في 28 يناير 2025، أعلنت رئيسة هندوراس " زيومارا كاسترو"، التي تتولى بلادُها الرئاسةَ المؤقتةَ لمجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي "سيلاك"، عن إلغاء القمة الطارئة لرؤساء الدول والحكومات التي كان مقرراً عقدها في 30 يناير. سبق أن دعت كاسترو إلى عقد القمة لمعالجة قضايا "الهجرة" و "وحدة أمريكا اللاتينية والكاريبي، عقب اندلاع أزمة دبلوماسية بين كولومبيا والولايات المتحدة في 26 يناير 2025، بشأن طريقة ترحيل المهاجرين الكولومبيين الذين دخلوا الأراضي الأمريكية بصورة غير قانونية. رفض الرئيس الكولومبي "جوستافو بيترو" أسلوب التعامل الذي وصفه بأنه "غير إنساني" للمهاجرين المُرحَّلين، ولم يقبل استقبالهم على طائرات عسكرية أمريكية مصفدي الأيدي.
كان لرد فعل الإدارة الأمريكية للرئيس "دونالد ترامب"، الذي هدد بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على جميع الواردات الكولومبية التي تدخل الولايات المتحدة، على أن تزيد إلى 50% بعد أسبوع واحد إذا أصر بيترو على موقفه، وتبني حكومة كولومبيا إجراء مماثلاً، ارتدادات مهمة على منطقة أمريكا اللاتينية، وأثار العديد من التساؤلات حول كيفية إدارة دول المنطقة العلاقات مع واشنطن خلال الولاية الثانية لترامب، والقيود التي ربما تحد من قدرتها على تبني استراتيجية فعالة في التعامل مع الإجراءات الأمريكية التصعيدية.
سياسات متشددة
كشفت التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي، والتدابير التي اتخذها منذ توليه مهام منصبه بشكل رسمي في العشرين من يناير 2025، بجانب هيمنة المتشددين على فريقه الحكومي، عن عودة الخطاب الحازم والإجراءات الأحادية الجانب في تعامله مع دول أمريكا اللاتينية، ربما بشكل أكثر قوةً مقارنةً بولايته الأولى، مدعوماً في ذلك بفوز ساحق في الانتخابات ومع أغلبية جمهورية في مجلسَي الكونجرس؛ وذلك كما يتبين فيما يلي:
1– ترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية: كانت قضية الهجرة في قلب الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، الذي تعهد بترحيل المهاجرين الذين دخلوا البلاد بطريقة غير قانونية. ومن أول أيامه في الحكم، شرع الرئيس الأمريكي في تنفيذ حملته الشاملة ضد المهاجرين، وأغلبيتهم ينتمون إلى دول في أمريكا اللاتينية، ومنح ضباط الترحيل سلطات أوسع لاعتقال وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وإغلاق الوصول إلى نظام اللجوء على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وتجنيد الموارد الهائلة للجيش الأمريكي لإنفاذ قوانين الهجرة من خلال إعلان الطوارئ، علاوة على استخدام الطائرات العسكرية لترحيل المهاجرين الذين يعبرون الحدود الجنوبية بشكل غير قانوني، ونشر قوات إضافية في الخدمة الفعلية هناك لإقامة حواجز مصممة لصد عمليات العبور غير القانونية. يحظر القانون الفيدرالي المعمول به منذ فترة طويلة على الجيش عموماً المشاركة في إنفاذ القانون المدني.
