أعلن وزير الجيوش الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، في 31 ديسمبر 2024، أن فرنسا نفذت ضربات جوية ضد مواقع تابعة لتنظيم "داعش" في سوريا، وهي العملية الأولى من نوعها التي تقوم فرنسا بشنها منذ عامين. فقد استهدفت الضربات موقعين عسكريين في وسط سوريا باستخدام مقاتلات رافال وطائرات بدون طيار، حيث تم إطلاق سبع قذائف على الأهداف المحددة، وذلك في سياق مشاركتها في التحالف الدولي ضد التنظيم. وتكتسب تلك الخطوة التي أقدمت عليها باريس أهميتها لجهة توقيتها تحديداً، حيث إنها تأتي في سياق التحولات التي تشهدها سوريا في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، في ديسمبر 2024، وفي ضوء تصاعد حدة الضربات العسكرية التي توجهها الولايات المتحدة الأمريكية إلى التنظيم نفسه أيضاً لمنعه من محاولة استغلال ما يجري على الساحة الداخلية لإعادة تعزيز نشاطه مجدداً.
أهداف باريس
تعود آخر ضربة عسكرية استهدفت فيها فرنسا مواقع تنظيم "داعش" في سوريا إلى سبتمبر 2022. ويمكن القول إن العملية العسكرية الجديدة تكشف عن جملة من الأهداف تسعى باريس إلى تحقيقها، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تعزيز الصورة الذهنية الإيجابية عن فرنسا: أحد أبرز الدوافع لعودة باريس لتنفيذ ضربات ضد داعش في سوريا، هو تعزيز الصورة الذهنية الإيجابية مع الإدارة السورية الجديدة التي تستهدف ترسيخ نفوذها ومكافحة أي عودة نشطة لتنظيم داعش، وبما يمكن أن يضع الإدارة السورية أمام تحديات هائلة، كما تسعى فرنسا إلى لعب دور بنّاء في تحقيق الاستقرار الأمني، وهو ما يسهم في ترسيخ صورة فرنسا كشريك موثوق يسعى إلى تحقيق السلام والتنمية في الشرق الأوسط، ولا سيما مع تراجع النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية.
2- منع عودة تنظيم داعش في الداخل السوري: تأتي الضربات العسكرية الفرنسية ضد مواقع تنظيم "داعش" في سوريا بعد التغيرات السياسية الأخيرة التي شهدتها سوريا، حيث أسقطت هيئة تحرير الشام وفصائل مسلحة أخرى نظام بشار الأسد، مما أثار مخاوف غربية من احتمالات استغلال التنظيمات الإرهابية التي لا تزال لديها القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية انشغال القوى المحلية بالعملية السياسية والتنافس على السلطة للانتشار وتحويل الأراضي السورية إلى منصة لعملياتها الإرهابية في وقت تواجه فيه المنطقة حالة من تعقيد وتشابك الملفات الأمنية في أعقاب العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة منذ أكتوبر 2023.
ولذلك، أكد لوكورنو أن هذه العمليات تهدف إلى مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن باريس مستمرة في دعم التحالف الدولي ضد "داعش" منذ عام 2015، وأشار إلى أهمية هذه العمليات في منع تنظيم "داعش" من إعادة تشكيل صفوفه واستغلال الفوضى السياسية في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد.
3- السعي للمشاركة في الترتيبات السورية: أعرب المسؤولون الفرنسيون عن التزامهم بتعزيز عملية انتقال سياسي شامل يمثل جميع مكونات المجتمع السوري، وانضم وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى المسؤولين العرب والإقليميين والغربيين في رسم خريطة طريق لما هو مطلوب ومتوقع من السلطات السورية الجديدة. فقال خلال زيارته ولوكورنو لبيروت في أواخر ديسمبر 2024، إن المطلوب من السلطات الجديدة "أن تكون الطوائف السورية، بكل تنوعها، ممثلة في الحكومة المستقبلية، وأن تكافح هذه الحكومة بفاعلية الإرهاب الذي ازدهر لسنوات عدة". ويؤكد الدبلوماسيون الفرنسيون على الحاجة إلى عملية سياسية تحمي حقوق جميع السوريين، بما في ذلك النساء والأقليات، مع ضمان الحفاظ على مؤسسات الدولة وسيادة سوريا.
