حتّى الآن، لا جديد فيما يتعلّق بمفاوضات الدوحة. فالأفق ما زال مسدودًا والأمور اختلطت على جميع المراقبين. لا أحد يستطيع أن يحدّد عمّا إذا كان يجري توزيع الأدوار بين واشنطن وتل أبيب، أم أن كل المسارات تدور جديًّا وحقيقة حول شخص واحد وتنتهي به، وهو أشهر مجرم حرب في التاريخ الحديث، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الذي يستقوي بالدعم الأمريكي وبجمهوره الإسرائيلي المتحول لليمين).
فلغاية الآن، يظهر للعالم أنه الحلّ والربط بيده. ولهذا، ثمة شيء ما يبدو غير مفهوم، وضبابيًّا، خصوصًا وأن جميع الأطراف ترفض تأكيد نجاح المحاداثات، وبالتالي وضمان الالتزام الإسرائيليّ بما سيتم التوافق عليه.
نتنياهو وتاريخ من المراوغة وتعطيل الحلول
في العلن، يصرّ نتنياهو على أن قواته لن تنسحب من الحدود بين غزة ومصر، وهو مطلب رئيسي لكل من حركة "حماس" ومصر في المحادثات للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. لكن في السر، عرض فريقه المفاوض سحب القوات كجزء من اتفاق مرحلي، وفقًا لثلاثة مسؤولين حاليين وسابقين من دول تشارك في المحادثات (تحدّثوا لوسائل إعلام أمريكية بما في ذلك صحيفة "واشنطن بوست")، مما أثار حيرة الوسطاء في وقت حرج من الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب.
في مؤتمر صحفي في وقت متأخر من يوم الاثنين الفائت، وصف نتنياهو وجود إسرائيل هناك — على طول شريط ضيق من الأرض يعرف بممر فيلادلفيا — بأنه "ضرورة استراتيجية".
وكرر نقاط الحديث ذاتها في مؤتمر صحفي لوسائل الإعلام الأجنبية يوم الأربعاء، مشددًا على أن السيطرة على منطقة الحدود، التي استخدمتها حماس لفترة طويلة لتهريب الأسلحة والعتاد، ضرورية للحفاظ على الضغط العسكري على الجماعة.
يوم الاثنين الماضي، نقل ديفيد بارنيا، رئيس المخابرات الإسرائيلي، رسالة للوسطاء الأمريكيين والمصريين والقطريين، مفادها بأن تل أبيب مستعدة لسحب جميع قواتها من الممر خلال المرحلة الثانية من اتفاق مقترح مؤلّف من ثلاث مراحل، وفقًا لمسؤولين حاليين وسابقين تحدّثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة الدبلوماسية الحساسة. وقد أكدت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أولاً هذا العرض يوم الثلاثاء الفائت.
وتعليقًا على ذلك، أكد مسؤول أمريكي مطلع على سير المفاوضات (تحدث للصحافة الأمريكية) أن نتنياهو كان يرسل إشارات متباينة إلى المفاوضين والجمهور الإسرائيلي، وأضاف: "لقد كانت هذه الحالة لفترة من الوقت... ومن هنا تأتي إحباطات بارنيا".
وانطلاقًا من هذه النقطة، فإن التباين الصارخ بين خطاب نتنياهو يوم الاثنين — الذي أكد عليه يوم الأربعاء — والموقف الذي قدمه بارنيا بشكل خاص في ذلك اليوم، بدا أنه يتجاوز الرسائل المخصصة التي يرسلها سياسي ماهر هيمن على السياسة الإسرائيلية لعقود.
فغالبًا ما يقول نتنياهو شيئًا علنيًا ويفعل شيئًا آخر — مثل تعهده ببذل كل ما في وسعه لإعادة الرهائن إلى الوطن، بينما يقيّم العديد من الإسرائيليين والوسطاء الأجانب أنه يعيق التوصل إلى اتفاق، بحسب داليا شيندلين، محلّلة استطلاعات ومستشارة حملات مقرها تل أبيب. وأضافت أن نتنياهو استخدم هذا التكتيك طوال مسيرته المهنية لتعطيل الجهود الرامية إلى التوصل إلى حل شامل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
وتابعت: "لكن هذا هو المثال الأكثر تطرفًا للمعلومات المتعارضة تمامًا حول عملية صنع القرار لدى نتنياهو.. إنه مختلف عن المعتاد."
تقييم داخلي وخارجي لمواقف نتنياهو المتباينة
في الواقع، أثارت تصريحات نتنياهو الأخيرة المتناقضة، الجدل لدى الكثير من الخبراء والمراقبين داخل وخارج الكيان الغاصب. تبعًا لذلك، أكد يوهانان بليسنر، رئيس معهد الديمقراطية الإسرائيلي، أن المؤتمر الصحفي الذي عقده نتنياهو يوم الاثنين كان على الأرجح بهدف طمأنة الجمهور الإسرائيلي — وقاعدته اليمينية على وجه الخصوص — إلا أن الحكومة لم تقدم تنازلات نتيجة مقتل ستة رهائن.
