أثار تسلم المجر للرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي للأشهر الستة المقبلة (من أول يوليو حتى نهاية ديسمبر 2024) قلق الأوساط الأوروبية لما للمجر من ممارسات سابقة منتظمة لعرقلة القرارات التي تُجمع عليها بقية دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة فيما يتعلق بدعم أوكرانيا. ومن العوامل التي أدت إلى تفاقم هذا القلق هو أن هذا التسلم أتى بالتزامن مع التقدم الذي أحرزته أحزاب اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، الأمر الذي قد يدفع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، المحسوب على هذا التيار، إلى استغلال هذا التقدم من أجل التأثير على السياسات الأوروبية.
البرنامج المجري
يندرج ضمن مهمات الدولة التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي تحديد أولويات معينة ضمن الأجندة الأوروبية، وتنظيم المناقشات بين الدول الأعضاء، والسعي إلى التوصل إلى حلول وسط فيما بينها على التشريعات الخلافية. ومن بين الملامح الأولية التي حاولت المجر إشاعتها حول هذه الرئاسة، نشير إلى التالي:
1- محاولة طمأنة الشركاء الأوروبيين: ترى بعض التحليلات أن الرئاسة المجرية الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي لن تعطي أوربان إمكانية إملاء سياسات أوروبية جديدة أو تعديل القديمة، وهذه ليست المرة الأولى التي تتولى فيها المجر هذه الوظيفة، حيث سبق لها استلام هذا المنصب في النصف الأول من العام 2011. وفي سياق طمأنة الشركاء الأوروبيين اعتبر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في مايو 2024 "أنه بعد تقلدنا هذا المنصب بالفعل في العام 2011، لا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير هذه الرئاسة". وعلاوةً على ذلك، فإنه قبل التسلم حرصت المجر على التخلص من مواقفها المزعجة، حيث رفعت حق النقض عن عدة ملفات، كالحزمة الرابعة عشرة من العقوبات ضد روسيا، وعن تعيين الهولندي مارك روته كأمين عام لحلف شمال الأطلسي، والافتتاح الفعلي للمفاوضات بشأن عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. وبقيت مسألة مساعدة كييف عسكرياً قيد التجاذب، والتي تود بودابست استثمارها من أجل الإفراج عن الأموال المخصصة لها والمجمدة من قبل المفوضية الأوروبية بسبب إخفاق بودابست في الوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بسيادة القانون.
2- التركيز على تقييد الهجرة غير الشرعية: أعلنت المجر اهتمامها بتعزيز الصناعة الأوروبية ومسألة الدفاع ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وإدخال تعديلات على إجراءات اللجوء. وتقترح المجر الذهاب إلى أبعد بكثير من ميثاق الهجرة واللجوء الذي صوّت أعضاء حزب فيدس في البرلمان الأوروبي ضد جميع نصوصه على اعتبار أنه يشجع الهجرة غير الشرعية. ولقد غرمت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي الحكومة المجرية 200 مليون يورو في يونيو 2024 بسبب انتهاكها لسياسة اللجوء الأوروبية. كما أعرب أوربان في عدة مناسبات عن أسفه لانخفاض عدد السكان البيض والمسيحيين في أوروبا والزيادة الكبيرة في عدد المسلمين.
3- طرح معايير لتوسعة عضوية الاتحاد الأوروبي: على الرغم من تردد المجر في قبول دخول أوكرانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، انتهى بها الأمر إلى قبول الافتتاح الرسمي لمفاوضات الانضمام بعد ممارسة ضغوط أوروبية عليها. وترغب المجر في المضيّ قدماً في عملية التوسعة الأوروبية ولكن وفقاً لمعايير تستند إلى الجدارة والتوازن والمصداقية كما تقول. ويعتبر مراقبون أن الصيغة التي تتبناها المجر تهدف بشكل غير مباشر إلى استبعاد الترشيح الأوكراني والانفتاح على صربيا.