وقد أكد وزير الخارجية الفرنسي أن البعثة الفرنسية في سوريا ستقوم أيضاً بالتحقق من مدى التزام السلطات الجديدة بتصريحاتها حول التهدئة وعدم الانخراط في انتهاكات حقوق الإنسان، ويشمل ذلك مراقبة الأوضاع على الأرض لضمان أن الحكومة تعمل على تحقيق الاستقرار وتلبية احتياجات المواطنين. كما تم التأكيد على أهمية حماية حقوق الأقليات، وتحقيق انتقال سياسي شامل يمهد الطريق نحو دستور جديد وانتخابات حرة.
4- مواجهة الارتدادات السلبية على الأمن الأوروبي: مع تحول قضية الهجرة إلى قضية داخلية في فرنسا تستغلها الأحزاب اليمينية لتعزيز شعبيتها في السياسة الفرنسية وكذلك الأوروبية، أولت القيادة الفرنسية أهمية متزايدة لاستقرار سوريا الذي أضحى مرتبطاً بالمصالح الأمنية الأوروبية. ويمثل انهيار حكم الأسد، بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، فرصة وتحدياً في آن واحد للدول الأوروبية. فالآثار الجيوسياسية المترتبة على سقوط نظام الأسد تتجاوز الشواغل الإنسانية الفورية. ويشير المحللون إلى أن استقرار سوريا يمكن أن يكون بمثابة حصن ضد المزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي كانت مصدراً للصراع وأزمات اللاجئين التي تؤثر على أوروبا.
لذلك، كان التركيز الفرنسي وكذلك الأوروبي ليس فقط على دعم الانتقال الديمقراطي، ولكن أيضاً على اتخاذ التدابير الاستباقية لمنع ظهور صراعات جديدة تغذيها القوى الإقليمية والدولية التي قد تعقد من الأوضاع في سوريا بعد الأسد. ويمكن لسوريا المستقرة أن تسهل العودة الآمنة للنازحين السوريين، وبالتالي تخفيف بعض الضغوط على فرنسا.
ومع ذلك، ترى باريس أنه يجب إدارة هذه العودة بعناية لضمان أن تكون طوعية وآمنة، ومعالجة المخاوف بشأن المخاطر الأمنية المستمرة ونقص سبل العيش في سوريا. وستحتاج فرنسا إلى تحقيق التوازن بين التزاماتها الإنسانية والضغوط المحلية المتعلقة بالهجرة. وستكون الاستجابة الأوروبية المنسقة التي تؤكد على كل من المساعدات الإنسانية واستراتيجيات التنمية طويلة الأجل ضرورية لتحقيق السلام الدائم في سوريا، والتخفيف من موجات الهجرة من شمال شرق المتوسط إلى أوروبا.
5- استمرار الدعم الإنساني للشعب السوري: تلعب المخاوف الإنسانية أيضاً دوراً حاسماً في تجديد اهتمام فرنسا بتطورات الأوضاع في سوريا بعد سقوط نظام الأسد. فقد التزمت فرنسا بتلبية احتياجات السكان النازحين وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع السوريين بأمان. وتتضاعف الحاجة الملحة لهذه الجهود بسبب الدمار الواسع النطاق الناجم عن سنوات الصراع. وبعد سقوط نظام بشار الأسد، أكدت فرنسا من جديد التزامها بتقديم الدعم الإنساني للشعب السوري.
وفي عام 2024، خصصت فرنسا 50 مليون يورو (حوالي 51.8 مليون دولار) كمساعدات لمساعدة المتضررين من الاضطرابات المستمرة في سوريا. ويهدف هذا التمويل إلى تسهيل الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية والأمن الغذائي والمأوى للسكان النازحين. ويؤكد المسؤولون الفرنسيون أن هذا الدعم يتوقف على إنشاء إطار سياسي شامل يحترم حقوق جميع السوريين، ولا سيما الفئات الضعيفة مثل النساء والأقليات. فمن خلال هذه المبادرات، لا تهدف باريس إلى تخفيف المعاناة الفورية للسوريين فحسب، بل تهدف أيضاً إلى المساهمة في رؤية طويلة الأجل للاستقرار والمصالحة في سوريا.
