• اخر تحديث : 2024-09-16 16:04
news-details
دراسات

مركزية عقيدة آبي أحمد السياسية في قضية المنافذ البحرية


تمثل الصراعات ظاهرة جمعية في تأثيرها، لكن أحيانًا يظهر تأثير الفاعل الفرد، هذا التأثير قد يأتي مدفوعًا بعوامل مختلفة تشكل المتمثلات المنظمة لصفات معينة في ذهن هذا الفاعل، ومن بين هذه العوامل يظهر العامل المتعلق بـ"النَّسق العقيدي" (Belief System) كمتغير معرفي رئيسي في تفسير سلوكه، يعبر عن مجموعة متماسكة من القيم والمعتقدات. وفي الدول الشديدة المركزية، خصوصًا تلك الخالية من القيود التنظيمية والمؤسسية، يظهر بوضوح تأثير القائد السياسي، وفي ظل وضعه في قمة التسلسل الهرمي لقيادة الدولة يؤدّي "نَسقه العقيدي" دورًا مركزيًّا في صنع السياسات وإدارة الصراعات، بما قد يعزز السلوك المتحيز بدلًا من السلوك الأمثل.
 
تبدو إثيوبيا مثالًا معتبرًا لهذه الحالة؛ فرئيس الوزراء آبي أحمد يعد قائدًا سياسيًّا وصانع قرارٍ من الدرجة الأولى، تولى منصبه في إبريل/نيسان 2018، عقب تغييرات جذرية شهدتها النخبة الحاكمة، وله أفكار فلسفية وتصريحات تُسهل إعادة بناء الجوانب البارزة لنظام معتقداته السياسية، خاصة المرتبطة بقضايا القرن الإفريقي، وعلى رأسها الصراع على الموانئ البحرية والقواعد العسكرية، مع تجدد رغبة إثيوبيا "الحبيسة" في الوصول إلى البحر الأحمر.
 
تجادل هذه الورقة بأن مركزية عقيدة آبي أحمد السياسية لها أثر واضح في إشكالية المنفذ البحري الإثيوبي، وانطلاقًا من هذه الفرضية، تسعى الورقة إلى تحديد مرجعية النَّسق العقيدي لآبي أحمد، وبناء المتغيرات الفلسفية والأدائية التي تشكل نظام معتقداته السياسية في هذه القضية.
 
أولًا: إشكالية المنفذ البحري
بعد أن فقدت إثيوبيا ميزة الوصول البحري في التسعينيات مع استقلال إريتريا عنها، وحل القوات البحرية الإثيوبية، واستحواذ ميناء جيبوتي على تجارة إثيوبيا الخارجية بتكلفة اقتصادية كبيرة، عملت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة على برامج تستهدف تعزيز التجارة الخارجية عبر الاتصال البري بالبلدان المجاورة بما في ذلك شق الطرق وربطها بشبكات سكك حديدية، ومن ثم موانئها البحرية. 
 
وبمجرد وصول آبي أحمد إلى السلطة، اتخذت حكومته مساعيَ حثيثة في استعادة الوصول البحري تجاريًّا وعسكريًّا، ففي الأشهر الأولى لحكومته، كشف عن خططٍ لبناء وتطوير قوة بحرية، واستهدف بموجب اتفاق السلام مع إريتريا (يوليو/تموز 2018) استعادة الوصول إلى مينائي عصب ومصوع مقابل إعادة الأراضي المتنازع عليها لإريتريا، ولكن سرعان ما تجمدت هذه الخطط مع تورط حكومته في نزاعات محلية وإقليمية، كان أبرزها الحرب الأهلية في إقليم تيغراي، والمناوشات العسكرية على الحدود مع السودان.
 
وفرضت حرب تيغراي على حكومة آبي البحث عن بدائل لميناء جيبوتي بعد أن سيطر متمردو التيغراي على الطرق الرئيسية التي تربط أديس أبابا بميناء جيبوتي؛ مما دفع حكومته إلى عقد اتفاقيات مع السودان والصومال وكينيا وجيبوتي للحصول على تسهيلات تجارية في موانئها البحرية. 
 
وبعد أن أثار آبي مخاوف جيرانه أواخر 2023 بتأكيده ضرورة تأمين منفذ بحري، شددت حكومات القرن الإفريقي على أن السيطرة السيادية على سواحلها غير قابلة للتفاوض، وتجددت هذه المخاوف مع توقيع إثيوبيا مطلع 2024 مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال، تهدف إلى منح بلاده حق الوصول البحري، مع تأجير جزء من الساحل للبحرية الإثيوبية، في مقابل اعتراف -لم تؤكده أديس أبابا- باستقلال الإقليم، وهو ما اعتبرته حكومة مقديشيو عملًا عدائيًّا. 
 
