• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
قراءات

صناعة الرأي العام الأمريكي تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية


شهد الرأى العام الأمريكى، فى السنوات الأخيرة، تحولات مهمة تجاه القضية الفلسطينية، حيث تراجعت نسب التأييد لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطى بشكل ملحوظ، خاصة فى أوساط الشباب والأقليات العرقية والقوى التقدمية التى تمثل شرائح مهمة داخل الحزب، فيما تزايدت نسب الدعم لإسرائيل داخل الحزب الجمهورى مع تصاعد نفوذ التيار المسيحى الصهيونى داخل الحزب.
 
يمثل هذا التيار قطاعًا عريضًا من أنصار الحزب الجمهورى، كما يمثل نحو ثلث الهيئة الناخبة فى الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح هذا التيار، فى العقود الأخيرة أهم مناصر لإسرائيل ولسياساتها اليمينية المتشددة فى واشنطن.
 
يمكن تقسيم اتجاهات الرأى العام الأمريكى تجاه إسرائيل وفلسطين فى اللحظة الراهنة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: الاتجاه الداعم  لإسرائيل بشكل مطلق أو مشروط، والاتجاه الداعم للقضية الفلسطينية بشكل مطلق أو محدود، وأخيرًا الاتجاه الانعزالى الداعى إلى  تبنى موقف حيادى تجاه الصراع فى فلسطين. أما الاتجاه الداعم لإسرائيل فهو ممثل داخل الحزبين الرئيسيين بشكل قوى، لكن بينما يدعم الجمهوريون السياسات الإسرائيلية التوسعية والمتشددة، يدعم أنصار إسرائيل داخل الحزب الديمقراطى المسار التفاوضى وحل الدولتين، ولو على المستوى الخطابى. أما التوجه الداعم للقضية الفلسطينية، فهو  شبه غائب داخل الدوائر الجمهورية واليمينية المتشددة، لكنه ممثل بشكل متزايد داخل قطاعات صاعدة فى الحزب الديمقراطى، خاصة فى أوساط الشباب والأقليات العرقية والحركات التقدمية. أما التيار الانعزالى الذى يدعو إلى الانسحاب والحياد، فهو ممثل بشكل محدود، ولكن متزايد داخل الحزبين، وأيضًا فى أوساط الناخبين المستقلين.
 
فيما يلى نتناول بالتفصيل أهم تحولات وتوجهات الرأى العام الأمريكى تجاه القضية الفلسطينية، فى السنوات الأخيرة، وأيضًا أهم القوى والمنظمات التى تعمل على صناعة هذا الرأى العام فى المجتمع والنظام السياسى الأمريكى، والحجم النسبى لهذه القوى، فى محاولة لرسم وفهم خريطة توجهات الرأى العام الأمريكى تجاه الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى فى ضوء العدوان الإسرائيلى على غزة عقب أحداث 7 أكتوبر  2023.
 
أولا: تحولات وتوجهات الرأى العام الأمريكى تجاه القضية الفلسطينية
يعد أحد أهم التحولات التى شهدها الرأى العام الأمريكى تجاه إسرائيل وفلسطين، فى السنوات الأخيرة، هو تراجع التوجه الداعم لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطى، خاصة فى أوساط الشباب والأقليات العرقية والحركات التقدمية، حيث تشير استطلاعات الرأى التى أجريت فى السنوات الأخيرة  إلى  اتساع الفجوة داخل الحزب الديمقراطى بين الأجيال الأكبر سنا والأجيال الأصغر سنا تجاه الموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية. وقد أشار استطلاع للرأى - أجرى فى مارس 2021 - إلى أنه لأول مرة تتجاوز نسب الدعم لفلسطين تلك الداعمة لإسرائيل بين أنصار الحزب الديمقراطى بنسبة 49 % لمصلحة فلسطين مقارنة بـ %38 لمصلحة إسرائيل. وقد أدى هذه التطور إلى حدوث حالة انقسام واستقطاب، داخل الحزب الديمقراطي، بين القوى الديمقراطية المحافظة المسيطرة على قيادة الحزب التى يمثلها الرئيس بايدن وإدارته من ناحية، وقطاعات صاعدة داخل الحزب،  وفى مقدمتها الشباب والأقليات العرقية والقوى التقدمية، فى ضوء العدوان الإسرائيلى على غزة عقب السابع من أكتوبر. وتشير العديد من الاستطلاعات إلى أن فرص بايدن فى الفوز فى الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر 2024، أصبحت مهددة بسبب تراجع شعبيته، وفى أوساط قطاعات مهمة من الناخبين الديمقراطيين بسبب موقفه الداعم لحرب الإبادة التى تشنها تل أبيب على غزة.
 
على صعيد آخر، شهد الحزب الجمهورى، فى العقود الأخيرة، تصاعد نفوذ القوى الداعمة لإسرائيل على أرضية عقائدية داخل الحزب، خاصة  فى أوساط التيار المسيحى الإنجيلى الذى يسمى أحيانًا التيار المسيحى - الصهيونى الذى يمثل، وفقا لبعض التقديرات، ثلث الهيئة الناخبة فى الولايات المتحدة، ونحو 40 % من القاعدة الانتخابية للحزب الجمهورى. فى العقود الأخيرة، أصبح التيار المسيحى الإنجيلى أهم فاعل داخل الحزب الجمهورى وأكبر داعم لليمين الإسرائيلى ولسياساته المتشددة داخل واشنطن، وتزايدت أهميته مقارنة بكل القوى الأخرى الداعمة لإسرائيل مما عزز بدوره من تصاعد دور ونفوذ اليمين المتطرف داخل إسرائيل. مع تراجع شعبية إسرائيل داخل الحزب الديمقراطى وتصاعد شعبيتها داخل الحزب الجمهورى، ترسخت وتوسعت الفجوة بين الحزبين الرئيسيين فيما يخص الموقف من تل أبيب وأصبحت القضية الفلسطينية جزءًا أساسيًا من الاستقطاب والصراع السياسى بين اليمين واليسار فى الولايات المتحدة.
 
