ما زالت فرنسا تشهد وضعًا سياسيًا معقدًا يشوبه الكثير من عدم اليقين، منذ أن قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية مبكرًا، بعدما فشل حزبه (حزب النهضة) في الانتخابات الأوروبية. وتجدر الإشارة إلى أن الانتخابات التشريعية قد أُجريت في وقت زمني قصير، وعلى دورتين اثنتين، في 30 يونيو ثم 7 يوليو 2024، وأسفرت هذه الانتخابات عن بروز ثلاث كتل، وهي تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري، وائتلاف “مَعًا” بقيادة الرئيس ماكرون المنتمي لتيار الوسط، وأخيرًا التجمع الوطني اليميني، وإن لم تتمكن أيٌّ من هذه الكتل من تأمين الأغلبية المطلقة اللازمة لتشكيل الحكومة.
وفي سياق البحث عن حَلٍّ لهذا المأزق السياسي قبل حلول سبتمبر 2024، وضمانًا لاستقرار البلاد، ما زالت المناقشات تدور بين الأحزاب المختلفة لتشكيل ائتلاف حكومي يكون قادرًا على النجاة من تصويت عدم الثقة، وبحيث يكون بعيدًا عن أقصى اليمين الذي استطاع خلق المفاجأة في الدورة الأولى، وعن اليسار المتشرذم، الذي يتعين عليه إدارة خلافاته، لا سيّما بعدما تمكن من وقف زحف اليمين المتطرف نحو السلطة، باكتساحه لنتائج الدورة الثانية من الانتخابات، وإن كانت دون أغلبية مطلقة تمكنه من الانفراد الحكم.
وضع اقتصادي واجتماعي .. يسائل حكومة تفتقر إلى الثقة
لقد شهدت فرنسا، وهي ثاني أكبر اقتصاد أوروبي، أزمات سياسية عديدة، تعود بجذورها إلى أصول قديمة، سببها الأول هو انعدام المساواة، والركود الاقتصادي، والإقصاء لكتلة من المواطنين الذين لا يستفيدون من النظام، وهو ما أسفر عن ظهور استياء اجتماعي عميق يصاحبه انعدام الثقة في الحكومة. ولعل أوضح مثال على ذلك هو الاحتجاجات التي أشعل فتيلها أصحاب السترات الصفراء عام 2018.
ولا شك أن عدم إحراز تقدم حقيقي، إضافة إلى عدم رضا الفرنسيين عن المؤسسات السياسية التقليدية، كان لهما الدور الحاسم في ظهور الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية التي عانت منها فرنسا، والتي ألقت بظلالها على الحياة السياسية من خلال فضائح متعددة، أدت بشكل كبير إلى تآكل شرعية مَنْ هم في مواقع السلطة، لا سيّما أن هذه النخبة باتت “تبدو” وكأنها تسخر من احتياجات ومخاوف المواطنين الذين يشعرون بأنهم عاجزون عن مواجهة النخبة، والتي يبدو أنها تتمتع بشكل من أشكال الإفلات من العقاب في تجاوزاتها. وقد احتدمت الأزمة السياسية بسبب صعود الأحزاب الشعبوية والاستقطاب المتزايد في المجتمع، مما عمّق الهوة الأيديولوجية، وجعل الوصول إلى توافق الآراء والحلول الوسط حُلمًا بعيد المنال؛ وهو ما بات يستدعي الفهم المتعمق لجذور الأزمة السياسية الفرنسية، وتطوير الحلول، بُغية استعادة الثقة وتعزيز الديمقراطية.
من البديهي أن الانتشار السريع لجائحة كوفيد-19، وما ترتب عليه من إجراءات الإغلاق وشل الحركة الاقتصادية، كل ذلك قد تسبب في حدوث أكبر ركود عرفته فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية. فقد كانت فرنسا تخطط وتتطلع إلى إنهاء هذه الأزمة الصحية في بداية عام 2022، بُغية النهوض باقتصادها، إلا أن الوضع الجيوسياسي عرقل خطط التعافي الاقتصادي بسبب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثيراتها على الشركات الفرنسية. ففي العام 2020، كان من المتوقع أن ينخفض الإنتاج بنحو 9%، وأن يبدأ التعافي جزئيًا في العام التالي، مع استمرار الشعور بآثار الوباء. ولكن المخاطر، ولا سيّما المتعلقة بالمتحوّر الجديد للفيروس وبطء عملية التطعيم، قد أدت إلى خلق حالة من عدم اليقين.
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وفي ظل العقوبات المفروضة على روسيا، والتوترات حول إمدادات وأسعار الطاقة وبعض المواد الخام، والتضخم، وتقلبات الأسواق المالية، كل هذه الأمور باتت تشكل معوقات أمام السياق الجيوسياسي والاقتصادي العالمي، وكان من شأنها التأثير على الشركات الفرنسية الصغيرة والمتوسطة على مستويات مختلفة، حتى لو لم تكن تنتج أو تُصَدِّر مباشرة إلى روسيا. ومن المعروف أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا قد تسببت في إرغام العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة على اتخاذ قرار بوقف الإنتاج والصادرات، سواء كانت موجودة داخل روسيا أم خارجها، حتى أن ما يزيد على 500 شركة فرنسية في روسيا، وخاصة في قطاعات الطاقة والسيارات والخدمات المالية، تأثرت سلبًا بهذه العقوبات، رغم محاولات وزير الاقتصاد، برونو لومير، عدم تضخيم الأمور.
ووفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، ارتفع معدل الفقر النقدي في فرنسا الحضرية، حيث وصل إلى 14.5% في عام 2021، وتُعزى هذه الزيادة جزئيًا إلى الأثر الاقتصادي للأزمة الصحية لكوفيد-19، مع استفحال ظاهرة عدم المساواة في الدخل، والتي كانت تقابلها زيادة ملحوظة في دخل الأسر الأكثر ثراء. صحيحٌ أن معدل البطالة قد شهد بعض الانخفاض مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أن العديد من القطاعات ما زال يعاني، ولا سيما تلك المتأثرة بالقيود الصحية.
وبهدف وضع تشخيص للوضع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في فرنسا، وحالة الشعب الفرنسي في خريف عام 2023، ومن أجل إعلام السياسات العامة والتأثير عليها، قدم التقرير السنوي لحالة فرنسا (RAEF 2023) العديد من التوصيات لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للبلاد، وقد تضمنت هذه التوصيات تقليص فجوات الدخل، وضمان الحصول على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والإسكان، وتعزيز القوة الشرائية للأسر، من خلال إصلاح نظام الضرائب ودعم الأجور المنخفضة، وضرورة تسريع الانتقال إلى اقتصاد أكثر اخضرارًا، من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة والحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، واقتراح القيام بإصلاحات لتعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات العامة، وتعزيز الشفافية، والاستثمار في التدريب والتعليم لتعزيز قابلية التوظيف.
تحليل نتائج الانتخابات الفرنسية .. نتائج تخالف كل التوقعات
بموجب قانون حل الجمعية الوطنية، يكون الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد وضع نهاية مبكرة لفترة ولاية جميع أعضاء الجمعية الوطنية، بعد فوز التجمع الوطني في الانتخابات الأوروبية، وهكذا جرى تقديم موعد الانتخابات التشريعية المقررة في عام 2027 إلى عام 2024، وهو القرار الذي وصفه البعض بأنه “زلزال سياسي حقيقي”، أو بأنه “مقامرة”.
ومن هذا المنطلق، تم إجراء الانتخابات التشريعية الفرنسية لعام 2024، في وقت يبدو شديد القِصَر؛ إذ إن الفترة الفاصلة بين إصدار القرار الرئاسي القاضي بحل الجمعية الوطنية (تاريخ إعلان الحل هو 9 يونيو 2024)، وبين إجراء الجولة الأولى (التي جرت يوم 30 يونيو)، هذه الفترة لم تزد على ثلاثة أسابيع. وقد شهدت الجولة الأولى فوز 39 مرشحًا من التجمع الوطني (وحصل على 33.1% من الأصوات)، في حين تمكنت الجبهة الشعبية الجديدة من الفوز بـ 31 مقعدًا (وحصلت على 28% من الأصوات). أمّا معسكر الرئيس ماكرون، فقد حَلّ في المركز الثالث بحصوله على 20% فقط من الأصوات. وهكذا، لم يقتصر فوز التجمع الوطني على عدد الأصوات فقط، بل كان فائزًا أيضًا من حيث عدد الممثلين المنتخبين، والذين كان معظمهم من نواب اليمين المتطرف منذ عام 2022.
نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية الفرنسية (30 يونيو 2024)
وقد شهدت هذه الجولة تصويت أكثر من 10.6 ملايين فرنسي على المستوى الوطني، وكان من شأنها ترسيخ مكانة النواب الحاليين من الشخصيات البارزة ذات التاريخ الطويل، الذين استعادوا مقاعدهم بنفس عدد الأصوات التي اعتادوا الحصول عليها، وهو ما أشارت إليه مارين لوبان في خطابها التليفزيوني عندما صرحت قائلة: “أشكر ناخبي دائرتي الانتخابية الذين جددوا ثقتهم بي من خلال إعادة انتخابي في الجولة الأولى بنسبة 58% من الأصوات”.
وبالمقارنة مع نتائج انتخابات الدورات السابقة، يتبيّن أن الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي جرت يوم 30 يونيو 2024، أسفرت عن انتخاب ستة وسبعين نائبًا، وهو رقم اعتبر أعلى بكثير مما كان عليه في الانتخابات السابقة، إذ كانت النتيجة في عام 2022 (5 منتخبين)، وفي عام 2017 (4 منتخبين)، وفي عام 2012 (36 منتخبًا)، إلا أنه يظل أقل من ذلك المسجل في عام 2007 (110 منتخبين).
