كانت دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي خلال الحرب بين إسرائيل وحماس في طليعة الجهود العالمية لوقف إراقة الدماء في غزة والدفاع عن حقوق الإنسان للفلسطينيين. وقد استدعت حكومات المنطقة سفراءها، أو قطعت علاقاتها مع إسرائيل بسبب الحرب أكثر من أي منطقة أخرى، بما في ذلك العالم العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ووصف المسؤولون في ما يقرب من نصف دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ة ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية، واتخذ البعض خطوات للضغط على الحكومة الإسرائيلية لإنهاء عملياتها العسكرية العشوائية هناك. وكانت كولومبيا من بين الدول الأكثر انتقادًا لإسرائيل، وعلقت مشتريات السلاح منها وأوقفت تصدير الفحم الحجري إلى إسرائيل التي كانت تشتري 50 في المئة منه سنويًا.
وعلى الرغم من المواقف التي أبدتها دول المنطقة من الحرب، إلا أن المنظمة التي يطلق عليها منظمة الدول الأميركية، وتتخذ مقرًا لها في العاصمة الأميركية واشنطن، وهي منبر الحوار في النصف الغربي للكرة الأرضية لم تعبر عن هذه المشاعر المؤيدة للحق الفلسطيني. وتباين موقف المنظمة سيؤدي لتآكل شرعيتها في المنطقة، وقد يدفع الدول إلى المنظمات الأخرى البديلة التي لا تمارس فيها الولايات المتحدة تأثيرًا كبيرًا.
وقد شجب الأمين العام للمنظمة لويس ألماغرو هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، واصفًا اياه بالإرهابي، وأكد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. لكنه لم يقل شيئًا منذ ذلك الوقت، ومع ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين إلى أكثر من 40,000 والحاجة الى حماية حقوق المدنيين الفلسطينيين، ولم يشجب التقارير عن التعذيب بحق المعتقلين الفلسطينيين. ويعتبر موقف ألماغرو متناقضًا مع نظيره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي طالب بوقف فوري للنار في غزة. ولا يتناقض موقف ألماغرو الداعم لإسرائيل وحقها بالدفاع عن النفس مع مبادئ منظمة الدول الأميركية للدفاع عن حقوق الإنسان، بل إن مواقفه انفصام بين قيادة المنظمة وقرارات التصويت التي اتخذتها غالبية الدول الأعضاء فيها؛ فمن بين ثلاثة قرارات عن إسرائيل- فلسطين ناقشتها الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الأشهر الـ11 الماضية، يتعلق اثنان منها بهدنة إنسانية ووقف إطلاق النار والثالث يتعلق بعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، عارضت ثلاث دول في المنظمة القرارين الأولين، وعارضت اثنتان القرار الثالث. وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي عارضت القرارات الثلاثة.
ولعبت منظمة الدول الأميركية في أثناء الحرب الباردة دورا في شرعنة الأنظمة الاستبدادية مثل نظام أوغستو بينوشه في تشيلي، حيث عقدت مؤتمرها السنوي عام 1979 في العاصمة سانتياغو. وانحازت المنظمة إلى تدخلات عسكرية معادية للديمقراطية دعمتها ونفذتها الولايات المتحدة مثل الانقلاب العسكري في غواتيمالا عام 1954. وبعد عقود من الزمان، يبدو أن المحافظين الجدد وغيرهم من الفصائل المتشددة في واشنطن والحلفاء في الأميركيتين، لايزالون يتمتعون بنفوذ في على المنظمة، الأمر الذي يعيق قدرتها على العمل كهيئة ديمقراطية حقيقية متعددة الأطراف تمثل البلدان الواقعة في النصف الغربي للكرة الأرضية.
إن الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الرئيس، والمصدر الرئيس للدعم العسكري والاقتصادي والسياسي، هي المساهم المالي الأكبر في منظمة الدول الأميركية، ما يمنح واشنطن نفوذا كبيرا على أجندتها. ومع ذلك، فإن هذا النفوذ وحده لا يفسر أبدًا موقف قيادة المنظمة المتصلب من الحرب. بل هناك شبكة عابرة للدول من السياسيين والناشطين اليمينين المتطرفين والمنظمات التي تمارسـ وخلال الفترتين لألماغرو دورًا كبيرًا على المنظمة المتعددة الأطراف بحسب عدد كبير من المسؤولين البارزين الحاليين والسابقين في المنظمة.
ففي العام 2020، استقبل الماغرو زعيم فوكس، الحزب اليميني المتطرف في إسبانيا، سانتياغو أبسكال في الأمانة العامة في واشنطن. وأشاد أبسكال بالمنظمة كجسر مهم للمنظمات السياسية التي تحمل أفكارًا تعارض “اليسار المتطرف”. وحاول الحصول على دعم الماغرو لدعم منتدى مدريد الناشئ، وهو تحالف ينسق الجهود المحافظة لمعارضة الحركات التقدمية في العالم. ويضم المنتدى الرئيس الأرجنتيني المتطرف خافيير ميلي، ويحظى بشكل مستمر بالعلاقة مع الأمانة العامة لمنظمة الدول الأميركية كما ظهر في اجتماع عقد في شهر آذار/مارس بواشنطن. وعملت المنظمة طوال فترة رئاسة الماغرو على بناء علاقات قوية مع الحكومة الإسرائيلية والشبكات اليمينية التي تدعم عملياتها العسكرية المستمرة واحتلالها للأراضي الفلسطينية. وفي العام 2017، وبعد وقت قصير من صدور تقرير للأمم المتحدة يتهم إسرائيل بإنشاء نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين، سافر ألماغرو إلى إسرائيل وأشاد بحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كشريك إقليمي رئيس، مشيرًا إلى “التزامها الديمقراطية وحقوق الإنسان”.