2– التهديد بإعادة السيطرة على قناة بنما: هدد الرئيس ترامب بأن الولايات المتحدة ستسعى إلى استعادة السيطرة على القناة بالقوة إذا لزم الأمر، واعتبر وجود الصين في بنما تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، كما اشتكى من أن بنما تفرض رسوماً باهظة على السفن الأمريكية المارة بالقناة، وهو ما تنفيه السلطات البنمية. تمثل تصريحات ترامب مفاجأة للكثيرين، بالنظر إلى كون بنما واحدة من أكبر شركاء الولايات المتحدة في المنطقة منذ أن سلمت واشنطن السيطرة على القناة إلى الدولة الصغيرة الواقعة في أمريكا الوسطى قبل 25 عاماً بشرط أن تظل ممراً محايداً للسفن من جميع أنحاء العالم. وقال الرئيس خوسيه راؤول مولينو، وهو سياسي مؤيد للأعمال التجارية تولى منصبه في منتصف عام 2024، إن الممر المائي بين المحيطين سيظل تحت سيطرة بنما.
3– إعادة كوبا إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب: في 21 يناير 2025، أعاد الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" كوبا مرة أخرى إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب. وتضمنت الأوامر التنفيذية التي وقعها ترامب عقب تنصيبه رسمياً رئيساً للولايات المتحدة في 20 يناير 2025، التراجع عن إزالة سلفه "جو بايدن" كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، في مقابل إطلاق سراح نحو 114 سجيناً سياسياً في الجزيرة الكاريبية. سبق أن وضع ترامب كوبا في قائمة الدول الراعية للإرهاب خلال ولايته الأولى (2017–2021). ستؤدي عودة البلاد إلى هذه الفئة إلى حظر جديد على مبيعات الأسلحة، وتشديد ضوابط التصدير، وفرض قيود على التأشيرات وكذلك المساعدات الخارجية، علاوةً على تجديد العقوبات الاقتصادية، وهو ما يتفق مع سياسة ترامب المتشددة تجاه الجزيرة التي تقودها حكومة شيوعية. رداً على ذلك، قال الرئيس الكوبي إن تدابير ترامب هي "عمل من أعمال الغطرسة"، لتعزيز الحرب الاقتصادية ضد كوبا، في ظل الحظر الذي تفرضه واشنطن على الجزيرة منذ عام 1962 حتى الآن.
4– التلويح بفرض رسوم جمركية على المكسيك: هدد الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع السلع القادمة من المكسيك اعتباراً من 1 فبراير، في محاولة لإجبارها على اتخاذ إجراءات صارمة ضد الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة. وشدد المسؤولون المكسيكيون على أنهم يتخذون بالفعل إجراءات قوية ضد المخدرات، ويروجون لاعتقال شخصيات بارزة في العصابات ومصادرة مخدرات كبيرة، بما في ذلك مصادرة أكثر من طن واحد من الفنتانيل في عمليتي ضبط في سينالوا الشهر الماضي. مع ذلك، يرى مسؤولون في إدارة ترامب أن المكسيك لم تفعل بعدُ ما يكفي لتجنب الرسوم الجمركية على صادراتها إلى الولايات المتحدة، كما يشيرون إلى أن ترامب يريد فرض الرسوم الجمركية لدفع المكسيك على التفاوض حول مجموعة من القضايا تشمل الهجرة وتهريب المخدرات واتفاقية التجارة الحرة USMCA الموقعة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، التي سيتم مراجعتها في عام 2026. وأصدر ترامب أمراً بتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، وهو التغيير الذي بدأت Google بالفعل في تنفيذه في خرائطها.
5– التهديد بالتخلي عن النفط الفنزويلي: أعلن ترامب عن اتخاذ تدابير أكثر صرامة ضد النظام الاشتراكي الحاكم في فنزويلا بقيادة الرئيس نيكولاس مادورو، الذي تم تنصيبه رئيساً لولاية ثالثة في 10 يناير 2025 على الرغم من الشكوك لدى بعض الجهات الدولية الفاعلة بشأن شرعية انتخابه في 28 يوليو 2024، كما أثار ترامب الشكوك بشأن مشتريات الولايات المتحدة من فنزويلا، مشيراً إلى احتمال توقف واشنطن عن شراء النفط من كاراكاس. وشدد على السعي إلى إزاحة مادورو عن السلطة، وإن كان يعتقد أن ذلك يمكن تحققه بدون تدخل عسكري. وارتفعت صادرات فنزويلا النفطية إلى الولايات المتحدة بنسبة 64% إلى نحو 222 ألف برميل يومياً العام الماضي؛ ما يجعلها ثاني أكبر سوق للتصدير بعد الصين التي استحوذت على 351 ألف برميل يومياً، بانخفاض 18% مقارنةً بالعام السابق.