وفي قراءة لتداعيات الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة وما خلفته من إحباطات وتخوفات، وعن احتمال مواجهة أزمة مؤسسية تمس حدود الجمهورية الخامسة، كشفت البرلمانية جيرار هارلوت، عن حزب اليسار، “أن هناك شيئًا من الأزمة المؤسسية والدستورية، إلا أن الأمر بعيد عن كونه ارتباطًا بالجمهورية الخامسة، بل هو أمر يتعلق بالدرجة الأولى بالخيارات الاقتصادية والسياسية المتاحة، التي تضع الناخبين أمام بدائل محبطة للغاية، مثل الاضطرار إلى الاختيار بين مرشح يمين الوسط أو اليمين، وبين مرشح اليمين المتطرف، بدلًا من القدرة على اختيار بديل سياسي حقيقي، ليبقى هذا التأثير لمصادرة الاختيار، الذي يضر جدًا بالديمقراطية، وهذا موجود في بلدان أخرى ليس لديها دستور فرنسا“.
يرى البعض أن تشكيل حكومة بقيادة حزب التجمع الوطني في فرنسا، الذي كان منبوذًا منذ فترة طويلة بالنسبة للكثير من الفرنسيين، من شأنه أن يثير تساؤلات كبيرة حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، كون أن الحزب يعارض من الأصل تعزيز التكامل مع الاتحاد الأوروبي، كما يثير القلق بشأن كيفية تطبيق سياسات “فرنسا أولًا” على الأقليات العرقية في مجال حقوق الإنسان، وحول ما إذا كانت خطط الحزب للإنفاق الواسع ممولة بالكامل، وهو الوضع الذي وصفه الرئيس السابق للمجلس الأوروبي بـصفة “الاتجاه الخطير”، الذي يثير مخاوف في القارة من أن “تصبح فرنسا في القريب العاجل شوكة في خاصرة أوروبا المعرضة للمواجهة بين القوى المتطرفة “.
من المعروف أن حزب التجمع الوطني يناهض الهجرة، ويشكك في جدوى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو معروف أيضًا بالعنصرية ومعاداة السامية، وكلها مواقف جعلت منه حزبًا غير مرغوب فيه، ومن ثم فإن فوزه قد خلّف ردود أفعال متباينة من الأحزاب السياسية الأخرى، بحيث يمكن أن يدفعها لكي تتحد بُغية إنشاء تحالفات هدفها تشكيل حكومة، وهذه الحكومة ستعتمد على نجاح الأحزاب الأخرى في هزيمة لوبان من جهة، ومواجهة تأثير التجمع الوطني من جهة أخرى، مما سيفضي إلى مزيد من الاستقطاب في المشهد السياسي.
خلاصة القول إن فرنسا، في ظرف أسبوع، قد شهدت انقلابًا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، خلقت فيه الجبهة الشعبية الجديدة “المفاجأة” في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية يوم الأحد 7 يوليو، إذ أصبحت هي قوة الأغلبية الجديدة في الجمعية الوطنية، يليها المعسكر الرئاسي، ثم التجمع الوطني.
ووفقًا لنتائج وزارة الداخلية، جاء التحالف اليساري في المقدمة، إذ فاز بـ 180 مقعدًا في الجمعية الوطنية (25.8% من الأصوات)، في حين غاب التجمع الوطني – مع حلفائه – عن المسيرة، بعدما كان يتصدر استطلاعات الرأي خلال الحملة الانتخابية. وعلى خلاف ذلك تضخمت أعداده، منتقلة من 89 ممثلًا منتخبًا حتى ذلك الحين، وحصل الحزب على 143 نائبًا (37.06% من الأصوات).
وفي المقابل، كان أداء المعسكر الرئاسي أفضل من المتوقع – 168 مقعدًا (24.53% من الأصوات) – مستفيدًا من الانسحابات بين الجولتين، مع فقده لحوالي مائة نائب. يُذكر أن كتلة الرئيس ماكرون كان لديها الأغلبية في الجمعية الوطنية قبل الانتخابات. وقد حل تحالف “مَعًا” الرئاسي في المركز الثاني، وحصل على 168 نائبًا فقط، بعد أن كان لديه أغلبية قبل حل الجمعية الوطنية، يليه حزب التجمع الوطني الذي حلّ في المركز الثالث بـ 143 نائبًا. ويأتي بعد ذلك الجمهوريون ومختلف المرشحين اليمينيين، الذين ينتمي إليهم 66 مسؤولًا منتخبًا، فيما هناك 35 نائبًا من المستقلين أو الذين ينتمون إلى عدد من الأحزاب الصغيرة وبعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات التشريعية، لجأ اليسار إلى استخدام أسلوب التحالف لكي يحد من زحف التجمع الوطني خلال الجولة الثانية، وذلك تحت راية الجبهة الشعبية الجديدة، التي شكلها كُلٌّ من الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الأخضر الأوروبي، وحزب فرنسا الأبية اليساري المتطرف، حاصدًا بذلك المركز الأول (176 مقعدا)، عكس كل التوقعات. يليه ائتلاف “مَعًا” لتيار الوسط، ثم كان المركز الثالث من نصيب التجمع الوطني، متراجعًا عن المركز الأول، إلا أن هذا التحالف لم يحقق الأغلبية المطلقة التي تمكنه من الوصول إلى السلطة (وهي 289 مقعدًا في الجمعية الوطنية/ البرلمان).
نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية الفرنسية، في 7 يوليو 2024
وفي ضوء هذه النتائج طالب زعيم حزب فرنسا الأبية رئيس الوزراء بـــ “الرحيل”، وأضاف أنه يجب على الرئيس “دعوة الجبهة الشعبية الجديدة لتولي الحكم”. ومن جانبه أعلن السكرتير الأول للحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، أن “دور الجبهة الشعبية الجديدة سيكون إعادة تأسيس مشروع جماعي لبلدنا “.
في فوز مفاجئ لليسار – وهي خطوة غير متوقعة – تقدمت الجبهة الشعبية الجديدة في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية لعام 2024، حيث تم انتخاب ما بين 181 نائبًا إلى 200 نائب، ليسارع جان لوك ميلانشون، وهو أحد مخضرمي اليسار، والذي يعتبره منتقدوه متطرفًا، سارع إلى إعلان النصر، قائلًا لأنصاره في ميدان ستالينجراد: “يجب على الرئيس أن يدعو الجبهة الشعبية الجديدة لتولي الحكم”، وأصر على أن ماكرون يجب أن يعترف بأنه وائتلافه قد خسروا، وأن قادة التحالف مستعدون للحكم. ويُذكر أن تحالف ميلانشون، الذي تم تشكيله على عجل للمشاركة في الانتخابات المبكرة، يضم حزبه اليساري “فرنسا الأبية”، وكُلًا من الخُضر والاشتراكيين والشيوعيين، وحتى التروتسكيين، بالإضافة إلى فرنسا الأبية، وهو الحزب الذي رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلبه بتشكيل الحكومة المقبلة في أي ائتلاف حكومي جديد، رغم كونه لاعبًا أساسيًا في التكتل اليساري “الجبهة الشعبية الوطنية”، أو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، إلا أن افوزهم لم يكن كافيًا لتمكينهم من تَوَلّي أمور الحكم، وبالتالي سيكون لفرنسا برلمان مُعَلَّق، ولا يمكن لأيٍّ من الكتل الثلاث أن تشكل أغلبية مطلقة من 289 مقعدًا، من أصل 577 مقعدًا في البرلمان.
في هذا السياق أيضًا، اشتكى جوردان بارديلا، رئيس التجمع الوطني، من أن الهزيمة التي مُنِيَ بها حزبه جاءت على يد “تحالفات العار” غير الطبيعية التي شكلها “حزب واحد” يتكون من معسكر ماكرون واليسار. ومن الواضح أنه كان على صواب بشأن التحالف “غير الطبيعي”، الذي وصفه بالمؤقت والمريح فقط.
على الجانب الآخر، هناك رئيس الوزراء غابرييل أتال، وهو أصغر من تولى منصب رئيس وزراء فرنسا، والذي كان قد تعهد بحماية الفرنسيين من الخضوع لحكومة تضم وزراء من التجمع الوطني أو فرنسا الأبية، وكان من المقرر أن يقدم استقالته إلى إيمانويل ماكرون يوم الاثنين 8 يوليو، أي بعد يوم من الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، التي أسفرت عن فوز الجبهة الشعبية الجديدة بـ143نائبًا، وهي نتيجة تاريخية لليمين المتطرف، وتعهد كذلك بأن حزب التجمع الوطني بزعامة جوردان بارديلا، لن يحكم. وقد تم إرجاء موعد استقالة رئيس الوزراء غابرييل أتال وحكومته إلى 16 يوليو، بعدما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن قبولها في أعقاب الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء. وعلى هذا النحو، يبدو أن فرنسا تسعى لخلق تقارب يساري شامل، هدفه توحيد صفوف اليساريين، وتجاوز العقبات التي تعيشها الجبهة اليسارية، وخاصة فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي، بعد كل ما شهدته من خلافات خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، مرجعها الحرب في غزة، وهو ما دفع مانويل بومبار إلى اقتراح عقد لقاء بين قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والخضر، بُغية العمل بشكل واضح وموحد، دافعهم إلى ذلك هو الصعود القوي وغير المنتظر لليمين المتطرف. وتلا ذلك أيضًا البيان الذي أصدرته الجبهة اليسارية، وطالبت من خلاله بتأسيس جبهة شعبية جديدة تشمل جميع قوى اليسار الإنسانية والنقابية، وقوى المواطنة، ودعت إلى إيجاد بديل للرئيس إيمانويل ماكرون، ومكافحة المشروع العنصري لأقصى اليمين.
وتأسيسًا على ما سبق ذكره من محاور ووقفات، يمكن القول إن فرنسا تمر الآن بمرحلة من الغموض بشأن التحالفات الحزبية اللازمة لتشكيل الحكومة. فهناك حزب التجمع الوطني، المنهزم بنتائج مخيبة للآمال، مقارنة بنتائج الدورة الأولى، وهناك اليسار بتحالف مختلف التوجهات، وهناك رئيس يبحث عن ائتلاف يسار الوسط. ولعل هذا الأمر يثير التساؤلات حول خيار اللجوء إلى تشكيل حكومة تكنوقراط تدير الشؤون اليومية، أو اختيار شخصية توافقية مقبولة لدى الأغلبية؛ بالنظر إلى أن الرئيس غير مسموح له دستوريًا بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة مرة أخرى قبل مرور عام كامل للخروج من المأزق السياسي الراهن. ومن المحتمل طبقًا للدستور أن يقوم ماكرون بهذه الخطوة إذا تجمد الحكم في فرنسا؛ بحيث لا تستطيع أي حكومة تمرير القوانين أو إدارة البلاد.