من ناحية أخرى، شهدت السنوات الأخيرة تصاعد حجم التيارات داخل الحزبين المطالبة بتبنى سياسة خارجية انعزالية وموقف أمريكى محايد تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية. وتوضح استطلاعات الرأى أن نسبة كبيرة من الأمريكيين المستقلين تتجاوز الـ50 % يرون أن الولايات المتحدة يجب أن تتبنى موقفًا محايدًا تجاه الصراع فى فلسطين والصراعات الخارجية بشكل عام.
 
ثانيا: أهم القوى الداعمة لإسرائيل فى الولايات المتحدة
يرتكز الدعم الأمريكى لإسرائيل على نفوذ وتأثير مجموعة من المنظمات والتيارات التى تدعم إسرائيل لأسباب سياسية وأيديولوجية وعقائدية وأمنية. وفيما يلى سوف نركز على أهم هذه القوى والمنظمات التى تعمل على صناعة رأى عام أمريكى داعم لإسرائيل داخل النظام السياسى والمجتمع الأمريكى، وفى مقدمتها: اللوبى الصهيونى والتيار المسيحى - الصهيونى داخل الحزب الجمهورى، والتيار الليبرالى المحافظ داخل الحزب الديمقراطى. ولكل من هذه القوى أسباب مختلفة لدعم تل أبيب وتوجهات مختلفة تجاه سياساتها التوسعية والعدوان الحالى على غزة.  
 
-اللوبى الصهيونى
 
يتشكل فى الولايات المتحدة من عدد من المنظمات المؤثرة التى تتمتع بموارد ضخمة، والتى تعمل على تصعيد أشخاص داعمين لإسرائيل داخل النظام السياسى الأمريكى، وداخل مراكز الأبحاث والمؤسسات الإعلامية الأمريكية، مما أسهم فى خلق بيئة سياسية وثقافية وإعلامية داعمة لإسرائيل فى الولايات المتحدة. وتعد منظمة «أيباك» أو «لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية» أهم هذه المنظمات يليها «رابطة مكافحة التشهير» ومنظمة «Jstreet». لكن فيما تمثل منظمة «أيباك» التيار الأكثر تشددا الداعم لليمين الإسرائيلى، فإن منظمة jstreet تمثل التيار اليهودى الليبرالى الداعم لحل الدولتين. وفيما يلى وصف سريع لهذه المنظمات:
 
لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية «أيباك» هى مجموعة ضغط بارزة تدافع عن السياسات المؤيدة لإسرائيل فى الولايات المتحدة وتشمل أنشطتها الرئيسية الضغط على أعضاء الكونجرس، وتنظيم مؤتمرات سياسية، وتعبئة الدعم الشعبى للتأثير فى السياسة الخارجية الأمريكية لمصلحة إسرائيل. تهدف «أيباك» إلى تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتعزيز التعاون الأمني، وضمان استمرار الدعم الأمريكى لإسرائيل، وتأثيرها فى السياسة الأمريكية كبير، حيث تشكل الأجندات التشريعية، وتؤثر فى الحملات السياسية، وتعزز الدعم الثنائى لإسرائيل.
 
- رابطة مكافحة التشهير (ADL) هى منظمة تعمل على مكافحة معاداة السامية فى الولايات المتحدة، وفى حين أن مهمتها الرئيسية محاربة الكراهية وحماية الحقوق المدنية، فإنها تدافع أيضًا عن المصالح الإسرائيلية من خلال رصد التحيز ضد إسرائيل وتعزيز وجهة نظر مؤيدة لها. تشارك (ADL) فى حملات الدفاع، والتعليم العام، والإجراءات القانونية لمواجهة المعلومات المعادية تجاه إسرائيل. وتعمل مع صانعى السياسات، ووسائل الإعلام، والجمهور لتعزيز الدعم لأمن إسرائيل، كما تسهم فى تحقيق نقاش داعم لإسرائيل فى الولايات المتحدة.
 
- J Street منظمة يهودية ليبرالية تهدف لتعزيز دور الولايات المتحدة فى إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطينى وتحقيق حل الدولتين. تستخدم استراتيجيات تشمل الضغط السياسي، وحملات التوعية، وتنظيم المؤتمرات لبناء الدعم لسياسات السلام. يتجلى تأثيرها فى كسب دعم متزايد من أعضاء الكونجرس والإسهام فى تشكيل الحوار الوطنى حول السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط، وتسعـــــى J Street لتحقيق سلام عادل ودائم مبنى على حل الدولتين، يعزز الأمن والاستقرار فى المنطقة.
 