وبناء على طلب آبي، شرعت تركيا -بترحيب صومالي- مؤخرًا في جهود لنزع فتيل الأزمة المتصاعدة، عبر وساطة تقوم على: "ضمان وصول إثيوبيا البحري عبر الصومال، واعتراف إثيوبيا بسيادة الصومال على أراضيه".
 
ثانيًا: مرجعية النَّسق العقيدي لآبي أحمد
تتناول هذه الجزئية أبرز العوامل المرجعية التي شكلت إطارًا فلسفيًّا للنسق العقيدي لآبي أحمد، وكيف ساهمت نشأته في مجتمع محلي مهمش تاريخيًّا في تشكيل مركزية عقيدية يستند عليها في سياساته الخارجية وممارسة العمل السياسي عمومًا.
 
1- النشأة والتدرج الوظيفي
ولد آبي أحمد في 15 أغسطس/آب 1976، في بلدة بيشاشا -الواقعة في إقليم أوروميا غربي البلاد- لأبوين ينتميان لعرقيتين وديانتين مختلفتين، هما تيزيتا وولدي وأحمد علي. كانت تيزيتا -وهي مسيحية أرثوذكسية تنتمي إلى العرقية الأمهرية- الزوجة الرابعة لأحمد المسلم الأورومي (والأورومو أكبر عرقيات البلاد وهي ذات أغلبية مسلمة)، وكان آبي الطفل السادس لوالدته والثالث عشر لوالده، وتزوج من زيناش تياتشو التي خدمت مثله في قوات الدفاع الإثيوبية، وهو متعدد اللغات يتحدث الإنجليزية والتغرانية والأمهرية ولغة الأورومو.
 
تركت والدة آبي أثرًا عميقًا في شخصيته، وعلى ما يبدو استمد منها إيمانه الكبير بنفسه، وعبَّر عن ذلك في خطاب تنصيبه عام 2018؛ إذ قال إنها "أول من تنبّأ بقيادته لإثيوبيا يومًا ما"، وهي التي أطلقت عليه اسم "آبيوت" (كلمة أمهرية تعني الثائر) تيمنًا بسقوط الإمبراطور هيلا سيلاسي قبل مولده بعامين، وكانت أسرته ميسورة الحال نسبيًّا، فوالده يزرع البن ويمتلك أراضيَ ومحلاتٍ تجارية، بيد أن خطة التأميم التالية للإطاحة بالإمبراطور لم تترك لأحمد علي سوى منزله ومتاجره وأفواه العديد من الأطفال.
 
ومع تصاعد قمع حكومة الديرغ الشيوعية انضم أحمد علي إلى كفاح جبهة تحرير الأورومو، كما دفع ابنه الصغير إلى تغيير اسم "آبيوت" إلى "آبي"؛ خشية المشاحنات الشعبية والسياسية، وفي ربيعه الـ15 انضم آبي إلى جبهة الأورومو، في وقت كانت فيه كل مجموعة عرقية رئيسية في بلاده تتباهى بحركة تحرير مسلحة، ومع الانفصال الرسمي لإريتريا عام 1993، كان البلد الذي بلغ فيه آبي سن الرشد يقاتل من أجل البقاء وعدم التفكك. 
 
وبعد سقوط حكومة الديرغ وتولي "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" إدارة البلاد عام 1991، خدم آبي في قوات الدفاع الوطني، ثم شارك في بعثة أممية بين عامي 1995 و1997 لحفظ السلام في رواندا التي خرجت للتو من الإبادة الجماعية، ثم عُيِّن عام 2007 رئيسًا لوكالة أمن شبكة المعلومات، المسؤولة عن الأمن السيبراني في بلاده.
 
وقد شكلت الحرب الإثيوبية الإريترية (1998 - 2000) التي شارك فيها آبي على خط الجبهة -في مدينة بادمي الحدودية- مأساة له بشكل خاص؛ إذ يتذكر في خطاب قبوله جائزة نوبل للسلام عام 2019، أن وحدته دُمرت كلها بهجوم مدفعي إريتري، وكان هو الناجي الوحيد من أقرانه.
 