معضلة تشكيل الحكومة الفرنسية في سياق أزمة الجمهورية الفرنسية الخامسة
إن معضلة تشكيل الحكومة الفرنسية تمثل واحدة من أهم التداعيات المباشرة لهذه الانتخابات، والتي أكدت وجود أزمة سياسية بنيوية في دائرة صناعة القرار الفرنسي، بل في أداء الجمهورية الفرنسية الخامسة نفسها، وقد ثبت هذا الأمر بشهادة العديد من الخبراء والمحللين السياسيين، ومن عدة مرجعيات، بحيث لم يسبق أن شهدنا مثل هذه الانتقادات حول أداء الجمهورية الخامسة بهذه الوتيرة، حتى بعد فوز الرئيس إيمانويل ماكرون في الفترة الرئاسية الأولى، ابتداءً من 2017.
صحيحٌ أن هناك رسالة واضحة وجّهها ماكرون في خطابه إلى الفرقاء السياسيين والحزبيين، الذي جاء بعد ثلاثة أيام من إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة التي شهدت هزيمة معسكره، على إثر صدمة الحل المفاجئ للجمعية الوطنية، معتبرًا أن “الأمر متروك للقوى الجمهورية لبناء أغلبية صلبة على أساس مبادئ عظيمة وقيم مشتركة“، بيد أن هذا الخطاب مَرّ مرور الكرام، وكأنه لم يصدر أساسًا، من هول تأزم المشهد السياسي، وهو التأزم الذي تعبّر عنه حدة الانتقادات التي وُجِّهَتْ إليه من قِبَل أغلب فرقاء الساحة. ولعل من مؤشرات كثرة الانتقادات – الكمية والنوعية – التي أكدت وقوع فرنسا في أزمة بنيوية، أن هذه الانتقادات يصعب حصرها، لذلك نقتصر على بضعة أمثلة دالة في هذا السياق:
ــ نقرأ في النموذج الأول تصريحًا للباحث في علم السياسة، سيمون بيرسيكو، وهو أستاذ جامعي للعلوم السياسية في جامعة غرونبل، في قوله “إن فرنسا قد وصلت إلى نهاية الجمهورية الخامسة”، على ضوء الأزمات التي كشفت عنها هذه الانتخابات، وخاصة “الجولة الثانية التي جسّدت الاستقطاب الثلاثي للحياة السياسية الفرنسية، وأجبرت اليسار على إعادة التفكير في استراتيجيته”، معتبرًا أن “ما هو مؤكد هو أننا نشهد إعادة برلمانية للنظام، أي قلب السلطة في البرلمان، وأيًا ما كان السيناريو ــ سواءً حكومة أقلية بدون مشاركة، أو حكومة ائتلافية، أو حكومة فنية ــ فينبغي أن نستفيد من هذه الفرصة التاريخية لإعادة التفكير في مؤسساتنا “.
ــ النموذج الثاني المهم هو ما صدر عن المفكر إيف سينتومر، المتخصص في قضايا الديمقراطية، إذ يرى أننا “نشهد أزمة الجمهورية الخامسة، وهي جزء من أزمة أوسع للديمقراطية الانتخابية، وتترجم الأزمة التي يشهدها النظام السياسي، لأنه عندما تم إنشاء الجمهورية الخامسة، على عكس الجمهورية السابقة، كان الهدف منها هو ضمان الاستقرار الحكومي والسماح بمزيد من سهولة الحكم، ولكن الذي حدث في واقع الأمر أنها ركزت الكثير من السلطة في يد الرئيس”. وأضاف أن “الجمهورية الخامسة ما تزال غير ديمقراطية، وبغض النظر عن الجهد المبذول لتحقيق اللامركزية، فإنها ما تزال ضعيفة مقارنة بدولة فيدرالية أخرى مثل ألمانيا، بل شهدنا صعود المجلس الدستوري الذي يلعب دور القوة المضادة “.
ــ وحسبما يرى الخبير والمحلل السياسي نيكولا يفاريز، فإنه “مع نهاية انتخابات عام 2024، أصبحت فرنسا رجل أوروبا المريض، وليس لديها مشروع، ولا قوى سياسية، ولا قاعدة لبدء انتعاشها”، معتبرًا أن فرنسا “تنزلق نحو المجهول، بينما تشتعل النيران مرة أخرى في كاليدونيا الجديدة، والاقتصاد في حالة توقف، ووكالات التصنيف والأسواق المالية والشركاء الأوروبيون يراقبون عن كثب الدين العام “.