وإذ وصف بليسنر نتنياهو بأنه "سياسي بارع، وأتوقع أن يناور زعيمًا سياسيًّا. لكنه أضاف: الفجوة بين المواقف التي تم تحديدها للجمهور ووسطاء وقف إطلاق النار ليلة الإثنين، حتى بمعايير نتنياهو، إنها غير عادية إلى حد ما."
الجدير بالذّكر أنَّ جميع المحلّلين متّفقون على أنَّ بارنيا لن يتصرف دون موافقة نتنياهو، وهو ما دفع بمسؤول مصري سابق إلى القول: "الوضع في إسرائيل مشوش للغاية"، مضيفًا أن الرسائل المتضاربة تثير إحباط مصر والوسطاء الآخرين.
بالمقابل، أشار مسؤول إسرائيلي (تحفظ عن كشف هويته للواشنطن بوست بسبب مناقشة المفاوضات الحساسة) إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تكون فيها الرسالة الداخلية والخارجية شيئًا مختلفًا. وقال: "هناك بعض المسؤولين الذين لا يعتقدون أن الاتفاق سيتجاوز المرحلة الأولى، إذا حدث."
مراحل تنفيذ الاتفاق
على مدى أشهر، عمل الوسطاء الأمريكيون وغيرهم على تحديد معالم الاتفاق بشكل واسع، وهو يتضمن ثلاث مراحل وتبادل الرهائن الإسرائيليين مع السجناء الفلسطينيين. كما سيسمح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل غير مقيد، ويتطلب انسحاب إسرائيل من المراكز السكانية الرئيسية.
وبموجب إطار الاتفاق الذي تم تقديمه في مايو/أيار الماضي، تبدأ المرحلة الأولى بوقف إطلاق نار أولي، لمدة ستة أسابيع، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية — لكن يمكن أن تستمر تلك المرحلة طالما أن أي طرف لا ينتهك شروطها. وتوقع مسؤول مصري سابق مطلع على المحادثات، أن تنسحب القوات الإسرائيلية في المرحلة الأولى من حوالي نصف الممر.
أثناء تلك الفترة، يتفاوض الأطراف على شروط المرحلة الثانية، بما في ذلك الإفراج النهائي عن الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية ووقف دائم لإطلاق النار.
وعليه، إذا استأنفت إسرائيل القتال بعد المرحلة الأولى — وهو ما تعتقد حماس أن إسرائيل تنوي فعله — فإن ذلك سينهي الاتفاق قبل أن يتم تنفيذ المرحلة الثانية.
وفي السياق ذاته، أوضح مسؤول كبير في إدارة بايدن أمس الأربعاء، أن إسرائيل أصرت على الاحتفاظ ببعض القوات خلال المرحلة الأولى في أجزاء من ممر فيلادلفيا التي تقول إنها لا تتطابق مع تعريف "المنطقة ذات الكثافة السكانية العالية"، وأن هذه القضية هي حاليًا موضوع مفاوضات.
ويقرّ المسؤول، الذي تحدث إلى الصحفيين بشرط عدم الكشف عن هويته وفقًا لقواعد البيت الأبيض، بأن المرحلة الثانية من الاتفاق، كما هو مكتوب، تدعو إلى انسحاب إسرائيلي كامل.
التوقعات بشأن مستقبل الاتفاق
اللافت، أن المسؤولين الأمريكيين يعترفون بأن هناك شكوكا حول ما إذا كان الإسرائيليون مهتمين بالتحرك نحو وقف دائم لإطلاق النار، والسير بالمرحلة الثانية. ويلفتون أيضًا إلى أنه إذا كان نتنياهو سينحني بشأن قضية الحدود، فلا يزال من غير الواضح ما إذا كانت حماس ستوافق على صفقة. ومع ذلك، يبدي هؤلاء المسؤولون في واشنطن تفاؤلهم بأن ستة أسابيع من الهدوء، من المرجح أن تخلق ظروفًا على كلا الجانبين تجعل من الصعب استئناف الأعمال العدائية، وأن النافذة ستخلق المزيد من الضغط لتقديم تنازلات.
في المحصلة، حتى لو تم الاتفاق في المستقبل القريب، فإنه لن يعيش طويلاً، خصوصًا عندما يحصل الصهاينة على مرادهم، وهو ما لخصه مسؤول مصري سابق بالقول، إن "إسرائيل تريد استغلال المرحلة الأولى. يمكنهم الحصول على رهائنهم، ثم في المرحلة الثانية سيقولون: لا، لن نستمر. هذا ما نتوقعه.