6– تصنيف تنظيمات إجرامية كجماعات إرهابية: صنفت إدارة ترامب عصابات المخدرات المكسيكية والعصابة الإجرامية الفنزويلية "ترين دي أراجوا" والعصابة السلفادورية MS–13 و"مارا سالفاتروشا"، كمنظمات إرهابية بدعوى أنها "تهدد سلامة الشعب الأمريكي وأمن الولايات المتحدة واستقرار النظام الدولي في نصف الكرة الغربي". مع ذلك، لا يزال من غير الواضح إذا ما كانت الضربات العسكرية التي تهدف إلى تفكيك العصابات ستحقق أي شيء يتجاوز زعزعة الاستقرار في السيناريوهات المحلية والوطنية أو تصعيد العنف في المدن الأمريكية. أدت "الحرب على المخدرات" التي استمرت عقوداً إلى زيادة إنتاج الكوكايين وطرق الاتجار اللامركزية وتوسيع الأسواق؛ ما أثار تساؤلات حول فاعلية مثل هذا النهج.
استجابات متباينة
تنوعت أنماط استجابة بلدان أمريكا اللاتينية بشكل كبير للتهديدات الأمريكية؛ وذلك كما يتبين فيما يلي:
1– تصعيد دبلوماسي بين كولومبيا والولايات المتحدة: تسببت عمليات الترحيل الجماعي في أول صدام دبلوماسي بين واشنطن ودول أمريكا اللاتينية؛ حيث اندلع خلاف دبلوماسي بين الرئيس الكولومبي "جوستافو بيترو" ونظيره الأمريكي في 26 يناير 2025، عقب رفض الأول هبوط طائرتَين عسكريتَين كان على متنهما مهاجرون كولومبيون، منتقداً طريقة التعامل مع مواطنيه كـ"مجرمين". وأثارت هذه الخطوة انتقاماً سريعاً من واشنطن، بما في ذلك فرض قيود على التأشيرات للمسؤولين والمواطنين الكولومبيين، والتهديدات بفرض رسوم جمركية عقابية على الصادرات الكولومبية، بنسبة 25% مع خطط للتصعيد إلى 50% في غضون أسبوع. ورد بيترو بتهديد مضاد بفرض رسوم جمركية مماثلة على السلع الأمريكية. وسرعان ما انتهت الأزمة بقبول الرئيس الكولومبي استقبال المرحَّلين، ولكن بطائرات قدَّمتها القوات الجوية الكولومبية.
2– تفضيل المكسيك نهج الدبلوماسية الهادئة: على الرغم من اعتقاد الكثيرين أن المكسيك ستكون الأكثر تضرراً من سياسات ترامب، الذي هدد بفرض تعريفات جمركية باهظة على صادراتها للولايات المتحدة، إذا لم تتخذ تدابير صارمة للتصدي للهجرة غير الشرعية وتدفق المخدرات إلى الأراضي الأمريكية؛ فإن أول سيدة تتولى رئاسة المكسيك، تبنت نهجاً هادئاً في تعاملها مع الرئيس الأمريكي. أشارت كلوديا شينباوم إلى العلاقة الوثيقة لسلفها "لوبيز أوبرادور" مع ترامب خلال ولايته الأولى كدليل على أن الجيران يمكنهم التعاون. وقد اتبعت نهجاً برجماتياً قوامه الأساسي الدفاع عن المهاجرين المكسيكيين باعتبارهم العمود الفقري للاقتصاد الأمريكي، في حين تعمل على الحد من الهجرة غير الشرعية والاتجار بالمخدرات، ودافعت عن اتفاقية التجارة الحرة "USMCA"، باعتبار أنها تصب في مصلحة اقتصادات الدول الثلاث الأعضاء فيها.