ودخل آبي معترك السياسة في الألفية الجديدة، وفي عام 2010، انتخب عضوًا في البرلمان عن حزب أورومو الديمقراطي، ثم عُينَّ عام 2016 وزيرًا للعلوم والتكنولوجيا مدة وجيزة، ليشغل لاحقًا منصب نائب رئيس حكومة إقليم أوروميا، ثم رئيسًا لأمانتها العامة عام 2017.
 
وتولى آبي رئاسة الوزراء في إبريل/نيسان 2018 بعد استقالة مفاجئة لسلفه هايلي مريام ديسالين؛ إثر احتجاجات شعبية غير مسبوقة، طالبت بإصلاحات سياسية ومجتمعية، قادتها أساسًا إثنية الأورومو، التي ينتمي إليها آبي والتي عادة ما اشتكت تهميشها تاريخيًّا. 
 
وفي بداية حكمه، أجرى آبي سلسلة من الإصلاحات السياسية والمجتمعية الواسعة، وحوَّل النظام الحاكم من ائتلاف قائم على العرقية الإثنية إلى حزب "الازدهار" الذي ضم تحالفات عرقية قوية، بالتوازي مع تفكيك نفوذ الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في مفاصل الدولة.
 
2- الانتماء الديني
وُلد آبي لأب مسلم وأم مسيحية أرثوذكسية، ثم تحول وهو في العشرينيات من عمره إلى الإيمان بالمسيحية الخمسينية (Pentecostal Church)، وقد كان ذلك أمرًا غير عاديّ بالنسبة لشخص من خلفيته، فكان رمزًا لأهم تحول ديني في بلاده.
 
وتزامن التحول الديني لآبي مع مرحلة انتقاله من حياته العسكرية إلى ممارسة السياسة، حيث شارك في مسقط رأسه في بيشاشا في مبادرات بناء السلام وحل النزاعات بين المسلمين والمسيحيين، كما نال عام 2017 درجة الدكتوراه في أطروحة تناولت حالة الصراع بين الأديان في منطقة جيما، وقد كان أول رئيس وزراء إثيوبي يشارك المسلمين في إفطار رمضان، وهكذا أصبحت وساطته في الصراعات الدينية والتأكيد على الطابع المتعدد الأديان لإثيوبيا جزءًا من رأسماله السياسي.
 
وعادة ما يستخدم آبي مفردات دينية في خطاباته العامة، بما في ذلك عبارة "بارك الله في إثيوبيا وشعبها"، إلى جانب تشبيهه بلاده بـ"المسيح.. ستقوم وتخرج منتصرة"، كما يلاحظ أنه يميل كثيرًا إلى تعديل خطابه الديني وفقًا للجمهور المستهدف؛ فخلال لقائه الجالية الإثيوبية الأرثوذكسية في واشنطن عام 2018 قال: "لا يمكننا التفكير في إثيوبيا بدون الكنيسة الأرثوذكسية، فهي الدولة في حد ذاتها"، في حين تحدث إلى جالية بلاده المسلمة في مدينة فرجينيا، قائلًا: "تاريخ الإسلام في إثيوبيا قديم وعريق، والمسلمون جزء أصيل من نسيجنا الاجتماعي (..) أقول لكم ما قاله الخليفة أبو بكر للمسلمين: إذا أحسنت فأعينوني وإذا أخطأت فقوموني". 
 
وبينما ينص الدستور الإثيوبي على مبدأ العلمانية، فإن رؤية آبي في استخدام الدين تبدو "ميكيافيلية" بامتياز، إذ يقول: "شعب إثيوبيا مخلص بشدة لدينه، ويلتزم مسلموه ومسيحيوه بعقائدهم الدينية، وبالتالي، فإن السيطرة على هذه الأديان تساعد في السيطرة على الجمهور، وتنظيم المشهد السياسي والمؤسسات القانونية والقيم الاجتماعية الأخرى".
 
ثالثًا: العقائد الفلسفية والأدائية لآبي أحمد
تعتمد الورقة على منهج "النهج الإجرائي" (The Operational Code) باعتباره أحد المداخل المنهجية إلى دراسة دور الأنساق العقيدية للقادة في صنع السياسات، وهو يعرف بأنه مجموعة من المعتقدات الأساسية السياسية، بما في ذلك "المعتقدات الفلسفية" حول الحياة السياسة، و"المعتقدات الأدائية" حول الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف.
 
1- أبرز عقائد آبي الفلسفية:
اتسمت الفترة التكوينية لآبي أحمد بكونها "صراعية"؛ سواء محليًّا بما شهده من قتال على السلطة ومظالم إثنية، أو إقليميًّا بما يشهده القرن الإفريقي من صراعات تعززها أزمات حدودية وأدوار خارجية. 
 