الجدير بالذكر أن اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة يحظى بتمويل عدد من رجال المال والأعمال اليهود الأثرياء. من بين أبرز المساهمين فى تمويل اللوبى اليهودى فى الولايات المتحدة عائلة «شيلدون أديلسون»، رجل الأعمال الشهير فى مجال الكازينوهات، وهو أحد أبرز المانحين للمنظمات المؤيدة لإسرائيل، بما فى ذلك مساهمات كبيرة فى التحالف اليهودى الجمهورى، و«حاييم صبان»، وهو قطب إعلامى وداعم قوى للحزب الديمقراطي، ويعتبر من كبار الممولين للمجموعات المؤيدة لإسرائيل، مثل «لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية» (AIPAC)، و«بول سينجر» ملياردير صندوق التحوط، وهو متبرع رئيسى للمرشحين الجمهوريين والمنظمات المؤيدة لإسرائيل، بما فى ذلك التحالف اليهودى الجمهورى ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات. 
 
وتستخدم جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل فى الولايات المتحدة عدة استراتيجيات رئيسية لتعزيز مصالح إسرائيل، تشمل:
 
1. الضغط السياسى المباشر، حيث يتواصل اللوبى الصهيونى مباشرة مع المشرعين والمسئولين الحكوميين وصانعى السياسات للدعوة إلى تشريعات وسياسات تدعم إسرائيل، كما يعمل على تمويل الحملات الانتخابية لدعم المرشحين السياسيين والأحزاب المؤيدين لإسرائيل عبر لجان العمل السياسى (PACs). بذلك، يضمن اللوبى انتخاب المرشحين المؤيدين لإسرائيل واستمرار دعمهم لإسرائيل. يعمل اللوبى الصهيونى على جبهتين متوازيتين من أجل الحفاظ على العلاقات مع المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين، بما يضمن بقاء الدعم لإسرائيل قضية عابرة للأحزاب فى الولايات المتحدة.
 
2. التأثير على وسائل الإعلام، حيث يعمل اللوبى مع وسائل الإعلام الرئيسية لضمان تغطية إيجابية لإسرائيل ومواجهة الصور السلبية، ويشمل ذلك نشر المقالات التحريرية، وتنظيم المقابلات، وتوفير المعلقين والخبراء. كما يقوم اللوبى بحملات توعية إعلامية من خلال الإعلانات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والفعاليات العامة، لخلق وعى بشأن مخاوف إسرائيل الأمنية وفوائد العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية.
 
3. التأثير فى مراكز الفكر والمؤسسات البحثية والجامعات، حيث تنتج مراكز الأبحاث المؤيدة لإسرائيل أبحاثًا وأوراق سياسات وتحليلات تشكل الخطابين العام والسياسي. كما تستضيف هذه المؤسسات مؤتمرات وندوات وتنشر تقارير مؤثرة. أيضًا، يقوم اللوبى بالتأثير فى الجامعات من خلال دعم مجموعات الطلاب المؤيدين لإسرائيل والبرامج التعليمية فى الجامعات، ويسعى إلى تنشئة قادة المستقبل الذين يكونون على دراية ودعم لإسرائيل والتأثير الأكاديمى من خلال تمويل الكراسى الأكاديمية، والمشروعات البحثية، والمنح الدراسية، وتعزيز العمل الأكاديمى الذى يدعم صورة إسرائيل ويواجه السرديات المعادية لإسرائيل.
 
4. التواصل مع المجتمع، حيث يحشد اللوبى الدعم الشعبى من خلال التواصل مع المجتمعات المحلية، والمعابد اليهودية، والمنظمات المدنية، كما يقوم اللوبى بتدريب المناصرين للسياسات المؤيدة لإسرائيل على المستويات المحلية والوطنية.
 
5. بناء التحالفات من خلال التواصل مع الجماعات الدينية والأقليات، حيث يسعى اللوبى لبناء تحالفات مع مجموعات دينية وعرقية مختلفة لتوسيع قاعدة الدعم لإسرائيل. ويشمل ذلك الشراكات مع منظمات الصهيونية – المسيحية، والتواصل مع المجتمعات الأمريكية - الأفريقية واللاتينية. 
 
6. الجهود القانونية، مثل مكافحة حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات Boycott Divestment Sanctions (BDS)، حيث  تُستخدم الاستراتيجيات القانونية لمواجهة حركة BDS ضد إسرائيل. ويشمل ذلك الضغط من أجل تشريعات مناهضة لها والتقاضى ضد أنشطتها. 
 
تضمن هذه الاستراتيجيات مجتمعة تعزيز وحماية مصالح إسرائيل بشكل قوى داخل الولايات المتحدة، مما يؤثر فى الرأى العام، والإجراءات التشريعية، وقرارات السياسة الخارجية. 
 
-القوى الداعمة لإسرائيل داخل الحزب الجمهورى
 
فى العقود الأخيرة، وخاصة بعد انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة عام 2008، وسعى الولايات المتحدة تحت رئاسته إلى تقليص دورها فى منطقة الشرق الأوسط، تحول الحزب الجمهورى إلى المناصر الرئيسى للمصالح الإسرائيلية فى واشنطن، ونشأ تحالف أيديولوجى وعقائدى بين القوى اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتانياهو فى إسرائيل من ناحية، والتيار المسيحى  الصهيونى داخل الحزب الجمهورى من ناحية أخرى. ورغم أن مختلف التيارات داخل الحزب الجمهورى تدعم إسرائيل/ ومنها تيار المحافظين الجدد وتيار الوسط إلا أنه فى السنوات الأخيرة، خاصة بعد صعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم عام 2016 أصبح التيار المسيحى الإنجيلى المحافظ الذى يعرف أيضا بالتيار المسيحى الصهيونى الأكثر تأثيرًا داخل الحزب الجمهورى بشكل عام وفيما يخص إسرائيل بشكل خاص. المسيحية - الصهيونية فى الولايات المتحدة هى حركة تدعم عودة اليهود إلى إسرائيل وبسط سيادتها على القدس والضفة الغربية وإعادة بناء هيكل سليمان كمقدمة لتحقيق النبوءة الإنجيلية بعودة المسيح. وتشمل الجهات الفاعلة الرئيسية فى هذا التيار القادة المسيحيين الإنجيليين ومنظمات مثل «مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل» (CUFI). 
 