3– تراجع هندوراس وبنما عن المواقف المتشددة والدعوة للحوار: هددت الرئيسة الهندوراسية "شيومارا كاسترو" بإغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في البلاد إذا نفذت الإدارة عمليات ترحيل جماعي لمواطني البلاد. مع ذلك، عقب الأزمة بين كولومبيا والولايات المتحدة، قالت كاسترو إنها تفكر في استئجار رحلات جوية لإعادة المهاجرين من هندوراس إلى الوطن بطريقة "منظمة" ودعت إلى "الحوار". أما بنما، التي قال رئيسها إنه يستبعد التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن السيطرة على القناة، فقد سعت لاحقاً لتتبنى نهجاً أكثر رقةً وتتجنب المواجهة المباشرة مع فتح قنوات التفاوض بين كبار الدبلوماسيين البنميين مع نظرائهم من وزارة الخارجية الأمريكية.
ومن المرجح أن تستعد حكومة بنما المحافِظة لنزع فتيل التوترات مع إدارة ترامب بشأن قناة بنما، وتقدم تحالفاً أوثق للحد من تدفق المهاجرين والمخدرات إلى الولايات المتحدة، مع العمل على جذب الاستثمارات الأمريكية لتعويض الصين. في ضوء ذلك، أطلقت بنما، في وقت سابق من شهر يناير 2025، تدقيقاً للترخيص لمدة 25 عاماً الذي منحته لشركة هاتشيسون وامبوا التي تتخذ من هونج كونج مقراً لها، والتي تدير موانئ الحاويات على طرفي القناة في المحيطين الهادئ والأطلسي. وأشار ترامب إلى تلك المحطات كدليل على التهديد الذي تشكله الصين على ممر مائي يستخدم بشكل كبير للتجارة الأمريكية.
4– مبادرة عدد من الدول بإبداء الرغبة في التعاون مع واشنطن: كانت السلفادور من أوائل الدول التي أبدت رغبتها في التعاون مع الولايات المتحدة في استقبال المرحلين من بلدان أخرى، وليس فقط من مواطنيها. وتشير بعض التقارير إلى أن السلفادور تتفاوض على صفقة مع إدارة ترامب من أجل اتفاقية "بلد ثالث آمن" من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة بترحيل المهاجرين إلى دولة ثالثة، بما في ذلك أعضاء مشتبه بضلوعهم في الجريمة المنظمة. يمكن أن تستهدف الصفقة بشكل خاص المرحلين الفنزويليين والأعضاء المزعومين في عصابة ترين دي أراجوا، التي صنفها ترامب مؤخراً كمنظمة إرهابية. سيعكس ذلك ترتيباً مشابهاً تم التفاوض عليه خلال فترة ولاية ترامب الأولى ولم يتم تنفيذه مطلقاً وألغته إدارة بايدن لاحقاً. علاوة على ذلك، يقال إن دولاً مختلفة في الأمريكتين تتواصل مع إدارة ترامب للتعبير عن استعدادها لقبول المرحلين، ومنها على الأرجح، جواتيمالا، التي لم يستبعد وزير خارجيتها "كارلوس راميرو مارتينيز" أن تصبح "بلداً ثالثاً آمناً" للمهاجرين من جنسيات أخرى.
أما الأرجنتين، التي يتمتع رئيسها الليبرالي "خافيير ميلي" بعلاقات قوية للغاية بترامب، وكان من أوائل قادة العالم الذين زاروا ترامب لتهنئته بفوزه في الانتخابات، كما كان من الرؤساء القلائل في المنطقة، الذين حضروا مراسم تنصيب ترامب في واشنطن، فقد أعلن عن استعداده لانسحاب بلاده من تجمع ميركوسور التجاري (البرازيل، والأرجنتين، وأوروجواي، وباراجواي) إذا لزم الأمر للتوصل إلى اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة، رغم أنه يأمل التوصل إلى اتفاق دون الحاجة إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء الصارم، وقد تصدى التكتل في الماضي لأعضائه الذين يتفاوضون على اتفاقيات فردية.