ــ ونأتي أخيرًا إلى رأي الباحث الفرنسي من أصل تونسي، عبد النور بيدار، الذي يرى أنه “إذا تمت إزالة اليمين المتطرف من السلطة في نهاية الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، فإن هذا ينبغي أن يذكرنا بأن أسباب صعوده ما زالت موجودة، وأنه يجب ألا نقابل هذا التحذير الأخير بآذان صَمَّاء”، مضيفًا أن “الحقيقة التي يجب أن يدركها الفرنسيون جميعًا هي أن الجمهورية الفرنسية في حالة شرود، وخلال كل هذا الوقت، تخبّطت الأحزاب الحاكمة بعضها في بعض، على جميع المستويات الوطنية والمحلية، وباتت في حالة من العجز المشترك عن منع تفاقم العلل الاجتماعية، التي كانت سببًا في هذا النجاح لليمين المتطرف، ألا وهي: الحط من شأن الطبقات الاجتماعية والمجتمعات الثقافية، وإفقارها، وتعميم الانفصالية، والشعور العام بعدم الأمان، والخوف من تداعيات الهجرة، وتَشَوُّش الهوية الفرنسية “.
في هذا السياق – إذن – جاءت المشاورات المفتوحة على كل الاحتمالات بخصوص تشكيل الحكومة، وإن كان احتمال حدوث الأزمة هو العنوان الأبرز؛ وذلك لعدة اعتبارات، أقلها التأخر الطويل في الإعلان عن تشكيل الحكومة، حتى وصل الأمر إلى أن أولمبياد باريس، وهو حدث رياضي عالمي جرى تنظيمه بين 26 يوليو/ تموز و11 أغسطس/ آب 2024، هذا الأولمبياد انطلقت فعالياته في ظل غياب تشكيل الحكومة، وهو حدث شديد الدلالة، إذ يعبر عن الوضع السياسي المتشنج والسائد في الساحة. هذا الوضع لخصه المحلل السياسي تييري شوبان، وهو عالم سياسة أيضًا وأستاذ زائر في كلية أوروبا في بروج ببلجيكا، عندما اعتبر أن “هذا التشرذم يضع الحياة السياسية الفرنسية على المحك مع الديناميكيات التي تعمل في أوروبا، سواء على المستوى الوطني أو على مستوى الاتحاد الأوروبي، لكن درجتها غير مسبوقة بالنسبة للجمهورية الخامسة، كما أن الأحزاب السياسية الفرنسية تبدو غير مستعدة لها؛ بسبب الافتقار إلى ثقافة التسوية، ووحشية الحياة السياسية الفرنسية. والنتيجة الرئيسية لهذا الوضع واضحة، وهي عدم وجود أغلبية مستقرة، وبالتالي، سيكون من الصعب حكم فرنسا خارج الشؤون الحالية والعاجلة “.
من الخيارات التي جرى طرحها أيضًا في هذا السياق، بُغية تجاوز الاستقطاب السياسي/ الحزبي السائد، الرهان على الحل التكنوقراطي، من قبيل ما اقترحه إيمانويل كونستانتين، وهو موظف حكومي كبير سابق، وصاحب تجربة كبيرة كمستشار وزاري من خلال تعامله مع السياسيين السابقين، حيث اعتبر أنه “ثمة احتمال كبير للجوء إلى تشكيل حكومة من التكنوقراط وكبار موظفي الخدمة المدنية؛ للتعويض عن عدم وجود أغلبية سياسية، وأن هذا الأمر قد يستغرق مدة قصيرة من عام أو عامين، تخوّل لفرنسا استعادة علاقة أكثر صحة مع السياسة”. ويركز كونستانتين على جزئية مهمة، وهي أن “القول بأن آلة الدولة لديها بعض الجمود شيء، والقول بأن هناك ثقافة مقاومة محمومة ومتعمدة تقريبًا للسلطة السياسية والتطلعات الشعبية شيء آخر، وهذا ما تعنيه برأيه نظرية الدولة العميقة “.
بيد أن هذا الحل البديل لم يظفر بالتأييد من بعض خبراء العلوم السياسية، نذكر منهم على وجه الخصوص ميشيل بوفييه، وهو أستاذ فخري في جامعة باريس السوربون، والذي ذهب إلى أن الحقل الحزبي والسياسي يعيش تحت إيقاع “عدم اليقين السياسي، وعليه، فإن تنصيب حكومة تقنية من شأنه أن يرسل إشارة كارثية مزدوجة لكُلٍّ من المواطنين والعالم الاقتصادي، الذي لا يمكن أن يرى الحكومة التقنية إلا بمثابة استقالة للطبقة السياسية. وبالتالي، على الأحزاب السياسية أن تتبنى ثقافة التسوية، وإلا فإن تشكيل حكومة من التكنوقراط من شأنه أن يفتح الطريق أمام الحركات الشعبوية للتعبير عن المواطنين اليائسين”. ليس هذا وحسب، يضيف الخبير نفسه، لأن “هذا العجز عن التغلب على الخلافات الأيديولوجية بين الأحزاب السياسية، يعني بالضرورة استمرار الاختلاف حول مصالحهم الفردية أو الجماعية من قِبَل النساء والرجال الذين يسيطرون على إدارة شؤون الدولة، وحكم البلاد، وتلبية المصلحة العامة، وسيحكم عليه بشدة الناخبون الذين سيشعرون، عن حق، بالخيانة والاحتقار “.