تهدف المسيحية - الصهيونية إلى مواءمة السياسة الخارجية الأمريكية مع نبوءات الكتاب المقدس بشأن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة ودعم إسرائيل كلاعب رئيسى فى لاهوت نهاية الزمان. تشمل الاستراتيجيات المتبعة الضغط السياسي، وجمع التبرعات للقضايا الإسرائيلية، وتنظيم فعاليات كبيرة لحشد الدعم. وتؤثر هذه الحركة بشكل كبير فى السياسة الأمريكية والرأى العام فيما يتعلق بإسرائيل. وتشكل حركة المسيحية  الصهيونية جزءًا مهمًا من الناخبين فى الولايات المتحدة، حيث تشير التقديرات إلى أن نحو ثلث الناخبين الأمريكيين يعرفون أنفسهم بأنهم مسيحيون إنجيليون. وتكون هذه النسبة أعلى بين أعضاء الحزب الجمهورى، حيث يشكل المسيحيون الإنجيليون نحو 40 % من الناخبين الجمهوريين. 
 
يمارس هذا الدعم الكبير تأثيرًا كبيرًا فى السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فى الدعوة لدعم قوى وثابت لإسرائيل.
 
وتُعدّ منظمة «مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل» (CUFI) واحدة من أكبر وأكثر المنظمات المؤيدة لإسرائيل تأثيرًا فى الولايات المتحدة، حيث تقوم بشكل رئيسى بتعبئة المسيحيين الأمريكيين لدعم إسرائيل. تشمل الأهداف الرئيسية لـ(CUFI) حشد الكنائس والجماعات شبه الكنسية والمنظمات والأفراد المؤيدين لإسرائيل للتحدث والعمل بصوت واحد لدعم تل أبيب، استنادًا إلى التعاليم المسيحية والمبادئ الدينية. لتحقيق هذه الأهداف، تستخدم (CUFI) تكتيكات مختلفة، مثل تعبئة القواعد الشعبية، وتنظيم الندوات التعليمية، واستضافة قمة سنوية فى واشنطن، حيث يقوم الأعضاء بالتنسيق مباشرة مع المشرعين للسياسات المؤيدة لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم (CUFI) الحملات الإعلامية والعلاقات العامة لنشر رسالتها والمبادرات التعليمية لتعزيز فهم ودعم أعمق لإسرائيل بين المسيحيين الأمريكيين.
 
يأتى تمويل (CUFI) بشكل رئيسى من التبرعات الفردية، ورسوم العضوية، والفعاليات لجمع التبرعات، مما يمكّن المنظمة من مواصلة أنشطتها الواسعة. هذا الدعم المالى القوى سمح لـ(CUFI) بممارسة تأثير سياسى كبير فى الولايات المتحدة، مما أسهم فى دعم قوى لإسرائيل داخل الكونجرس. لقد أثرت جهود اللوبى التابعة لـ(CUFI) فى السياسات الرئيسية، مثل المساعدات العسكرية لإسرائيل، والدعم الدبلوماسي، والتدابير التشريعية التى تفضل المصالح الإسرائيلية. من خلال تشكيل الرأى العام وحشد قاعدة كبيرة من المؤيدين المسيحيين، جعلت CUFI المواقف المؤيدة لإسرائيل أكثر انتشارًا، خاصة داخل المجتمع المسيحي، مما عزز الموقف المؤيد لإسرائيل فى السياسة الخارجية الأمريكية.
 
-القوى الداعمة لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطى
 
هناك عدة مجموعات مؤثرة داخل الحزب الديمقراطى تدعم إسرائيل، لكنها تتبنى رؤية مغايرة لتلك التى يتبناها الحزب الجمهورى، حيث ترى معظم هذه المجموعات أن أمن إسرائيل يعتمد على إيجاد حل سلمى للقضية الفلسطينية من خلال احياء المسار التفاوضى وتبنِّى حل الدولتين. لكن فى السنوات الأخيرة، ومع تصاعد نفوذ اليمين المتطرف فى إسرائيل والولايات المتحدة، انصب اهتمام هذه الجماعات على المسار الذى أسسه دونالد ترامب القائم على تجاهل الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية والسعى إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج، وفى مقدمتها السعودية، بهدف توطيد التعاون الاقتصادى والأمنى بين إسرائيل ودول الخليج فى مواجهة الخطر الإيرانى ومحور الممانعة. ويمكن تصنيف الجماعات التى تدعم إسرائيل داخل الحزب الديمقراطى كما يلى:
 
1. الديمقراطيون المحافظون: هذه الفئة تشمل العديد من الأعضاء الكبار والمخضرمين فى الحزب، وتميل إلى دعم إسرائيل بناءً على القيم الديمقراطية المشتركة والمصالح الإستراتيجية. أيضًا، تدعو إلى علاقات قوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل واستمرار الدعم العسكرى والاقتصادى، وتأثيرهم كبير، لأنهم غالبًا ما يشغلون مناصب قيادية رئيسية وعضوية فى اللجان. 
 
2. جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل: تعمل منظمات، مثل «الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل» (DMFI) داخل الحزب لتعزيز السياسات المؤيدة لإسرائيل، وتركز على الحفاظ على الدعم الثنائى لإسرائيل، ومواجهة الجهود لتقييد أو تقليل المساعدات الأمريكية، ومكافحة حركات مثل BDS (المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات). هذه الجماعات تتمتع بتأثير كبير، لأنها تقوم بالتبرع للحملات الانتخابية، والتأييد، والمناصرة السياسية. هذه الجماعات ممولة جيدًا ومنظمة للغاية، وتتمتع بتأثير كبير لما تقوم به من خلال الضغط السياسى والمساهمات المالية، وهدفهم ضمان استمرار الدعم الأمريكى غير المشروط لإسرائيل.
 
3. اليهود الأمريكيون الديمقراطيون: العديد من الناخبين والنشطاء اليهود الأمريكيين داخل الحزب هم من الداعمين الأقوياء لإسرائيل، ويدعون إلى سياسات تضمن أمن إسرائيل، وتعزز مفاوضات السلام، وتدعم إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وتأثيرهم ملحوظ، خاصة فى المناطق ذات الكثافة السكانية اليهودية العالية. 
 
4. المجموعات التقدمية المؤيدة لإسرائيل: تمثلها منظمات مثل «جى ستريت» تدعو إلى حل الدولتين ونهج متوازن تجاه العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية. يدعمون حق إسرائيل فى الوجود والدفاع عن نفسها، مع دفع الجهود الدبلوماسية وانتقاد بعض السياسات الإسرائيلية، ويزيد تأثيرهم بين الديمقراطيين الأصغر سنًا والأكثر تقدمية.
 
تسهم هذه المجموعات مجتمعة فى تبنى موقف مؤيد لإسرائيل بشكل عام داخل الحزب الديمقراطى، رغم وجود تباين متزايد فى الآراء حول كيفية تحقيق السلام والأمن فى الشرق الأوسط.
 
ثالثا: القوى الداعمة للقضية الفلسطينية فى المجتمع الأمريكى
تأسس، فى السنوات الأخيرة، خاصة منذ بداية العدوان الإسرائيلى على غزة عقب هجمات السابع من أكتوبر 2023، تحالف واسع داعم للقضية الفلسطينية داخل وخارج الحزب الديمقراطى، يضم المنظمات الممثلة للجالية العربية والإسلامية - الأمريكية، والمنظمات الممثلة للتيار اليهودى التقدمى الرافض للصهيونية، والقوى التقدمية والحركات الاجتماعية الممثلة لقضايا العدالة العرقية داخل الحزب الديمقراطى. نشطت هذه المجموعات فى الأشهر الأخيرة وقامت بتنظيم عدد كبير من الحملات والفعاليات الاحتجاجية بهدف الضغط على الإدارة الأمريكية من أجل المطالبة بوقف العدوان على غزة، ووقف الدعم العسكرى الأمريكى لإسرائيل، ومقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل. مع تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلى على غزة ووصوله إلى مرحلة الإبادة العرقية، توسع نشاط هذه المجموعات بشكل كبير وامتد إلى عدد كبير من الجامعات الأمريكية، حيث قام الطلاب فى هذه الجامعات بتنظيم فعاليات احتجاجية، وبإقامة مخيمات داخل هذه الجامعات للتضامن مع أهل غزة، كما قام الطلاب بحملات منظمة لمطالبة الجامعات الأمريكية بمقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل، وأصبح هذا التحالف الجديد، الداعم للقضية الفلسطينية، والرافض لاستمرار الدعم العسكرى الأمريكى لإسرائيل، فاعلاً جديدًا فى المجتمع الأمريكى، كما أصبح موقف هذا التحالف من بايدن عنصرًا مهمًا فى تحديد مصيره فى الانتخابات الرئاسية القادمة، وربما تؤدى جهود هذا التحالف إلى إحداث تحولات مهمة فى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية على المدى الطويل.
 
-الجاليات العربية والإسلامية - الأمريكية
 
هناك العديد من الحركات والمنظمات العربية والإسلامية  الأمريكية التى تدافع عن حقوق الفلسطينيين فى الولايات المتحدة. تلعب هذه المجموعات دورًا مهما فى زيادة الوعي، وحشد الدعم والتأثير فى السياسات. من بين المنظمات العربية والإسلامية - الأمريكية الفاعلة المسلمون الأمريكيون من أجل فلسطين (AMP)، ومجلس العلاقات الأمريكية - الإسلامية (CAIR)، والمعهد العربى - الأمريكى (AAI)، وجمعية المسلمين الأمريكيين (MAS)، والحملة الأمريكية من أجل حقوق الفلسطينيين (USCPR)، واللجنة الأمريكية  العربية لمكافحة التمييز (ADC). تساهم هذه المنظمات فى الحركة الأوسع المؤيدة لفلسطين فى الولايات المتحدة من خلال تثقيف الجمهور، والضغط على صناع السياسات، وبناء التحالفات مع حركات العدالة الاجتماعية الأخرى. وقد نشطت هذه الجماعات فى الأشهر الأخيرة فى تنظيم حملات تهدف إلى الضغط على الإدارة الأمريكية لتغيير سياساتها الداعمة لإسرائيل من خلال التهديد بالامتناع عن التصويت لبايدن فى الانتخابات الرئاسية القادمة. وبالرغم من أن العرب والمسلمين الأمريكيين يمثلون نسبة محدودة من الهيئة الناخبة فى الولايات المتحدة إلا أن تمركزهم فى عدد من الولايات المتأرجحة يعطيهم ثقلاً انتخابيًا مهمًا فى هذه الولايات. وقد ساهمت هذه المجموعات فى إنجاح بايدن فى انتخابات 2020، وقد يؤدى امتناعهم عن التصويت له فى انتخابات 2024 إلى إسقاطه فى عدد من هذه الولايات الحيوية، مما قد يؤدى إلى سقوطه فى الانتخابات.
 