وبعدما ساهمت فلسفته السياسية في تحقيق استقرار مؤقت على المستويين المحلي والإقليمي في بداية حكمه، تحول "رجل السلام" بعد أقل من عامين إلى أحد الأطراف الفاعلة في الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية، وقد عبَّر آبي عن ذلك مبكرًا حين ذكر في خطاب تسلمه جائزة نوبل للسلام أن الحرب تمثل "صورة مصغرة للجحيم بالنسبة لجميع المتورطين فيها"، ومع ذلك لم يستبعد كونها آلية لتحقيق السلام، قائلًا: "لقد زَحفت نحو السلام عبر خنادق الحرب (الإثيوبية الإريترية) منذ سنوات".
 
ومصادر الصراع في عقيدة آبي أحمد ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمياه، تحديدًا: كيفية استغلال نهر النيل وإشكالية الوصول البحري، إذ يعتقد أن "البحر الأحمر ونهر النيل يحددان مستقبل إثيوبيا، إما تطورها أو زوالها"، وهو يؤمن بأن "البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا"، ويصر على "ضرورة الحصول على منفذ بحري بالطرق السلمية، أو استخدام القوة".
 
وبالنسبة لطبيعة العدو السياسي في فلسفة آبي، يتبين عدم دخوله في عداء أو تحالف مطلق مع أيّ أحد محليًّا أو دوليًّا، وربما يفسر ذلك ما تفرضه ديناميات القرن الإفريقي عادة من سلوكيات متقلبة باستمرار تتراوح بين التقارب والعداء، وعلى ما يبدو فإن آبي وقادة الإقليم يدركون جيدًا صحة هذه الفرضية.
 
ويمثل التفاؤل السياسي عقيدة مركزية في فلسفة آبي، فهو لديه إيمان بالقدرة على تحقيق الأهداف والتغلب على العقبات، إذ يُنقل عنه قوله: "اعتدت أن أخبر أصدقائي أنني سأصبح رئيسًا للوزراء، وكانوا يعتبرونها مزحة. وحين توصلت للسلام مع إريتريا، سألت وزير خارجيتي هل تتوقع حصولي على جائزة نوبل؟ فقال لست متأكدًا. ثم فزت بالجائزة".
 
وفي المقابل، عادة ما ارتبطت عقيدة التنبؤ السياسي لدى آبي أحمد بردود الآخرين، فمع الرفض الإريتري لخطط استعادة الوصول إلى مينائي عصب ومصوع، قال إن بلاده لا تصر على استخدام ميناء محدد لدولة جارة، وأعاد الحديث ذاته حين وقع مذكرة تفاهم مع أرض الصومال، إذ قال حين رفضت مقديشيو ذلك إن إثيوبيا لا ترغب في أي إضرار بالصومال.
 
ولدى آبي اعتقاد في القدرة على التأثير في الحركة السياسية والتاريخية ليس في القرن الإفريقي فحسب، بل في عموم إفريقيا، إذ ذكر في بداية حرب تيغراي أن "إفريقيا ظلت لفترة طويلة لعبة استراتيجية في يد القوى الدولية. ومن خلال تعزيز تماسكها وتكاملها الاقتصادي، تستطيع أن تصبح قوة جيوسياسية تتمتع بصوت مستقل وموحد في التعامل مع القضايا العالمية المهمة".
 
2- أبرز عقائد آبي الأدائية:
 تدور سياسة آبي أحمد الخارجية حول كيفية تحقيق هدف الوصول البحري، عبر سعي حكومته لامتلاك النفوذ في إدارة الموانئ الرئيسية الخمسة في القرن الإفريقي (موانئ جيبوتي ومصوع وعصب في إريتريا وبربرة في أرض الصومال ولامو في كينيا). 
 
ولكن آبي أحمد لا يمتلك رؤية سياسية واحدة متماثلة لتحقيق هدف الوصول البحري، ويمكن القول إن مضامين رؤيته مختلفة بين ما طرحه في فلسفة "التآزر" في بدايات حكمه، وبين وثيقة "المصلحة الوطنية لإثيوبيا" التي طرحتها حكومته أواخر 2023.
 