بقيت إشارة أخيرة فيما يخص أهم القضايا التي يمكن أن تركز عليها أجندة عمل الحكومة في حال تشكيلها، وقد لخصها باقتدار الباحث أنييس فيردييه مولينيه، مؤلف كتاب “أين تذهب أموالنا؟”، حيث أحصى ثلاثة مجالات ذات صلة بعالم الاقتصاد والمال، لا تحتمل المزيد من التراخي في مواجهتها، وهي عدم الاستقرار الاقتصادي، وأزمة الديون، وهجرة رأس المال. ويقول: “سواء كان الأمر يتعلق بائتلاف حكومي كبير، أو ميثاق تشريعي، أو حتى حكومة تقنية، فسوف يتعين على الفرنسيين إلقاء نظرة فاحصة على الحسابات الكبرى”. وأضاف أن “فرنسا لا تستطيع تحمل انزلاق مفاجئ في اقتصادها، أمّا هروب رجال الأعمال ورؤوس الأموال إلى الخارج، فإنه يضر بالاقتصاد الفرنسي بشكل سيئ للغاية. إن الكوكتيل القادم خطير للغاية: هروب رأس المال، وأولئك الذين يدفعون الضرائب، وأزمة المالية العامة. ومن المحتمل أن تحدث زيادة لا يمكن السيطرة عليها في معدلات الديون، وهذا ما حدث في اليونان وأيرلندا والبرتغال “.
مفاوضات تشكيل الحكومة .. من التباطؤ إلى التسريع
بعد أكثر من شهر ونصف من المماطلة المؤسساتية الفرنسية التي تواجه تشكيل الحكومة، إلى درجة جعلت أحد الخبراء يصف المشهد وكأن “منصب رئيس الحكومة أصبح غير مرغوب فيه“، شرع قصر الإليزيه في التسريع من وتيرة تشكيل الحكومة ابتداءً من 22 أغسطس 2024، وبدأ الرئيس إيمانويل ماكرون يلتقي مجموعة من الفاعلين السياسيين الرئيسيين؛ بُغية تحديد رئيس الوزراء الجديد، بشعار صريح يفيد الانتصار لأغلبية برلمانية خلف المرشح، بدلًا من التركيز فقط على الانتماءات الحزبية، وهذا ما أشار إليه منسق “فرنسا الأبية” مانويل بومبار، (وهو من مرجعية يسارية)، حيث أكد أن ماكرون أصر على أنه يجب أن يكون الحكم في إطاره الدستوري، وإن كانت هناك إشارات تفيد بأنه لديه ميلًا إلى أن يكون هو من يختار. أمّا زعيمة حزب الخضر مارين توندلييه، فوصفت تصريحات ماكرون بالإيجابية، معتبرة أنه سيتعين على الجميع تغيير المسار. ومن جهة أخرى يبدو أن تصريحات ماكرون حول أهمية وجود أغلبية برلمانية خلف المرشح، جاءت مناقضة لبعض المحاولات والترشيحات التي روجت لها بعض تيارات الساحة، من قبيل دفع الجبهة الشعبية الجديدة بالموظفة المدنية لوسي كاستيتس لكي تصبح مرشحة الجبهة، مستندة إلى حجمها كأكبر مجموعة في البرلمان، مع أن حزبها يشغل بالكاد حوالي ثلث المقاعد في الجمعية الوطنية.
جديرٌ بالذكر أن هناك بعض الآراء لفاعلين سياسيين سابقين، استبقت ما تم الإعلان عنه في جولات المفاوضات بشأن تشكيل الحكومة، ومن ذلك على سبيل المثال، الدعوة التي وجهها الثنائي دانيال كوهن بنديت، عضو البرلمان الأوروبي السابق، وزكي العايدي، العالم السياسي، في مقال رأي في صحيفة “لوموند”، حيث أشارا إلى أنه “يجب على رئيس الوزراء المستقبلي، من أجل تجنب الرقابة، ألا يظهر كرجل الرئيس أو مرشح رئاسي في المستقبل، وأن يصوت للانتقال إلى التمثيل النسبي”، لأن “الوضع حساس للغاية. ولكن سيكون من العار أن نرغب في تجاوز هذه الأزمة انتظارًا لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة؛ لأنه لا يوجد خطأ أكثر فداحة من أن نرى في هذه الأزمة النتيجة الوحيدة لقرار حل الجمعية الوطنية. صحيحٌ أن هذا لن يساعد في أي شيء، لكن الشر سيظل موجودًا؛ لأنه جاء نتيجة لعجز النظام الانتخابي – ثنائي القطبية – عن استيعاب التقسيم السياسي الثلاثي، الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بمنطق التسوية “.