-المنظمات اليهودية اليسارية الداعمة للقضية الفلسطينية
 
هناك العديد من المجموعات اليهودية فى الولايات المتحدة التى ترفض الصهيونية، وتدافع عن حقوق الفلسطينيين، وتعمل من أجل حل عادل ومنصف للصراع الإسرائيلى - الفلسطينى. من بين المنظمات اليهودية الرئيسية التى تدافع عن حقوق الفلسطينيين تعد منظمة «الأصوات اليهودية من أجل السلام» المنظمة الأكبر والأكثر تأثيرًا.
 
وتهدف منظمة «الأصوات اليهودية من أجل السلام» (Jewish Voice for Peace) إلى تحقيق سلام عادل ودائم للفلسطينيين والإسرائيليين يستند إلى المساواة وحقوق الإنسان والقانون الدولي. تشمل أنشطتها الدعوة إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، ودعم حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات (BDS)، وتعزيز حقوق الفلسطينيين من خلال التنظيم الشعبى والتوعية العامة والمناصرة السياسية. تؤثر (JVP) فى السياسة الأمريكية من خلال التأثير فى الرأى العام، وبناء التحالفات مع حركات العدالة الاجتماعية الأخرى، والضغط على المشرعين لتبنى سياسات أكثر توازنًا وتركيزًا على حقوق الإنسان تجاه الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى. لعبت (JVP) دورا نشطا فى الأشهر الأخيرة من أجل المطالبة بوقف شامل لإطلاق النار، وبوقف الدعم العسكرى الأمريكى لإسرائيل، وللمطالبة بمقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل، ونظمت العديد من الفاعليات الاحتجاجية فى عدد من المدن الكبرى للتعريف بأهدافها، وللضغط على الإدارة الأمريكية لوقف دعمها للعدوان الإسرائيلى على غزة.
 
بالإضافة إلى (JVP) هناك العديد من المنظمات اليهودية الرافضة للصهيونية والداعمة للحقوق الفلسطينية، منها حركة «إن لم يكن الآن» (If Not Now) التى تهدف إلى إنهاء الدعم اليهودى الأمريكى للاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية ومنظمة جى ستريت (J Street) التى تدافع عن حل الدولتين للصراع الإسرائيلى - الفلسطينى، وتروج لسياسات أمريكية تدعم السلام والأمن للإسرائيليين، ودعم المرشحين المؤيدين للسلام وحركة «تروه» أو النداء الربانى لحقوق الإنسان (T’ruah) التى تعبئ الحاخامات الرافضين للصهيونية والمطالبين بتحرير الأراضى الفلسطينية المحتلة، ودعم الجهود الشعبية لتعزيز العدالة والمساواة للفلسطينيين، وأخيرًا «حركة شركاء من أجل إسرائيل التقدمية» (Partners for Progressive Israel) التى تدعم الجهود الإسرائيلية والفلسطينية لتحقيق السلام والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. وتسهم هذه المنظمات فى الحركة الأوسع من أجل حقوق الفلسطينيين من خلال تقديم منظور يهودى رافض للصهيونية، وتحدى السرديات المؤيدة للاحتلال، والدعوة إلى سياسات تعزز السلام والعدالة وحقوق الإنسان فى الأراضى المحتلة.
 
-القوى التقدمية داخل الحزب الديمقراطى
 
بالإضافة إلى الحركات العربية واليهودية الأمريكية التى لها ارتباط هوياتى مباشر بالصراع فى فلسطين، هناك تيارات أخرى داخل الحزب الديمقراطى تدعم القضية الفلسطينية على أرضية أخلاقية وسياسية. تشمل هذه التيارات قطاعًا مهمًا من الجناح التقدمى داخل الحزب الديمقراطى الذى يشمل أعضاء، مثل «بيرنى ساندرز»، و«ألكساندريا أوكاسيو - كورتيز»، و«رشيدة طليب»، «وإلهان عمر» الذين يدافعون عن الحقوق الفلسطينية ويطالبون بسياسة أمريكية أكثر توازنًا فى الصراع الإسرائيلى  الفلسطينى، ويدعون إلى تقييد المساعدات الأمريكية لإسرائيل. هناك أيضًا مجموعة ديمقراطيى العدالة Justice Democrats، وهى لجنة سياسية تقدمية تدعم المرشحين الذين يدعون إلى العدالة الاجتماعية، بما فى ذلك حقوق الفلسطينيين، و«يزكون ويمولون» المرشحين التقدميين الذين ينتقدون السياسة الأمريكية الحالية تجاه إسرائيل. أخيرًا، الاشتراكيون الديمقراطيون فى أمريكا (DSA) فرغم أنهم ليسوا جزءًا رسميًا من الحزب الديمقراطي، إلا أن العديد من أعضائهم والمرشحين الذين يدعمونهم يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، ويدعمون حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات (BDS) ضد إسرائيل.
 