5– الدعوة إلى تبني استراتيجية إقليمية منسقة: في 28 يناير 2025، أعلنت وزارة الخارجية الهندوراسية في بيان أن "هندوراس، التي تتولى الرئاسة المؤقتة لمجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، تلغي الاجتماع الاستثنائي لرؤساء الدول والحكومات الذي كان مقرراً عقده في 30 يناير 2025"، لمعالجة قضايا "الهجرة" و"وحدة أمريكا اللاتينية والكاريبي" و"البيئة". ووفقاً للبيان، يرجع إلغاء الاجتماع الذي كان من المقرر أن يحضره الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو، إلى حقيقة أن "كولومبيا أعلنت أنه تم التغلب على "الأزمة" مع الولايات المتحدة.
مع ذلك، قالت رئيسة هندوراس في 28 يناير 2025 في بيان على حسابها على منصة X إن قمة مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، ألغيت بسبب "عدم وجود توافق في الآراء". وقالت كاسترو في البيان الصحفي إن هندوراس "تأسف لأننا في حالة هاييتي وفي هذه الأزمة الإنسانية للمهاجرين، تلقينا مرة أخرى معارضة منهجية من الدول الأعضاء التي فضلت مبادئ ومصالح أخرى مختلفة عن تلك الخاصة بوحدة منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي كمجتمع"، دون أن تذكر بالتفصيل الدول التي كانت تشير إليها. واختتمت الرئيسة بيانها بالقول إنها "ستواصل السعي إلى توافق الآراء وعقد وتقديم مبادرات لتقديم إجابات على المشاكل التاريخية التي تعاني منها المنطقة". يبدو من الواضح أنه باستثناء كولومبيا، لم تعلن أي من الدول الكبرى في أمريكا اللاتينية عن مشاركتها في القمة، باستثناء كولومبيا. أما المكسيك، فأكدت على لسان رئيستها أن مشاركة حكومتها ستكون على مستوى وزير الخارجية، وأنها لن تحضر شخصياً القمة.
6– تجنب البرازيل التصعيد واللجوء إلى القنوات الدبلوماسية: على خلاف تصريحات الرئيس الكولومبي الحادة، التي انتقد فيها إدارة الرئيس ترامب علانية، التزم الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا" الصمت بشأن المعاملة التي تلقتها مجموعة من المهاجرين الذين وصلوا إلى بلاده بالطائرة مكبلي اليدين. مع ذلك، استدعت الحكومة البرازيلية كبير المبعوثين الأمريكيين إلى أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية لشرح "التجاهل الصارخ" لحقوق المهاجرين، لكنها لم تضع أي شرط لقبول المزيد من رحلات الترحيل. وطالبت الحكومة البرازيلية نظيرتها الأمريكية بتقديم تفسيرات "حول المعاملة المهينة التي تعرض لها ركاب الرحلة".
