• اخر تحديث : 2024-09-16 16:04
news-details
أبحاث

ورقة تحليلية: تونس: الانتخابات الرئاسية السياقات والتوقعات


تشهد تونس في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 انتخابات رئاسية هي الثالثة منذ قيام الثورة. لكن هذه الانتخابات هي الأولى بعد 25 يوليو/تموز 2021، تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيد حزمة من الإجراءات الاستثنائية، شملت تعليق العمل بالدستور وتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة. بناء على تلك الإجراءات، جمع سعيد كل السلطات بين يديه وأدار البلاد بمراسيم رئاسية منح بمقتضاها لنفسه سلطات تنفيذية وتشريعية مطلقة، لا رقابة عليها، وشكل لاحقا حكومة اختار هو رئيسها ووزراءها، تعمل تحت إشرافه وتنفّذ برنامجه.
 
تأتي هذه الانتخابات بعد ثلاثة أعوام من السيطرة الكاملة لسعيد على الحكم، أحدث خلالها تغييرات جوهرية على النظام السياسي، وأعاد تشكيل المشهد العام في البلاد، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. لذلك، تجري الانتخابات القادمة ضمن سياقات مختلفة تماما عن السياقات التي أجريت فيها المنافسات الانتخابية السابقة التي شهدتها عشرية الانتقال الديمقراطي بين عامي 2011 و2021. فكيف نفهم الاختلاف بين تلك السياقات؟ وما أثر ذلك على هذه الانتخابات وما ستفضي إليه من نتائج؟
 
سياق دستوري وقانوني ملتبس
تأتي الانتخابات الرئاسية بعد انتهاء العهدة الرئاسية الأولى للرئيس قيس سعيد الذي انتخب في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بدعم من جل القوى السياسية في الدور الثاني من الانتخابات. وكغيرها من المحطات الانتخابية التي جرت بعد 25 يوليو/تموز 2021، تجرى هذه الانتخابات، كاستحقاق قانوني ودستوري، حرصت منظومة الحكم التي يقودها قيس سعيد على الوفاء به، ولكن على طريقتها ووفق معاييرها وآليات تنظيمها للتحكم في مسارها ونتائجها. فقد كانت تلك المحطات الانتخابية مثيرة للجدل والانتقادات الواسعة، إذ جرت بطريقة مخالفة للتقاليد الانتخابية التي عرفتها تونس منذ الثورة. وقد قاطع الناخب التونسي بشكل واسع وغير مسبوق تلك الانتخابات، التي شهدت عزوفا لم تعرفه تونس في تاريخ انتخاباتها منذ الاستقلال. فبعد سيطرة قيس سعيد على الحكم في 2021 جرى تنظيم استشارة قانونية، ثم استفتاء على مشروع الدستور الجديد الذي وضعه الرئيس بنفسه، ثم انتخابات برلمانية تلتها أخرى جهوية. وسجلت كل تلك المحطات التي دعي فيها الناخبون إلى التصويت نسب مشاركة وصل بعضها إلى أقل من 10 بالمئة، ولم تتجاوز أعلى مشاركة فيها 25 بالمئة وكانت في الاستفتاء على الدستور. وبسبب العزوف والمقاطعة لم تجر انتخابات في العديد من الدوائر الانتخابية البرلمانية نظرا لغياب مترشحين يتنافسون فيها، كما لم تشهد دوائر أخرى أي منافسة بسبب وجود مترشح وحيد دون منافس.
 
تعتبر طبقة سياسية واسعة ومنظمات وطنية وخبراء قانون أن المرجعية الدستورية للانتخابات الرئاسية المقبلة هي دستور 2014، وما انبثق عنه من قانون انتخابي منظم للعملية الانتخابية، بينما تؤكد وتتمسك منظومة الحكم الحالية بالدستور الذي وضعه قيس سعيد في 2022، وما انبثق عنه من قوانين انتخابية منظمة وتتخذ ذلك مرجعية للانتخابات، على اعتبار أن دستور 2014 ألغي بصدور الدستور الجديد. وبعدما بدا من تماه شبه كامل للهيئة المشرفة على الانتخابات مع خيارات السلطة القائمة وتوجهاتها وممارساتها، رجحت كفة القائلين بأن لا مرجعية لدستور 2014 الملغى على الانتخابات.
 