تؤثر هذه المجموعات فى موقف الحزب الديمقراطى من الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى، لأنها تقوم بالدعوة إلى سياسات تدعم حقوق الفلسطينيين، وتعزز حل الدولتين، وتدعو إلى نهج أمريكى أكثر توازنًا وعدلاً فى المنطقة. وقد شاركت هذه المجموعات فى الأشهر الأخيرة بشكل كبير فى تفعيل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التى تهدف إلى الضغط على إسرائيل للامتثال للقانون الدولى واحترام حقوق الفلسطينيين من خلال مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وسحب الاستثمارات من الشركات المتورطة فى الاحتلال، وفرض العقوبات على إسرائيل. تشمل أنشطة (BDS) تنظيم حملات عالمية، وزيادة الوعى حول نضال الفلسطينيين، وتشجيع المؤسسات والأفراد على المشاركة فى جهود المقاطعة وسحب الاستثمارات. تؤثر الحركة فى السياسة الأمريكية، لأنها تعمل على تعبئة الدعم الشعبى، والتأثير فى الخطاب العام، وإثارة النقاشات حول السياسة الخارجية الأمريكية وتداعياتها على حقوق الإنسان فى إسرائيل وفلسطين.
 
من ناحية أخرى، قامت هذه المنظمات بدعم منظمة «طلاب من أجل العدالة فى فلسطين» (SJP)، وهى منظمة يقودها الطلاب فى عدد كبير من الجامعات الأمريكية تدافع عن حقوق الفلسطينيين، وتضم فى عضويتها طلابًا من مختلف التيارات الداعمة للقضية الفلسطينية، مثل العرب، والمسلمين الأمريكيين، واليهود الرافضين للصهيونية، والقوى التقدمية. تشمل أهدافها الرئيسية إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، ودعم حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات (BDS)، وزيادة الوعى حول نضال الفلسطينيين. تشمل أنشطة SJP تنظيم فعاليات فى الجامعات، وحملات توعوية، واحتجاجات لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان فى فلسطين. تؤثر المنظمة فى السياسة الأمريكية، لأنها المنوطة بتشكيل الخطاب فى الحرم الجامعي، وتعزيز النشاط بين الشباب، والتأثير فى الرأى العام والنقاشات السياسية الأوسع حول الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى.
 
رابعا: القوى الداعية إلى الحياد وإلى سياسة خارجية انعزالية فى الشرق الأوسط
فى المشهد المعقد للسياسة الخارجية الأمريكية، ظهرت مشاعر انعزالية داخل كلا الحزبين السياسيين الرئيسيين. لكن بين الناخبين المستقلين. داخل الحزب الجمهورى يدعو تيار متصاعد إلى نهج انعزالى فى السياسة الخارجية، مؤكدًا ضرورة تقليص التورط الأمريكى فى الصراعات الخارجية، بما فى ذلك الصراع العربى  الإسرائيلى. وهناك مجموعتان بارزتان تمثلان هذا المنظور: الأولى هى تجمع «أمريكا أولاً»، الذى تأسس فى عام 2021 من قبل مجموعة صغيرة من الجمهوريين المحافظين فى مجلس النواب، يروج لأجندة قومية وانعزالية. يدعو هذا التجمع إلى تقليص المساعدات العسكرية والمالية الأمريكية للدول الأجنبية، بما فى ذلك إسرائيل، بحجة أن الولايات المتحدة يجب أن تركز أكثر على القضايا الداخلية والأمن القومي. وعلى الرغم من أن تجمع «أمريكا أولاً» صغير نسبيًا، إلا أنه حظى باهتمام إعلامى كبير ويعكس شعورًا أعمق داخل قاعدة الحزب الجمهورى يشكك فى التورطات الخارجية الواسعة. المجموعة الثانية هى الجناح الليبرتارى أو التحررى داخل الحزب الجمهوري، الذى تمثله شخصيات، مثل السيناتور «راند بول»، وهو يدعو إلى الحد الأدنى من التدخل الحكومى، سواءً داخليًا أو دوليًا. عادة ما يعارض التحرريون المساعدات الأجنبية، بما فى ذلك الدعم المالى والعسكرى الكبير الذى تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، حيث يجادلون بأن التورط الأمريكى فى الشرق الأوسط أدى إلى تشابكات ونزاعات غير ضرورية. يحظى المنظور التحررى بحضور مستمر داخل الحزب الجمهورى، ويؤثر فى النقاشات حول السياسة الخارجية، وغالبًا ما يتحدى مواقف الحزب الأكثر تدخلية.
 
كذلك، توجد تيارات انعزالية داخل الحزب الديمقراطي، خاصة بين جناحه التقدمى، وتدعو مجموعتان رئيسيتان إلى نهج انعزالى أكثر فى السياسة الخارجية الأمريكية، وهما الديمقراطيون العدليون Justice  Democrats الذين يدعمون المرشحين التقدميين الذين يدفعون نحو إصلاحات جوهرية، بما فى ذلك إعادة تقييم السياسة الخارجية الأمريكية، ويدعو هؤلاء إلى إنهاء المساعدات العسكرية غير المشروطة لإسرائيل ويدعمون حقوق الفلسطينيين، مؤكدين على الحلول الدبلوماسية وتقليص التدخلات العسكرية الأمريكية. ومع وجود أعضاء بارزين، مثل «ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز»، و«رشيدة طليب»، يتمتع الديمقراطيون العدليون بتأثير كبير داخل الجناح التقدمى للحزب، ويدفعون نحو سياسات انعزالية أكثر. بالمثل، الديمقراطيون الاشتراكيون فى أمريكا (DSA)، وهى منظمة اشتراكية نما تأثيرها فى السنوات الأخيرة، يعارضون المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل ويدعون إلى توقف الولايات المتحدة عن التدخلات العسكرية فى الشرق الأوسط. 
 