6- المشاركة في عمليات إعادة الإعمار في سوريا: تركز باريس على جهود إعادة الإعمار المحتملة في سوريا، ولكنها أوضحت أن أي مشاركة ستتوقف على الالتزام بالمبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وتعكس هذه الشروط تخوفاً فرنسياً من أن تفضي جهود إعادة الإعمار عن غير قصد إلى شرعنة الحكم القمعي. وتعكس رغبة فرنسا في إعادة الإعمار في سوريا بعد سقوط الأسد جملة من المصالح الاستراتيجية، حيث تهدف باريس إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة لمنع عودة ظهور الجماعات المتطرفة مثل "داعش"، والتي يمكن أن تهدد ليس فقط الاستقرار السوري، ولكن أيضاً الأمن الأوروبي.
ومن خلال الاستثمار في جهود إعادة الإعمار، بما في ذلك إعادة بناء البنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم، تسعى فرنسا إلى خلق مجتمع أكثر مرونة يمكنه مقاومة التطرف وتعزيز التماسك الاجتماعي. وترى أن مشاركتها في إعادة إعمار سوريا تعمل على تعزيز نفوذها الدبلوماسي في المنطقة. فمن خلال الانخراط مع مختلف المجتمعات السورية ودعم مبادرات المجتمع المدني، تضع باريس نفسها كلاعب رئيسي في تشكيل مستقبل شامل سياسي لسوريا. وبالتالي، فإن مشاركة فرنسا الاستراتيجية في إعادة إعمار سوريا ليست مجرد عمل خيري؛ بل هي خطوة محسوبة لتأمين مصالحها الوطنية مع المساهمة في الاستقرار الإقليمي.
تحديات الدور
تؤثر الديناميات الجيوسياسية وتغيير موازين القوى داخل المنطقة في أعقاب سقوط الأسد بشكل أكبر على مشاركة فرنسا في سوريا، مما يدفع باريس إلى إعادة تقييم استراتيجياتها المتعلقة بالدول المجاورة والجهات الفاعلة الدولية. ويواجه الدور الفرنسي في سوريا بعد الأسد العديد من القيود. ففي حين التزمت فرنسا بالمشاركة في إعادة إعمار سوريا، فإن نفوذها مقيد بالمصالح المتنافسة للقوى الإقليمية الأخرى، مثل تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي. فعلى سبيل المثال، وضعت تركيا نفسها كلاعب رئيسي من خلال دعم جماعات المعارضة والتنظيمات الإرهابية والمسلحة واستضافة اللاجئين السوريين. وتقلل هذه الديناميكية من قدرة الحكومة الفرنسية على إملاء شروط أو أحكام إعادة الإعمار، حيث يجب عليها التنقل في شبكة معقدة من التحالفات والمنافسات التي يمكن أن تقوض أهدافها.
فضلاً عن ذلك، فإن الجهود الدبلوماسية لفرنسا مقيدة بشكل أكبر بسبب موقفها السابق ضد الانخراط مع الجماعات التي وصفتها بأنها منظمات إرهابية، مثل هيئة تحرير الشام. وعلى الرغم من أن الهيئة حاولت تخفيف صورتها كتنظيم متطرف بعد الأسد، إلا أن العلاقات التاريخية بتنظيم "القاعدة" لا تزال تشكل تحديات كبيرة للسياسة الخارجية الفرنسية.
وقد أشارت الحكومة الفرنسية إلى أن أي دعم لإعادة إعمار سوريا والانتقال السياسي سيتوقف على التزام السلطات الجديدة بدعم حقوق الأقليات ورفض الأيديولوجيات المتطرفة. فقد يحد هذا النهج المشروط من قدرة باريس على ممارسة التأثير بشكل فعال، خاصة إذا اختارت الدول الأخرى الانخراط بشكل مباشر مع هيئة تحرير الشام أو الفصائل الأخرى التي تنظر إليها فرنسا بشك. وسيكون التحدي الذي تواجهه فرنسا هو تأكيد مكانتها كلاعب رئيسي في تشكيل سوريا بعد الأسد، مع ضمان بقاء مبادئها الأساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان في طليعة جهودها الدبلوماسية.