إلى جانب الجدل بشأن المرجعية الدستورية والقانونية للانتخابات، ينتقد مراقبون أداء ومواقف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ويعيبون عليها الانزياح في موقفها الصارم والمبدئي في الدفاع عن استقلاليتها وصلاحياتها، إلى تبني موقف رخو متساهل مع ما تمليه وتحرص السلطة الحالية على تمريره للتأثير وتوجيه الانتخابات وضبط إيقاعها.
 
فقد اعتبر نافع حجي، رئيس شبكة "مراقبون"، وهي منظمة تعنى منذ عام 2011 بمراقبة الانتخابات في تونس، أنّ هذه الانتخابات تتسم بالضبابية من حيث رزنامتها، فضلًا عن عدم احترام الهرم القانوني بإضافة شروط للترشح. وقال حجي: "هناك إجماع قانوني علمي على أنّه لا يمكن لهيئة الانتخابات إضافة شرط من الشروط بمقتضى السلطة الترتيبية التي لديها"، مؤكدًا ضرورة احترام الهرم القانوني، الذي يقتضي علوية الدستور ثم القانون ثم النصوص الترتيبية للهيئة التي تخص القانون الانتخابي. إن ما حصل في هذه الانتخابات، حسب حجي، هو "أن شروطًا جديدة أضيفت في القانون المستند إلى دستور 2022 تتعلق بالجنسية والسن والحقوق المدنية والسياسية للمترشحين لخطة رئاسة الجمهورية".
 
 لذلك فإن ثمة حاجة لـ"ملاءمة القانون الانتخابي الصادر في 2014، مع الشروط الجديدة"، ولا يتم ذلك، حسب تقديره، إلا عبر المرور بمجلس النواب، إما بمقترح من 10 نواب أو بمقترح قانون من رئاسة الجمهورية. وذلك هو التمشي القانوني السليم بإجماع الخبراء والهيئات التي تعنى بالانتخابات. بالإضافة إلى هذه الإخلالات، واجه المترشحون إجراءات معقدة جدا في جمع التزكيات المشترطة في الترشح. ويرى كثيرون أن تلك الإجراءات وُضعت بالأساس لتقويض فرص العديد من المترشحين في قبول ملفاتهم حتى وإن نجحوا في الحصول على النصاب القانوني وهو 10 آلاف تزكية، بسبب اشتراط أن تكون صادرة عن عشر دوائر انتخابية، وألا يقل عدد التزكيات في كل دائرة عن 500 تزكية.
 
انعكست هذه الإجراءات الجديدة معطوفة على بعض التضييقيات، على حظوظ المرشحين الجديين، من خلال القرار الذي أعلنته الهيئة المشرفة على الانتخابات في 10 أغسطس/آب الجاري، والذي يقضي بقبول ملفات 3 مترشحين فقط للانتخابات الرئاسية، بينهم ملف ترشح الرئيس قيس سعيد، والأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي، الذي كان من أشد الداعمين للرئيس الحالي ولمسار 25 يوليو الذي تعتبره جل القوى السياسية انقلابا. أما المترشح الثالث المقبول فهو النائب البرلماني ورجل الأعمال عياشي زمال، الذي يعتبر من المعارضين لمسار الخامس والعشرين من يوليو. بيد أن هذا المرشح استدعي للمثول أمام قاضي التحقيق بعد ساعات من إعلان هيئة الانتخابات قبول ملف ترشحه، وهو يواجه تهما تتعلق بتجاوزات في جمع التزكيات. وقد اعتقلت المكلفة بجمع التركيات في حملته وأودعت السجن؛ ما يرجّح إخراجه من السباق الانتخابي، الذي أصبح شبه محسوم لصالح قيس سعيد. وقد واجهت هيئة الانتخابات عقب إعلانها حصر الملفات المقبولة في ثلاثة، انتقادات واسعة من المعارضة وجماعات حقوقية وخبراء قانون، يقولون إن إقصاء مرشحين جديين يهدف لإفساح المجال أمام سعيد للفوز بولاية ثانية دون منافسة. وكان لافتا إصدار محاكم تونسية أحكاما استعجالية تقضي بالسجن فضلا عن عقوبة الحرمان من الترشح للانتخابات الرئاسية مدى الحياة ضد عدد من المترشحين. وشمل هذا الإجراء العديد من المترشحين الذين يعتبر بعضهم من المنافسين الجديين لقيس سعيد.
 
