك التصويتي للجماعات الدينية المختلفة)؛ حيث وجدت أن المسلمين كانوا أكثر الديانات دعماً لحزب العمال على الإطلاق في انتخابات 2019 بنسبة 80%.

علاوة على ذلك، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى تغير موقف البريطانيين من الحرب على غزة منذ بدء الحرب، وأن الغالبية الآن تدعم وقف إطلاق النار، لاسيما فئة الشباب التي باتت أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، والتي تمثل قوة تصويتية تدعم حزب العمال. وعليه، فإن توقيت الاستقالة قد يجدد تعاطف الشباب – وإن كانوا من غير المسلمين – ويدفعهم للعزوف عن الانتخابات أو إبطال أصواتهم أو التصويت العقابي لصالح حزب المحافظين (وإن كان ذلك الأقل احتمالاً)؛ وهذا أيضاً قد يؤثر على نتيجة الانتخابات العامة.

3استمرار مراهنة الحزب على تبرعات الرعاة لتأكيد استقراره: يعتمد حزب العمال على ثلاثة مصادر للتمويل؛ هي: اشتراكات الأعضاء، وتبرعات الرعاة والداعمين، وأخيراً الدعم المالي الذي تقدمه اتحادات العمال. ولأن المصدر الأكبر هي تبرعات الرعاة، فليس من المتوقع أن يؤثر تراجع حجم العضوية أو استقالات الأعضاء المنتخبين على استقرار الحزب المالي، لا سيما أن فرص الحزب في الفوز في ارتفاع، وهو ما يدفع الرعاة إلى الاستثمار في الحزب رغم ذلك.

4تزايد تركيز الحزب على وحدة الموقف والخطاب: في مقابل "سلطوية التوجه" داخل حزب العمال وعدم قبول الاختلاف في الآراء التي دفعت الأعضاء العشرين إلى الاستقالة، فإن البعض يرى أن الحزب له الحق في توحيد صفوفه ومواقفه، وتصدير خطاب سياسي واحد للناخبين قبيل الانتخابات المحلية في مايو التي يسابق فيها ما يزيد عن ألفين مرشح من حزب العمال خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وهو التوجه الذي سيركز عليه الحزب الفترة القادمة.

والخلاصة أن الاستقالات الجماعية التي حدثت خلال الأشهر القليلة الماضية أفقدت حزب العمال سيطرته على مقاطعات انتخابية طالما عُرفت بانتمائها العمالي، إلا أنه من غير المحتمل أن يؤثر ذلك على فرص الحزب في الفوز بالانتخابات ما لم يعزف جمهور الناخبين المسلمين والشباب المتعاطفين عن التصويت للحزب.