وتعتبر بعض القراءات أن الرئاسة الدورية المجرية لن يكون لها تأثير على موضوع انضمام أوكرانيا، لأن الدول السبع والعشرين لن تحتاج إلى اتخاذ قرار بشأن الموضوع في الأشهر الستة المقبلة. هذا وكانت صحيفة Evropeïska Pravda الأوكرانية قد سربت في 27 يونيو 2024 قائمة تضم أحد عشر مطلباࣧ مجرياࣧ من أجل دعم بودابست لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي شملت شكلاࣧ من أشكال الحكم الذاتي لمنطقة أوجهورود (ترانسكارباثيا)، حيث 15% من السكان هم من أصل مجري، كما شملت وجود حصة من النواب من أصل مجري في البرلمان الأوكراني.
4- رفع شعار "لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى": وهو العنوان الذي أعلنت المجر أنه سيكون شعارها طوال فترة الستة أشهر من رئاستها (MEGA: Make Europe Great Again) ويقوم هذا الشعار على تصور مفاده أن الدول الأعضاء أقوى مجتمعة من بعضها بعضاً، كما أنه يرمز إلى أن أوروبا قادرة على أن تصبح لاعباً عالمياً مستقلاً. وبطبيعة الحال تحاول المجر من خلال هذا الشعار التأكيد على دعمها للمشروع الأوروبي، ومواجهة الانتقادات التي تلاحقها بأنها تسعى عبر سياساتها إلى تفكيك الاتحاد.
إشكاليات رئيسية
منذ الأيام الأولى لبدء الرئاسة المجرية، أثار الأداء الإشكالي لفيكتور أوربان امتعاض الأوروبيين وتخوفهم من الاستمرار على الوتيرة نفسها طوال فترة الأشهر الستة المقبلة، ومن بين أهم الانتقادات:
1- انتقاد محاولات "أوربان" الوساطة في الحرب الأوكرانية: قام أوربان بشكل فاجأ فيه جميع شركائه الأوروبيين بجولة خاطفة خلال شهر يوليو 2024 شملت كييف وموسكو وشوشا في أذربيجان وبكين وأخيراً واشنطن للمشاركة في قمة الناتو. واعتبرت زياراته إلى موسكو وأذربيجان وبكين، والتي أدرجها تحت خانة "مهمة سلام"، مؤشراࣧ على عدم الشفافية تجاه شركائه الأوروبيين، لأنه أعد لها بشكل سري ومن دون التشاور معهم. واستنكرت بعض العواصم الأوروبية الدور الذي يقوم به أوربان، معتبرة أنه شكل من أشكال الدبلوماسية الموازية، مشددة على أنه خلال هذه الجولة لم يكن يمثل إلا بلاده فقط. كما تم استنكار دعوة أوربان لأوكرانيا بتطبيق وقف إطلاق النار من أجل إطلاق مفاوضات السلام مع روسيا، لأن هذا الموقف بعيد كل البعد عن الموقف الأوروبي وعن الوساطة المحايدة التي وعدت بها السلطات المجرية.
2- اتهامات لأوربان بتهشيم الوحدة الأوروبية: فقد تباهت أوساط مجرية بجولة أوربان معتبرة أنه في غضون أيام قليلة تمكن أوربان من الالتقاء بجميع القادة المهمين الذين سيقررون مصير أوكرانيا وأوروبا، وبأن أوربان هو القائد الأوروبي الوحيد القادر على التحدث مع جميع الأطراف. كما حظيت هذه الجولة بتأييد ترامب الذي وصف أوربان بصانع السلام. وتعتبر بعض القراءات أن وصول أوربان إلى موسكو سمح لبوتين بالظهور مع زعيم أوروبي، وبالتالي كسر صورة القادة الأوروبيين السبعة والعشرين الموحدين بشأن القضية الأوكرانية، كما أن روسيا استغلت هذه الزيارة للإشارة إلى أن أوربان أتى إلى موسكو كممثل للاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، ذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن سياسة الاسترضاء لن توقف بوتين، وأن الوحدة والتصميم وحدهما هما اللذان سيمهدان الطريق لتحقيق سلام عادل ودائم في أوكرانيا. وتمكنت بكين عبر لقاء أوربان من إظهار أن التدابير الأوروبية بشأن فرض رسوم جمركية على السيارات الكهربائية الصينية لا تحظى بالإجماع بين الدول السبع والعشرين داخل الاتحاد الأوروبي. وسيتعين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تأكيد هذه الرسوم الجمركية بالأغلبية المؤهلة في نوفمبر المقبل. وبحلول ذلك الوقت ستعمل بكين بالتعاون مع المجر من أجل جمع عدد كافٍ من الدول الأوروبية لإسقاط هذا التدبير.