وكان لافتا الإصرار على قرار إقصاء ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية رغم صدور قرارات استئنافية من المحكمة الإدارية في تونس بإعادتهم إلى السباق الانتخابي، بعد أن رفضت هيئة الانتخابات قبول ترشحهم. هؤلاء المترشحون هم عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعماد الدايمي. ورغم الصفة الإلزامية والباتة لقرارات المحكمة الإدارية وفق القانون، وحسب تأكيد أهم رجال وخبراء القانون في تونس، فقد أعلنت هيئة الانتخابات، في قرارها الصادر بتاريخ 2 سبتمبر/أيلول 2024 عدم أخذها بقرارات المحكمة الإدارية. واعتبرت أنها هي وحدها التي تملك صلاحية التقرير النهائي بشأن من يحق له الترشح. وأعلنت الهيئة تثبيتها لقرارها الأول باعتباره القرار النهائي والبات وغير القابل للطعن بأي وجه من الوجوه بقبول ثلاثة مترشحين فقط، هم الرئيس الحالي قيس سعيد، والأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي، ورجل الأعمال المعتقل العياشي زمال. وقد اعتُقل زمال قبيل ساعات من إعلان هيئة الانتخابات قرارها النهائي بشأن المترشحين لخوض السباق الانتخابي.
 
السياق السياسي: منظومة حكم فردي كرسها دستور 2022
تجري الانتخابات الرئاسية في سياق سياسي تشهد فيه تونس حالة من الانغلاق تراجعت فيها التعددية السياسية، وانحسر دور الأحزاب بشكل غير مسبوق. وهمّش المجتمع المدني بما في ذلك منظماته الكبرى، التي كانت بارزة في المشهد السياسي خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين. فقد كرّس نظام الحكم بعد 25 يوليو/تموز 2021 منظومة فردية استحوذ فيها الرئيس على كل الصلاحيات. فسيّر البلاد بالمراسيم والأوامر، ووضع عام 2022 دستورا أشبه بالدستور الممنوح، لم تشارك في صياغته أي جهة سياسية أو اجتماعية. وفرض سعيد في هذا الدستور نظاما رئاسيا مطلقا، لا دور تشريعيا فيه ولا رقابيا للبرلمان ومن خلال موقعه رئيسا للجمهورية، مضى سعيد في تنزيل رؤيته السياسية لطبيعة المشهد السياسي. تقوم تلك الرؤية على مرجعية مختلفة تماما عن المرجعية التي تأسست عليها مرحلة الانتقال الديمقراطي على مدى عشر سنوات، وتعتبر أن النظام البرلماني التمثيلي أفلس في العالم كله. فعندما سئل عن دور الأحزاب السياسية والبديل عن التنظيم السياسي القائم على التعددية الحزبية أجاب بأن "الأحزاب جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية، وبلغت أوجها في القرن الـ19 والقرن 20 ثم صارت بعد الثورة التي حدثت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزابا على هامش الدنيا، في حالة احتضار. ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها". وعندما سئل هل سيكون إلغاء الأحزاب من بين إصلاحاتك السياسية؟ رد بكل ثقة "لا لن ألغيها، التعددية ستبقى قائمة إلى أن تندثر وحدها"، مؤكدا أن "الأحزاب انتهى دورها".
 