بعد الحديث عن هدف السعي إلى نَيْل “الأغلبية الأوسع والأكثر استقرارًا”، الذي حدده إيمانويل ماكرون في يوليو، تجري هذه المشاورات بُغية “معرفة الظروف التي يمكن فيها للقوى السياسية تحقيق هذا الهدف، حيث من المفترض أن يأخذ قرار تعيين رئيس الوزراء بعين الاعتبار هذين المعيارين”، حسب بيان صادر عن قصر الإليزيه. ومن بين الشخصيات التي التقى بها الرئيس الفرنسي، أسماء تداولتها الصالونات السياسية، وكذا بعض المنابر الإعلامية، من قبيل سياسيين من يسار الوسط، مثل برنار كازينوف وخافيير بيرتراند، وشخصيات محافظة مثل ميشيل بارنييه.
برز نجم برنارد كازينوف خلال الهجمات الإرهابية في عام 2015 حين كان رئيسًا لشرطة فرنسا، أمّا خافيير بيرتراند، فهو الوزير السابق ذو المواقف المعتدلة داخل اليمين الفرنسي. ومن الأسماء التي جرى ترشيحها أيضًا نجد ميشال بارنييه، وهو كبير المفاوضين في الاتحاد الأوروبي لمحادثات ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. جديرٌ بالذكر أن الاختيار قد وقع بالفعل على ميشال بارنييه، وكلفه الرئيس ماكرون بتشكيل الحكومة الجديدة يوم الخميس 5 سبتمبر 2024.
كانت رئاسة ماكرون واضحة في هذه اللقاءات الاستعجالية، مقارنة مع التباطؤ سالف الذكر، معتبرًا أنه إذا كانت نتائج الانتخابات التشريعية قد أرسلت رسالة تناوب إلى معسكره، فهي لا تعبّر عن تنصل كامل. ومن هنا فقد أخبر الرئيس الفرنسي معسكره أنه يبحث عن “حل مستقر مؤسسيًا من أجل تشكيل حكومة مستقرة وآمنة، قادرة على تجنب حل جديد، والسماح للبلاد بالمضي قُدُمًا لصالح الفرنسيين”، بتعبير رئيس الوزراء المستقيل، غابرييل أتال، في رسالة إلى نواب مجموعته، التي قال فيها إنه يؤيد “تعيين رئيس وزراء جديد لا يأتي من أحزاب الكتلة المركزية، مع حكومة تمثل طيفًا واسعًا من الحساسيات، من اليسار الجمهوري إلى اليمين “.
وفيما يخص تفاعل أحزاب الساحة، فقد أكد الحزب الشيوعي أن إيمانويل ماكرون أقرّ بان كل القوى السياسية التي شاركت في الجبهة الجمهورية ضد اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية، كانت مخولة شرعيًا لتولي الحكم بشكل تام، في إشارة الى الانسحابات بين الجبهة الشعبية وأنصار ماكرون في الدورة الثانية، التي حرمت التجمع الوطني من النصر الذي كان يترقبه. أمّا في صفوف اليمين فيتحفظ الجمهوريون على احتمال التوصل إلى اتفاق بشأن الحكومة، فيما تُبدي أطراف أخرى قدرًا أكبر من الانفتاح، ويجري تداول أسماء رؤساء وزراء سابقين، وصولًا إلى يسار الوسط.
ما هو مؤكد طيلة تلك المشاورات التي أجراها ماكرون مع أهم فرقاء الساحة، بما في ذلك مع بعض الأسماء المرشحة – افتراضيًا – للظفر بمنصب رئيس الحكومة، هو عدم الحسم في مرجعية هذا المرشح، فقد “يكون موظفًا حكوميًا كبيرًا، كما قد يكون محافظًا، أو شخصية من رموز العمل الأهلي. بل يمكن لإيمانويل ماكرون أيضًا أن يُخرج مفاجأة من قبعته في نهاية المقابلات التي سيجريها، فخلال فترتيْ ولايته لمدة خمس سنوات، لعب رئيس الدولة بالفعل لعبة المفاجأة؛ فقد اختار، على سبيل المثال، جان كاستكس لخلافة إدوارد فيليب في يونيو 2020 “. لكن هذا الاحتمال، على الرغم من أنه قد يبدو جذابًا على الورق؛ من خلال وضع رئيس وزراء كهذا فوق المعركة الحزبية، إلا أنه محفوف بالمخاطر أيضًا، لا سيّما أن دراسة الميزانية – على وجه الخصوص – المقرر إجراؤها في الخريف، ستجبر أي حكومة، مهما كان لونها أو تكوينها، على اتخاذ خيارات هيكلية، وبالتالي سياسية للغاية. وكما سبق أن ذكرنا فقد وقع اختيار الرئيس ماكرون أخيرًا على ميشال بارنييه.
وما هو مؤكد أيضًا في مرحلة ما بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، بعد كل هذا الأخذ والرد في المشاورات واللقاءات، أن رئيس الحكومة القادم سيتعين عليه أن يتعايش – لمدة عام على الأقل – مع هذه الجمعية، في وقت بدأت فيه الأنظار تتجه منذ الآن إلى الميزانية، حيث ينبغي عملًا بالدستور تقديمها إلى البرلمان في مطلع أكتوبر.