كما ظهر الأمين العام بشكل رسمي غير مسبوق في مؤتمرات لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) وهي مجموعة الضغط المؤيدة لإسرائيل التي يتوقع أن تنفق 100 مليون دولار هذا العام لهزيمة المرشحين للكونغرس الأميركي التقدميين. وقد ظهرت هذه الروابط الوثيقة بين المنظمة وإسرائيل عبر سياسات تكشف عن تحيز مثير للقلق. ففي العام 2019، تبنى ألماغرو تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست المثير للجدل لمعاداة السامية، وتم نشره لقمع الانتقادات الموجهة لإسرائيل. ولم تتبن الأمم المتحدة ولا أي من منظمات حقوق الإنسان الدولية الرائدة تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست. وفي العام 2021، قام الأمين العام للمنظمة باستحداث “مفوضية لمراقبة ومكافحة معاداة السامية” من دون أن يستحدث أدوارا مماثلة داخل أمانته لمعالجة العنصرية ضد السود الأصليين في نصف الكرة الغربي الذين كانوا ضحايا ظلم تاريخي صارخ ومنهجي، وهم في كثير من الأحيان أهداف لجرائم الكراهية اليوم – بما في ذلك في الولايات المتحدة. كما يمثلون تجمعًا سكانيًا هو أكبر بنسبة 3000% من اليهود في المنطقة. وأشار المسؤولون في منظمة الدول الأميركية الذين تمت استشارتهم لهذا المقال إلى أن المنظمة فقدت نزاهتها السياسية على مدى العقد الماضي.
وعلى النقيض من ألماغرو، حافظ سلفه، خوسيه ميغيل إنسولزا الذي قاد المنظمة من العام 2005 إلى 2015 على نهج متوازن بإدانة الأعمال العسكرية الإسرائيلية ودعم دعوات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار خلال الحرب التي استمرت خمسين يوما في غزة عام 2014. وعملت المنظمة في ظل إنسولزا، على بناء منبر يمكن من خلاله التعبير عن مختلف وجهات نظر بشأن الصراع، بما يتماشى بشكل وثيق مع المبادئ الديمقراطية للمنظمة. وهذه المرة، كرمت الجماعات التي تدعم حرب إسرائيل في غزة ألماغرو. ففي نيسان/أبريل، منحته المنظمة جائزة “لعمله في مكافحة معاداة السامية”. وقد هيمن على الحدث الذي أقيم في مقر المنظمة في واشنطن، متحدثون من أقصى اليمين نددوا بالحكومات الإقليمية التي استخدمت التدابير الدبلوماسية لمحاولة تحقيق وقف إطلاق نار دائم في غزة. وكان من بين الحاضرين النائبة الجمهورية ماريا إلفيرا سالازار المدافعة القوية عن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب التي أشارت ضمنًا إلى أن ستة رؤساء من أميركا اللاتينية حرضوا على جرائم الكراهية ضد اليهود بمعارضتهم الصريحة للحرب بين إسرائيل وحماس.
وقبل خمسة أشهر فقط أشادت سالازار بالأرجنتين لأنها “عرق واحد” في مقطع فيديو قدمته لتأييد المرشح آنذاك – والرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف الآن – خافيير ميلي، مستشهدة بالفكرة العنصرية الزائفة بأن الأرجنتين بلد ينحدر من الأوروبيين البيض ويمحو سكانها السود والسكان الأصليين.
وفي الوقت الحالي، لا تفكر أي دولة عضو في منظمة الدول الأميركية بمناقشة الحرب في غزة داخل المنظمة. وبدل ذلك، لجأ العديد من الدول إلى تجمعات إقليمية أخرى، مثل مجموعة دول أميركا اللاتينية ومنظمة البحر الكاريبي، وهي منظمة متعددة الأطراف تضم بلدان الأميركيتين باستثناء الولايات المتحدة وكندا، فقد دعت 24 دولة إلى وقف فوري لإطلاق النار في وقت مبكر من شهر أذار/مارس. وفي تموز/يوليو، استخدمت البرازيل نفوذها الإقليمي بتحالف ميركوسور لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع السلطة الوطنية الفلسطينية. وحتى مجموعة دول البحر الكاريبي المكونة من 14 دولة التي كانت حتى وقت قريب مترددة بالتعبير عن مواقف واضحة من النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني اتحدت ضمن منظمة مجتمع الكاريبي بسبب التأثير الأميركي، واعترفت بدولة فلسطين وعارضت الحرب. واعترفت 32 دولة من بين 35 دولة في الأميركيتين بدولة فلسطين، اعترفت أربع منها بفلسطين بعد اندلاع الحرب في غزة العام الماضي. ولكن قيادة منظمة الدول الأميركية وفي تحد لرغبات الدول الأعضاء واصلت تقديم الغطاء الدبلوماسي للعنف الذي ترتكبه حكومة نتنياهو التي تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية – وهي القضية التي تدعمها سبع دول من أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
واصلت المنظمة في ظل قيادة الماغرو الانحراف عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يفترض أنها تأسست من أجل الدفاع عنها. وإذا ظلت منظمة الدول الأميركية على مسارها الحالي، متجاهلة، بل ومعارضة حتى لآراء العديد من أعضائها، فمن المرجح أن ينظر إليها وبشكل متزايد بأنها غير مهمة وفي معظم أنحاء المنطقة.