وفعلا، مضى سعيد بعد 25 يوليو/تموز 2021 في تهميش الأحزاب السياسية تدريجيا، مستعملا في ذلك مسارات متعددة، تراوحت بين تجاهلها تماما وعدم مشاورتها أو الحوار معها وبين التضييق عليها وشيطنتها إعلاميا. ووصل الأمر إلى حد تجميد بعض الأحزاب والتضييق على بعض آخر بما يشبه الحظر، كما هو شأن حركة النهضة التي صدر قرار من وزير الداخلية بإغلاق كل مقراتها ومنع انعقاد أي اجتماعات داخلها. وهو قرار لا يزال نافذا إلى اليوم رغم عدم وجود قرار قضائي بذلك. واتسعت دائرة استهداف السلطة للأحزاب السياسية من خلال إيداع أبرز رموز المعارضة السجن. شمل ذلك زعيم حركة النهضة أكبر الأحزاب السياسية، الذي كان يرأس مجلس نواب الشعب قبل تعليق أعماله ثم حله من قبل الرئيس قيس سعيد. وطال الاعتقال أمناء عامين لأحزاب سياسية وشخصيات سياسية بارزة، اتهموا جميعا بالتآمر على أمن الدولة، وهم يقضون أكثر من عام ونصف في الاعتقال دون أن يقدموا للمحاكمة أو توجه لهم تهمة واضحة. إلى جانب ذلك، يقبع العديد من الصحفيين والمدونين في السجن بتهم على أساس المرسوم 54 المثير للجدل، الذي تعتبره المنظمات الحقوقية مرسوما يستهدف حرية التعبير ويجرّمها.
 
في هذه المناخات، انحسر الزخم السياسي للأحزاب السياسية بشكل متسارع خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتراجع دور المنظمات وجمعيات المجتمع المدني بشكل لافت، لا سيما مع الاتهامات المتكررة التي يرددها الرئيس سعيد وتشكك في ولاء تلك المنظمات وفي شفافية تمويلها ونشاطها. لقد رسّخت الإجراءات الأحادية الفردية التي اتخذها الرئيس سعيد ومنظومة الحكم الجديدة نظاما سياسيا مختزلا كلّيًّا في رأس السلطة، في غياب كامل لأي معنى لاستقلال السلطات أو توازنها. ورغم وجود مجلس لنواب الشعب (برلمان) فإن دوره هامشي، ولا يتمتع بأي صلاحية للرقابة على عمل الحكومة أو محاسبتها. وتختزل مهمته الأساسية في المصادقة على مشاريع القوانين والقروض التي يطرحها الرئيس مباشرة أو عبر الحكومة.
 
ولا تبدو الحكومة في المجمل مختلفة عن البرلمان، إذ يختار الرئيس أعضاءها، وهم في الغالب من خارج البرلمان ومن خارج الأحزاب السياسية. ويشدد سعيد على أن رئيس الحكومة مجرّد مساعد لرئيس الجمهورية ومنفذ لسياساته ومطبق لبرنامجه. ويمثل الوزراء في الغالب أمام الرئيس مباشرة لمتابعة مهامهم الوزارية أكثر مما يمثلون أمام رئيس حكومتهم. في هذا السياق، يمكن القول إن المشهد السياسي أصبح مختزلا في شخص الرئيس، ومتمركزا حول رئاسة الدولة. فللرئيس الصلاحيات المطلقة في رسم السياسات وسن التشريعات والإشراف على القضاء بعد أن أعاد الرئيس تعريفه باعتباره وظيفة وليس سلطة مستقلة. كما دأب على تقريع القضاة على تأخرهم في إصدار الأحكام، أو على عدم تسريع التحقيقات القضائية.
 
على صعيد الإعلام، الذي تحول بدوره إلى أداة دعاية للرئاسة وأنشطتها، تراجعت تونس في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، حسب منظمة "مراسلون بلا حدود"، من المرتبة 73 في سنة 2020 إلى المركز 121 في 2023 من بين 180 دولة يشملها التصنيف. ويعتبر هذا التراجع المتسارع في تصنيف تونس في مجال الحريات مؤشرا واضحا على الأثر الكبير لما قام به قيس سعيد في 25 يوليو/تموز من إنهاء العمل بالدستور وحل البرلمان والحكومة، وإعلان إجراءات استثنائية، وإدارة البلاد بالمراسيم الرئاسية، التي أطلقت سلطة الرئيس. ومثّل المرسوم 54، الصادر في سبتمبر 2022، تحولا جوهريا في اتجاه التضييق على الحريات، وعلى رأسها حرية التعبير.
 