وبالنسبة لمضامين "التآزر" فهي تقوم على ثلاث ركائز مترابطة: بناء نظام ديمقراطي قوي، والاقتصاد الحيوي، والتكامل الإقليمي والانفتاح على العالم. وبالنسبة للركيزة الثالثة فإنه يعتقد أن الاعتماد المتبادل يقلل من احتمال نشوب الصراعات، ولتوضيح ذلك يستخدم عادة مثالًا إفريقيًّا: "إذا كنت تريد أن تذهب بسرعة فاذهب بمفردك، وإذا كنت تريد أن تذهب بعيدا فاذهب مع جماعة". أما وثيقة "المصلحة الوطنية" فتقوم على قائمة من الأولويات منها:
-التعاون مع دول المنطقة لضمان الوصول إلى الموانئ.
-تعزيز نفوذ إثيوبيا الإقليمي، ومصالحها في البحر الأحمر.
-تأمين حق إثيوبيا في استخدام نهر النيل.
-للاتحاد الإفريقي السلطة النهائية على موارد المياه والبحار والشواطئ في إفريقيا.
 
ومع ذلك، لا يستبعد آبي الدخول في مخاطرة إقليمية "محسوبة"، لكنه عادة ما يمزج بين الواقعية السياسية وبين التصميم على تحقيق الأهداف، فعلى سبيل المثال، على خلفية التوترات الإثيوبية الإريترية -أواخر 2023- قال إن "إثيوبيا لم تغزُ أي دولة على الإطلاق ولن تفعل ذلك في المستقبل"، رغم حديثه سابقًا عن الروابط الديمغرافية والخرائط التاريخية التي تثبت المطالب الإثيوبية بموانئ البحر الأحمر في الأراضي الإريترية.
 
ولا يعني ذلك، استبعاده توظيف القوة لأغراض الوصول البحري، ففي اعتقاده أن حرمان إثيوبيا من "حقوقها الطبيعية في الوصول المباشر إلى البحر الأحمر"، يعني أن "الدخول في صراع مسألة وقت" محذرًا: "إذا لم نجد بديلًا من خلال الحوار فقد يكون الأمر خطيرًا.. سعي إثيوبيا للوصول إلى البحر يجب أن يتم بشكل سلمي". 
 
لكن القوة في اعتقاده لا تعد الأداة الوحيدة لتحقيق الأهداف، فهي مفهوم متعدد الأبعاد، يشمل سياسة المساومة، وهو ما يتضح في حديثه حول "أهمية إثيوبيا كمصدر رئيسي للمياه للدول المجاورة"، واقتراحه لمعالجة الوصول البحري إعطاء مقابل مثل "تقاسم فوائد سد النهضة، أو الحصول على نسبة من أرباح الشركات الإثيوبية".
 
خاتمة:
مع تحقق الورقة من صحة الفرضية الأساسية المتعلقة بوجود أثر واضح لعقيدة آبي أحمد السياسية في قضية المنافذ البحرية، توصلت إلى مجموعة استنتاجات أبرزها:
 
-عقيدة آبي أحمد السياسية لم تأت من فراغ، فهي وليدة بيئته، خاصة تأثره بهمس والدته إليه في طفولته بأنه "سيكون الملك السابع لإثيوبيا"، إلى جانب إيمانه الديني وهو مسيحي خمسيني يؤمن بالقدرة على تحقيق المعجزات، وأنه مكلف من الرب بإعادة إحياء الإمبراطورية الإثيوبية، التي يمثل البحر الأحمر حدودها الجغرافية الطبيعية.
 
-تدور عقيدة آبي أحمد حول "ثنائية مركزية" من العقائد الفلسفية والأدائية: "حتمية" الوصول إلى البحر الأحمر، والاستخدام الأمثل لنهر النيل.
 
-يؤمن آبي أحمد بأن المنافذ البحرية "قضية وجودية" لبلاده، وبأحقيتها في الوصول البحري "سلميًّا" أو بـ"القوة"، وأن الفشل في تأمين الوصول البحري قد يؤدي إلى صراع في المستقبل.
 
-يعتمد آبي "مرونة تكتيكية" في تحقيق أهدافه؛ اعتمادًا على طبيعة ردود أصحاب المصلحة، إذ ثبت تراجعه كلما واجه مواقف صلبة، وفي أحيان أخرى يستخدم مبدأ "المساومة".
 
وفي الأخير، تنبئ عقائد آبي أحمد السياسية بعدم تراجعه عن تحقيق أهداف الوصول البحري، التي تتخطى المصالح الوطنية الإثيوبية المرتبطة بالبحث عن بدائل تجارية لموانئ إريتريا وجيبوتي، إلى الرغبة في الوجود العسكري على سواحل البحر الأحمر، ومن المرجح أن تظل هذه المساعي مرهونة ببقائه في السلطة.