عوامل حاكمة
ستعتمد قدرة دول أمريكا اللاتينية على تبني استراتيجية منسقة وفعالة في مواجهة التهديدات الأمريكية على عدة عوامل، من أبرزها:
1– قوة الاعتماد الاقتصادي على الولايات المتحدة: بنما والمكسيك من الدول القلائل في منطقة أمريكا اللاتينية، التي تعد الولايات المتحدة وليس الصين شريكاً تجارياً واستثمارياً رئيسياً لها؛ الأمر الذي يعني أن اقتصاد البلدين سوف يتضرر بشدة إذا نفذ ترامب تهديداته. علاوة على ذلك، يوجد في الولايات المتحدة أكبر عدد من المكسيكيين غير المسجلين الذين يعملون هناك؛ ما يوفر مصدر دخل مهماً للمكسيك، وستتسبب عودتهم بأعداد كبيرة في زيادة الضغوط الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
مع ذلك، فإن حكومة المكسيك تدرك أن تهديدات ترامب خطابية أكثر من كونها واقعية؛ بسبب التداخل العميق بين اقتصاد البلدين. سبق أن حذرت الرئيسة المكسيكية نظيرها الأمريكي من العواقب الاقتصادية الوخيمة على البلدين من الرسوم الجمركية، وأعلنت أن بلادها سترد بالمثل، وستفرض رسوماً جمركيةً بقيمة 25% على الصادرات الأمريكية للمكسيك، وشددت على أن الرسوم الجمركية ستسبب التضخم وفقدان الوظائف في كلا البلدين. المكسيك هي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة؛ حيث تمثل 15.8% من إجمالي التجارة، والولايات المتحدة هي أيضاً أكبر شريك تجاري للمكسيك. بالإضافة إلى المكسيك وبنما، فإن كلاً من كولومبيا وجواتيمالا وهندوراس والسلفادور، من الدول التي تعد الولايات المتحدة شريكها التجاري الرئيسي؛ ما يفسر سعي هذه البلدان إلى التجاوب نوعاً ما مع سياسات ترامب.
2– مدى تنوع الشراكات الدولية لدول أمريكا اللاتينية: بخلاف الدول التي تعتمد بشكل كبير على واشنطن، والتي سيكون لديها مساحة محدودة للمناورة بعيداً عن الولايات المتحدة، فإن الدول الأكبر في أمريكا الجنوبية ستتمتع بمزيد من الحرية لموازنة الضغط الأمريكي من خلال تنسيق استجاباتها أو تعزيز علاقاتها مع القوى الأخرى. البرازيل على سبيل المثال، تصدر إلى الصين أكثر من الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعة، وستكون في وضع أفضل لتعزيز العلاقات مع بكين، بالإضافة إلى أن البلاد لديها شراكات مع العديد من دول العالم، بما في ذلك روسيا التي تشترك معها في عضوية تجمع بريكس، الذي هدد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول البريكس إذا دعمت بدائل للدولار.
وليس من قبيل المصادفة قيام الرئيس البرازيلي بإجراء مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي "فلاديمير بوتين" في اليوم التالي للأزمة التي اندلعت بين كولومبيا والولايات المتحدة؛ حيث أعلن الرئيس البرازيلي عن قبوله دعوة بوتين لحضور احتفالات يوم النصر في موسكو في مايو القادم.
3– الاستقرار والتماسك الحكومي في دول أمريكا اللاتينية: من الملاحظ أن استجابات بعض حكومات دول أمريكا اللاتينية حتى الآن تجاه سياسات ترامب، قد تعرضت لانتقادات في الداخل؛ ما يضاعف الضغوط التي يتعرض لها قادة المنطقة. على سبيل المثال، تعرض بيترو لانتقادات شديدة في كولومبيا حليفة الولايات المتحدة منذ فترة طويلة في الحرب على المخدرات؛ بسبب خلافه مع ترامب. واتهم الرئيس الكولومبي اليميني السابق إيفان دوكي سلفه البالغ من العمر 64 عاماً بيترو بارتكاب "عمل من أعمال عدم المسؤولية الهائلة"، في حين دعا خوان مانويل سانتوس إلى الحوار؛ ما يعكس توترات أوسع نطاقاً بشأن الموقف الدبلوماسي لكولومبيا. في السياق ذاته، وصف الزعيم السابق لحزب العمل الوطني في المكسيك "ماركو كورتيس"، برنامج "البقاء في المكسيك" بأنه غير مقبول؛ لأنه يمكن أن يطلق العنان لمشاكل الهجرة غير المسبوقة؛ لذلك حث حكومة الرئيسة كلوديا شينباوم على تجنب فرضه؛ لأن "ذلك من شأنه أن ينتهك سيادتنا". مع ذلك، وحدت أحزاب المعارضة صفوفها مع الحزب الحاكم ضد أي احتمال للتدخل الأجنبي في البلاد، في ظل المخاوف من تنفيذ عملية عسكرية أمريكية داخل الأراضي المكسيكية لمحاربة عصابات المخدرات.