السياق الاقتصادي والاجتماعي
كان من أبرز التبريرات التي قدمها الرئيس التونسي قيس سعيد لإعلان الإجراءات الاستثنائية بحجة الخطر الداهم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي عمّقتها جائحة كورونا. ولكن بعد مرور ثلاث سنوات على تفعيل سعيد للفصل 80 من الدستور وإعلان الإجراءات الاستثنائية، تجد تونس نفسها في مواجهة صعوبات اقتصادية واجتماعية متفاقمة تتعقّد وتتعمّق بشكل متسارع. يظهر ذلك في ركود النمو الاقتصادي، والاختلالات في التوازنات المالية، وتفاقم الأزمة الاجتماعية على جميع المستويات.  وتظهر كل التقارير الرسمية وغير الرسمية المتخصصة أن الاقتصاد التونسي يواجه امتحانا صعبًا خلال العام الجاري لتغطية احتياجاته من التمويل الخارجي، في ظل عدم إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي كان مبرمجا للتعاون في الإصلاح الاقتصادي بتمويل قيمته 1.9 مليار دولار. وقد اعتبر البنك الدولي أن تباطؤ النمو يضاعف من التحديات التي تواجهها تونس في تغطية احتياجاتها الكبيرة من التمويل الخارجي. فقد سجل الاقتصاد التونسي في الربع الأول من عام 2024 نموًّا لم يتجاوز 0.2 بالمئة، متراجعا عن نسبة 1.1 بالمئة التي سجلها في نفس الفترة من العام الماضي. وتشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء إلى أن الاقتصاد التونسي كان قد سجل نسبة نمو تقدر بـ0.4 بالمئة عام 2023، متراجعا عن نسبة 2.4 بالمئة خلال عام 2022.
 
وتلجأ تونس إلى الاقتراض السيادي لتمويل احتياجاتها الخارجية، حيث لا يمكنها النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية، ولا يزال الاستثمار الأجنبي المباشر والاستثمارات في السوق المالية محدودة. وفي ضوء قانون المالية لعام 2024، تعتزم الحكومة اقتراض نحو 5.2 مليارات دولار من الخارج، لسد جزء من الفجوة المالية المقدرة بنحو 9.155 مليارات دولار، من بينها عجز للميزانية بنحو 3.395 مليارات دولار.
 
وتعتمد تونس، وفق رؤية الرئيس سعيد المعلنة والمتحفظة على التداين الخارجي، بشكل متزايد على الاقتراض من البنوك المحلية، لا سيما البنك المركزي، لتمويل ميزانيتها، وفق تقرير البنك الدولي. وأدى هذا التحول إلى تعميق مواطن الضعف والاختلال في النظام المالي، كما تسبب التداين الحكومي الداخلي في مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص على الاقتراض من البنوك المحلية. وتفيد التقديرات أن الحكومة ستقترض من البنوك الوطنية حوالي 3.745 مليارات دولار خلال العام الجاري وحده. وأظهرت وثائق رسمية أن الحكومة التونسية مطالبة بتسديد 4 مليارات دولار من الديون الخارجية في 2024، بزيادة 40 بالمئة على 2023، في ظل شح التمويل الخارجي المتوقع أن تحصل عليه الحكومة.
 
وينعكس تعثّر النمو على الأداء الاقتصادي المتردّي الذي تسجّله البلاد. وقد ساهمت الاختلالات الكبيرة في التوازنات المالية العامة في إرباك قدرة الحكومة على التصرّف. ويخشى مراقبون أن يؤدي استمرار الوضع القائم إلى أزمة مالية حادة، وقد تتسبب أي إجراءات تعديلية جذرية ومفاجئة في اندلاع أزمة اجتماعية وسياسية غير محسوبة.
 
وعلى عكس رهان الخبراء والمؤسسات المالية الدولية، لم يحدث أي إصلاح اقتصادي ولم يكن تحفيز النمو أولوية في برنامج الحكومية عام 2023. ما حدث هو تعمّق الانكماش الاقتصادي، حيث سجّل الناتج المحلي الإجمالي خلال الفصل الثاني من عام 2023 معدّل نمو سلبيًّا بنسبة 1.3 في المئة. وتشير التقديرات إلى أن معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بلغ 0.6 في المئة عام 2023، وهو الأداء الأسوأ منذ عام 2011 حسب تقرير مؤسسة كارنيغي. وقد انعكس الانكماش الاقتصادي وتراجع النمو إلى ما دون الصفر أحيانا، بشكل مباشر، على حياة التونسيين. فالأغلبية تعاني من تدهور غير مسبوق في المقدرة الشرائية، مع الارتفاع المستمر في الأسعار. وزاد من تعقيد الأوضاع عجز الحكومة عن توفير السلع والمواد الأساسية في الأسواق، فبرزت ظاهرة الطوابير الطويلة أمام المحلات لاقتناء العديد من البضائع الشحيحة، وأصبح الحصول على الكثير من المواد الأخرى صعب المنال.
 