3- اتهامات لبودابست باستغلال المرحلة الانتقالية في المؤسسات الأوروبية: يُفسر البعض إطلاق أوربان لمبادراته غير المتوقعة برغبته في استغلال مرحلة الفراغ النسبي التي تمر بها مؤسسات الاتحاد الأوروبي، كالبرلمان الأوروبي المنتخب حديثاً، والمفوضية التي يُعمل على تركيبها حالياً. ولقد استفاد أوربان من هذه المرحلة الانتقالية لتكثيف تحركاته في الوقت الذي لم يكن بمقدور أحد فيه من المسؤولين الأوروبيين المنتهية ولايتهم التحرك بفاعلية لتمثيل الاتحاد الأوروبي في الخارج. وهو أراد من خلال ذلك الإيحاء بأنه يرأس الاتحاد الأوروبي وليس دولة المجر فقط.
4- توظيف أوربان الرئاسة الأوروبية لترميم صورته داخلياً: لقد ساهمت هذه الظروف في تقديم فرصة لأوربان من أجل إظهار مكانته الدولية الجديدة أمام شعبه، خصوصاࣧ بعد مواجهته معارضة داخلية نشطة بقيادة بيتر ماغيار التي استطاعت الحصول على ما يقرب من 30% من الأصوات في الانتخابات الأوروبية، وذلك للقول بأنه الأوروبي الوحيد الذي التقى مؤخراࣧ بزيلينسكي وبوتين وشي جين بينج، وبأنه في قلب اللعبة الدبلوماسية الدولية على الرغم من أن المجر هي دولة صغيرة.
5- مساعي أوربان لتعزيز نفوذ اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي: فقد ساهم أوربان في يوليو 2024 في إطلاق مجموعة داخل البرلمان الأوروبي تحمل اسم "وطنيون من أجل أوروبا" P4E والتي ضمّت بالإضافة إلى نواب حزبه فيدس (10 مقاعد) نواب حزب التجمع الوطني الفرنسي (30 مقعداً) بالإضافة إلى أحزاب أوروبية أخرى على أن يترأس هذه المجموعة الفرنسي جوردان بارديلا. ويعول أوربان على هذه المجموعة اليمينية المتطرفة الجديدة لدعم تصوراته، بحيث أصبحت تشكل الكتلة الثالثة من حيث الحجم داخل البرلمان الأوروبي بـ84 مقعداࣧ.
6- استمرار التقارب بين الرئيس المجري والرئيس الأمريكي السابق "ترامب": فقي زيارته الأخيرة للولايات المتحدة التقى أوربان بالرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية القادمة "ترامب". كما أن رفع المجر شعار "لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى" يؤشر إلى مدى التقارب بين أوربان والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي دفع بأوربان إلى استنساخ شعار حملته الانتخابية للعام 2016.
ويشترك الزعيمان في معارضتهما لزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، حيث لم يكن ترامب بعيداࣧ عن عملية عرقلة حزمة الـ61 مليار دولار لأوكرانيا في الكونجرس الأمريكي، والتي تم تبنيها مؤخراࣧ في أبريل 2024. كما عمل أوربان منذ العام 2022 على منع منح المساعدات الأوروبية لأوكرانيا ليستخدم ذلك كورقة مساومة من أجل رفع العقوبات المالية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على بلاده. ويعتبر البعض أن فوز ترامب المحتمل في نوفمبر 2024 بالتزامن مع فترة الرئاسة المجرية الدورية هو عامل شديد الأهمية، حيث إن هناك توجهاً لدى القوميين الأوروبيين للاصطفاف خلف ترامب.
الاستجابة الأوروبية
تراوحت ردود الفعل الأوروبية بين إعادة تذكير أوربان بالموقف الأوروبي الموحد وبعدم امتلاكه صلاحية التفاوض باسم الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تدابير أخرى نلخص أبرزها فيما يلي:
1- استنكار القيادات الأوروبية تحركات أوربان: اعتبرت رئيسة الوزراء الإستونية كاجا كالاس أن أوربان يستغل منصب رئاسة الاتحاد الأوروبي لبثّ الارتباك، ولكن مع ذلك سيبقى الاتحاد الأوروبي متحداࣧ خلف أوكرانيا ضد العدوان الروسي. كما أكد المستشار الألماني أولاف شولتز أن موقف الاتحاد الأوروبي واضح للغاية بإدانة الحرب العدوانية الروسية، وتقديم الدعم الكافي لأوكرانيا. كما صرح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل أن مشاركة أوربان في منظمة الدول التركية في أذربيجان جرت حصرياࣧ في إطار العلاقات الثنائية بين المجر وهذه المنظمة.