4– القدرة على تجاوز الخلافات والانقسامات الإقليمية: تواجه دول أمريكا اللاتينية معركة شاقة للتوحد معاً ضد التهديدات الأمريكية؛ بسبب مستوياتها المنخفضة نسبياً من التجارة البينية والبنية التحتية المترابطة. يضاف إلى ذلك، الاختلافات الأيديولوجية بين قادة دول المنطقة، بين اليمين واليسار، التي تعوق قدرتها على صياغة سياسة خارجية إقليمية منسقة تجاه الولايات المتحدة، علاوة على اختلاف رؤى القادة ومواقفهم وكذلك مدى قوة علاقاتهم مع ترامب. أدت الانقسامات الأيديولوجية والأولويات المتباينة إلى إضعاف قدرة أمريكا اللاتينية على الاستجابة الجماعية للتحديات المشتركة. إن تفضيل ترامب الاتفاقيات الثنائية على التعددية يخاطر بتفاقم هذا التشرذم، وتقويض وحدة المنطقة في معالجة القضايا الحرجة، مثل تغير المناخ، أو عدم المساواة، أو الفقر أو الجريمة المنظمة. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة المواجهات بين دول أمريكا اللاتينية المؤيدة والمعارضة للولايات المتحدة؛ الأمر الذي من شأنه أن يزيد من ضعف المؤسسات الإقليمية الرئيسية.
5– مدى إدراك دول أمريكا اللاتينية صعوبة الاعتماد المنفرد على واشنطن: على المديين المتوسط والطويل، من المرجح أن يقلل نهج ترامب المتشدد تجاه دول أمريكا اللاتينية من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة؛ ففي نهاية المطاف، سينظر كل زعيم في المنطقة، حتى الذين يدعمون الولايات المتحدة بشكل عام، إلى استراتيجية ترامب تجاه بنما وكولومبيا والمكسيك ويفهمون مخاطر الاعتماد المنفرد على واشنطن. يمكن أن يتفاقم هذا التحول بعيداً عن النفوذ الأمريكي بسبب حقيقة أن خطاب ترامب حول أمريكا اللاتينية يؤطر المنطقة بشكل حصري تقريباً كمصدر للهجرة غير الشرعية والجريمة والمخدرات، كما يدعي أنها منصة انطلاق لبكين لتحدي واشنطن. في ضوء ذلك، من المرجح أن تحاول معظم حكومات أمريكا اللاتينية تنويع شراكاتها، والتحول إلى القوى الكبرى الأخرى – وخاصة الصين، التي ستبرز كشريك موثوق فيه، بجانب روسيا وكذلك أوروبا – لتعزيز مواقفها التفاوضية. وكلما بدا ترامب أكثر تهديداً لحكومات أمريكا اللاتينية، حاولت الاقتراب من القوى الكبرى الأخرى؛ لموازنة الضغوط الأمريكية.
من جملة ما سبق، يمكن القول إن من غير المرجح أن تتمكن دول المنطقة من صياغة استجابة موحدة وكاملة؛ بسبب الاختلافات الأيديولوجية بين الحكومات، وتباين مستويات وقوة العلاقات مع واشنطن والقوى الدولية الكبرى الأخرى. مع ذلك، فإن موقف ترامب قد يدفع دول المنطقة إلى النأي بأنفسها عن الولايات المتحدة، وهو ما سيؤدي، على المدى الطويل، إلى انخفاض النفوذ الأمريكي.