ومن مؤشرات الركود الاقتصادي وانكماش الاستثمارات وتراجع فرص العمل، ما سجله المعهد الوطني للإحصاء من ارتفاع لافت في نسبة الفقر من 23.2 بالمئة سنة 2023 إلى 33.6 بالمئة سنة 2024. وقد وثّق المعهد الوطني للإحصاء ومنظمة العمل الدولية نسبة 42.2 بالمئة من البطالة بين الشباب التونسي في الفئة العمرية الأقل من 25 عاما خلال العام الجاري، وهي النسبة الأعلى في تاريخ تونس. وقد شهدت تونس خلال العامين الأخيرين قفزة حادة في أعداد المهاجرين غير النظاميين. يظهر ذلك في ركوب عشرات الآلاف من التونسيين البحر بطريقة سرية، محاولين الوصول إلى أوروبا بحثا عن فرص معيشية أفضل. وقد تضافرت العوامل السلبية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتجعل فكرة الهجرة حلم كل شاب تونسي، حتى وإن تطلب الأمر المغامرة بمغادرة البلاد في قوارب هجرة لا يتوفر في أغلبها الحد الأدنى من شروط السلامة (الحرقة كما تعرف في تونس).
 
ويعتقد العديد من المراقبين والقوى السياسية الفاعلة في البلاد أن الأوضاع ازدادت سوءا في السنوات الأخيرة، مع تكريس حالة الهشاشة العامة بسبب المصاعب المتراكمة والمتفاقمة. وما لم تحدث إصلاحات عميقة وشاملة، تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة والمجتمع، في إطار حوار وطني وتوافق واسع على خيارات مشتركة، فلا يبدو أن إنقاذ الوضع من الانهيار سيكون ممكنا.
 
السياق الإقليمي والدولي
تسبق الانتخابات الرئاسية التونسية المقررة في 6 أكتوبر/تشرين الأول القادم، انتخابات رئاسية في الجزائر في 7 سبتمبر/أيلول يتنافس فيها ثلاثة مرشحين على رأسهم الرئيس الحالي عبد المجيد تبون. ويبدو من السياق العام أن الجزائر تتجه لتكريس الاستمرارية، لا سيما أن منافسيْ تبون، وهما يوسف أوشيش عن حزب جبهة القوى الاشتراكية وعبد العالي حساني عن حركة مجتمع السلم (حمس)، لا يبدو أنهما يحظيان بشعبية كافية تمكنهما من منافسته بشكل جدي. من الواضح أن الجارة الغربية الكبرى لتونس تقدّم معادلة "الاستقرار" وتثبيت أركان منظومة الحكم التي أعقبت الحراك الشعبي ونجحت في احتوائه، على أي "مغامرات" انتخابية من شأنها أن تربك الوضع القائم الذي يسعى للاستمرار تحت راية الاستقرار وضبط الأوضاع والتحكم فيها، من أجل معالجة حالة الهشاشة التي طبعت حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. ويعكس المشهد الجزائري مزاجا عربيا عاما في المنطقة بأسرها، يقدم أولوية الاستقرار والاستمرارية على التغيير، خاصة في سياق انتخابات تنافسية. وتسيطر فكرة القطيعة مع مرحلة الربيع العربي على تأطير المشهد السياسي في المنطقة. لذلك تعمل الأنظمة القائمة على ترسيخ ركائز حكم سلطوية، تتمتع بقدرة عالية على الضبط والسيطرة. وقد مثلت الانتخابات الرئاسية في مصر في ديسمبر/كانون الأول 2023، التي أعيد فيها انتحاب الرئيس عبد الفتاح السيسي بأغلبية ساحقة بلغت 89.6 بالمئة، بعد ضمان عدم وجود منافسين جديين، نموذجا لشكل وطبيعة الانتخابات المطلوبة في المنطقة عامة. وقد حظي النظام المصري بعد هذه الانتخابات بدعم إقليمي ودولي سخي وغير مسبوق، ليس على المستوى الاقتصادي وحسب، بل أيضا على المستوى السياسي والدبلوماسي.
 