أخيرًا، يمثل الناخبون المستقلون، الذين لا يصطفون بشكل حازم مع أى من الحزبين الرئيسيين، ويعكسون عادةً طيفًا واسعًا من الآراء حول السياسة الخارجية، توجهًا انعزاليًا آخر فى المجال السياسى الأمريكى، حيث غالبًا ما يفضل المستقلون القضايا الداخلية على السياسة الخارجية، ويشككون فى التدخلات الأجنبية الواسعة، ويفضل العديد من الناخبين المستقلين موقفًا محايدًا بشأن قضية إسرائيل وفلسطين، ووفقًا لمسح أجرته مؤسسة «بروكينغز»، يفضل غالبية المستقلين أن تميل الولايات المتحدة نحو عدم الانحياز لأى جانب فى الصراع، ويميل الناخبون المستقلون الأصغر سنًا بشكل خاص إلى التعاطف مع القضية الفلسطينية ويقل دعمهم للمساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل.
 
بشكل عام، تدعو الجماعات الانعزالية داخل الحزبين الجمهورى والديمقراطي، وكذلك بين الناخبين المستقلين، إلى تقليص التورط الأمريكى فى الصراع العربى -الإسرائيلى. فى الحزب الجمهورى، يدفع تجمع «أمريكا أولاً» والجناح التحررى نحو التركيز على المصالح الوطنية على حساب التدخلات الخارجية. أما فى الحزب الديمقراطي، فتدعو الجماعات التقدمية، مثل الديمقراطيين العدليين، والديمقراطيين الاشتراكيين فى أمريكا إلى إنهاء الدعم غير المشروط لإسرائيل وتعزيز حقوق الفلسطينيين. يلعب الناخبون المستقلون، الذين يلعبون دورًا حاسمًا فى تشكيل نتائج الانتخابات، دورًا رئيسيًا فى تشكيل السياسات الحزبية، حيث يدعم العديد منهم موقفًا أكثر حيادية وانعزالية. تعكس هذه الجماعات المختلفة الطبيعة المعقدة والمتطورة للنقاشات حول السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصًا فيما يتعلق بالشرق الأوسط والصراع العربى الإسرائيلى.
 
ختامًا، يتضح مما سبق أنه بالرغم من الدعم الواسع الذى تحظى به إسرائيل من قبل الإدارة الأمريكية وقطاعات واسعة وفاعلة داخل الحزبين الرئيسيين فى عدوانها الحالى على غزة، إلا أن هناك تحولات مهمة تحدث فى النظام السياسى والمجتمع الأمريكى التى قد تؤدى على المديين المتوسط والبعيد إلى تغيير الموقفين الرسمى والشعبى الأمريكى تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية. فقد شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا كبيرًا فى شعبية إسرائيل، وتزايد التعاطف مع القضية الفلسطينية داخل قطاعات صاعدة فى الحزب الديمقراطى، مثل: الشباب، والقوى التقدمية، والأقليات العرقية. حتى داخل الحزب الجمهورى، الذى أصبح الداعم الرئيسى لإسرائيل ولسياساتها التوسعية واليمينية المتطرفة فى الولايات المتحدة، هناك أصوات متزايدة تنادى بفك الاشتباك الأمريكى مع إسرائيل والصراع العربى  الإسرائيلى، وتقليص الدور الأمريكى فى الشرق الأوسط، وإعطاء الأولوية للقضايا الداخلية والمصالح الوطنية. كذلك، فإن قطاعًا مهمًا من الناخبين المستقلين الذين يمثلون شريحة مهمة من الهيئة الناخبة الأمريكية يفضلون سياسة خارجية انعزالية وموقفًا أمريكيًا محايدًا فى الصراع العربى الإسرائيلى.
 
أدت هذه التطورات، فى السنوات الأخيرة، خاصة منذ بداية العدوان الإسرائيلى على غزة، فى أكتوبر 2023، إلى تأسيس تحالف واسع بين العديد من القوى الرافضة للدعم الأمريكى لهذا العدوان، والمطالبة بوقف كامل لإطلاق النار، وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ومقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل. وقد نجح هذا التحالف فى الأشهر الأخيرة فى إحداث تحول نوعى فى الجدل السياسى والمجتمعى الأمريكى حول القضية الفلسطينية. حيث أصبحت السردية الفلسطينية لأول مرة تناطح وتفكك السردية الإسرائيلية التى هيمنت على المجتمع الأمريكى منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. ولأول مرة تصبح مسألة دعم إسرائيل قضية خلافية بين القوى السياسية فى المجتمع الأمريكى، ومن المتوقع ان يكون لهذه التطورات تأثير فى السياسات الخارجية الأمريكية على المدى البعيد، خاصة مع خروج الأجيال الأكبر سنا والأكثر ولاء لإسرائيل من المجال السياسى، وصعود الأجيال الأصغر إلى المواقع القيادية.