وقال رئيس المجلس الأوروبي المنتهية ولايته شارل ميشيل، أن الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي ليس لديها تفويض للتعامل مع روسيا نيابة عن الاتحاد الأوروبي، وأن المجلس الأوروبي واضح: روسيا هي المعتدي، وأوكرانيا هي الضحية، وأنه لا يمكن إجراء أي نقاش حول أوكرانيا بدون أوكرانيا. كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مقاطعة الرئاسة المجرية، وأن المفوضية الأوروبية قررت ألّا تسافر إلى بودابست في ضوء التطورات الأخيرة، وأنه لن يتم تمثيل المفوضية في المؤتمرات التي يتم تنظيمها في المجر إلا من خلال موظفين وليس من قبل مفوضين، كما تم إلغاء زيارة هيئة المفوضين إلى المجر وهي زيارة تقليدية مع بداية كل رئاسة دورية، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إعلان مثل هذه المقاطعة ضد الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
2- ممارسة ضغط دبلوماسي أوروبي على بودابست لتفسير سياساتها: تم عقد اجتماع للممثلين الدائمين للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في بروكسل، في 10 يوليو، لمناقشة القضية المجرية. ولقد طلب هؤلاء الممثلون من المجر إيضاحات بشأن مبادرات فيكتور أوربان ودلائل على أنه لم يدعِ تمثيل الاتحاد الأوروبي أمام فلاديمير بوتين. ولقد حاولت المجر إقناع بقية الدول بأن الزيارات كانت ثنائية بحتة، وكانت تهدف فقط إلى تقييم شروط وقف إطلاق النار. وتُشير بعض المصادر إلى أن الرد المجري لم يُقنع سوى السفير السلوفاكي، في حين اعتبر السفراء الخمسة والعشرون الباقون أن هذه الحجج المجرية ليست ذات مصداقية.
3- التباحث في تقصير مدة الرئاسة المجرية للاتحاد الأوروبي: لا تنص المعاهدات الأوروبية على استثناء أي دولة من التناوب في رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي كل ستة أشهر. ولقد حصل هذا الاستثناء مرة واحدة فقط حين لم تتولَّ المملكةُ المتحدة هذه الوظيفة في العام 2017 وكان ذلك بناءً على طلبها بعد التصويت لصالح البريكست. وتدعو بعض الجهات إلى تقصير الرئاسة المجرية وتسليمها مبكراࣧ إلى بولندا قبل 31 ديسمبر كمجموعتي "تجديد أوروبا" والخضر، غير أن أيّ دولة عضو بالاتحاد الأوروبي لم تقم بتقديم مثل هذا الطلب الذي يُعتبر حساساࣧ من الناحية القانونية. وتعتقد بعض الأوساط الدبلوماسية أنه بناءࣧ على التحذير القوي الذي تم إرساله إلى المجر فإنه سيكون من الصعب عليها القيام بتدابير خلافية جديدة.
ختاماً، لم يستغرق الأمر للمجر سوى أيام قليلة من بدء رئاستها الدورية حتى تفقد ما تبقى لديها من مصداقية لدى شركائها الأوروبيين. ويبدو أن أوربان يعول على انتظار عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الذي أكد أنه قادر على إنهاء الحرب الأوكرانية خلال أيام قليلة في حال انتخابه. وبانتظار الوصول إلى نوفمبر، تبقى الأنظار معلقة على الطريقة التي ستتعامل بها المجر مع مسألة تجديد العقوبات على روسيا التي يتم التصويت عليها كل 6 أشهر (التصويت الأخير كان في يونيو السابق)، هذا بالإضافة إلى كيفية تعاملها مع مسألة تثبيت التعريفات الجمركية النهائية على السيارات الكهربائية الصينية في نوفمبر المقبل.