يتأسس هذا الدعم والتفاهم مع أنظمة سلطوية قوية على تقييم غربي، أميركي وأوروبي، بأن هذا النمط من الحكم، على غرار نظام السيسي، قادر على مساعدة القوى الدولية على تأمين الاستقرار الإقليمي وتجنّب النزاعات. فلا وقت لدى القوى الغربية للتعامل مع تغييرات سياسية مفاجئة و"غير منضبطة" في ظل انشغالها بالحرب الروسية الأوكرانية والصعود الصيني المثير للقلق. ويتقاطع هذا المزاج الغربي الداعم ضمنا للأنظمة السلطوية في المنطقة بعد التراجع عن فكرة دعم التحولات الديمقراطية، مع المزاج الروسي الصيني الذي يتقن بدوره التعامل مع أنظمة على ذات الشاكلة.
 
فالولايات المتحدة والقوى الغربية عموما، تخلّت عن فكرة "دعم الديمقراطية" والترويج لها في المنطقة لصالح استراتيجية دعم الاستقرار وتقوية الأنظمة القائمة من خلال سياسات وبرامج تقوم على التعاون الأمني والدفاعي بالدرجة الأولى. في هذا السياق، تراهن واشنطن والغرب على ربط المنطقة باستراتيجيات أمنية وعسكرية ملحقة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) أو معززة لدوره، على غرار مساعي تشكيل "ناتو عربي إسرائيلي" تكرر الحديث عنه وجرت اجتماعات تشاورية حوله برعاية أميركية في النقب في مارس/آذار 2022. يضاف إلى ذلك "مناورات الأسد الإفريقي" التي تنظمها القوات الأميركية بالشراكة مع دول عربية وإفريقية منها المغرب وتونس والسنغال، وعقد شراكات مميزة في مجالي الأمن والدفاع مع دول المنطقة، بينها تونس التي عقدت مع الاتحاد الأوروبي اتفاقيات بشأن مكافحة الهجرة غير النظامية، ومع الولايات المتحدة بشأن التعاون العسكري.
 
خاتمة
في المحصلة، يبدو المشهد العربي اليوم، بعد انكسار تجربة الربيع العربي، طاردا لفكرة التغيير والانتخابات الحرة، مكرسا لفكرة تجاوز تلك الحقبة، بعدما جرى إظهارها عنوانا للفوضى وعدم الاستقرار. لذلك، يبدو أن المنطقة، في عمومها، تتجه نحو عودة الأنظمة السلطوية، التي تؤدي فيها المؤسسة الأمنية والعسكرية أدورا متقدمة وحيوية.
 
في هذا السياق الدولي والإقليمي، تفيد مؤشرات المشهد السياسي التونسي أن الانتخابات القادمة لا تعدو أن تكون محطة في مسار استثنائي فرضه الرئيس قيس سعيد. وأغلق به قوس الربيع في البلاد، ليعود بها إلى نادي أنظمة الحكم السلطوية المتماثلة في المنطقة. أنظمة الأمر الواقع، الطاردة للتغيير، والمناهضة للديمقراطية، تحت شعار الاستقرار والاستمرار.
 
لقد شهد العالم، وسيشهد فيما بقي من عام 2024، أكثر من 70 انتخابات، لعل أبرزها على المستوى الدولي الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الأول القادم. وقد كان الكثير من تلك الانتخابات، التي جرت في الأشهر القليلة الماضية، على غرار انتخابات السينغال وفرنسا وبريطانيا وأميركا اللاتينية، مثيرا وديناميكيا وشكّل فرصة للتغيير والتداول وإعادة تشكيل معادلات الحكم. لكن، على الأغلب، ستكون الانتخابات في منطقتنا، ومنها الانتخابات الرئاسية التونسية، مناسبة لتكريس الأمر الواقع واستمراره، نظاما وسياسات.