في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة، والحاجة الملحة إلى تعزيز الأمن الاقتصادي؛ أعلنت الولايات المتحدة وأوكرانيا عن التوصل إلى إطار أولي حول اتفاق بشأن حقوق المعادن النادرة، وهو الاتفاق الذي من شأنه أن يغير ملامح الشراكة بين البلدين، ويعوض الولايات المتحدة – من وجهة نظر ترامب – عن المساعدات السابقة التي وجهتها لأوكرانيا طوال الحرب. ويأتي هذا الاتفاق في وقت حساس؛ حيث تسعى واشنطن إلى الحصول على موارد معدنية استراتيجية لتعزيز صناعاتها الدفاعية والتكنولوجية، بينما تأمل كييف تأمين استثمارات أمريكية تدعم اقتصادها وسط استمرار الحرب مع روسيا. ومع ذلك، يواجه الاتفاق عقبات تتعلق بتطبيقه ومدى تأثيره على السيادة الأوكرانية، خاصةً بعد رفض الرئيس فولوديمير زيلينسكي العرض الأوَّلي الذي قدمته الولايات المتحدة، الذي تضمَّن حصول واشنطن على نسبة 50% من الموارد مقابل مساعدات عسكرية سابقة، حتى وصول العوائد المستردة إلى 500 مليار دولار.
دوافع واشنطن
يمكن رصد أهم دوافع واشنطن لتوقيع اتفاق المعادن النادرة مع كييف؛ وذلك على النحو التالي:
1– رغبة ترامب في استرداد أموال المساعدات المقدمة لكييف: عبَّر ترامب في أكثر من مناسبة عن رغبته في استرداد أموال المساعدات المقدمة لكييف؛ فعلى سبيل المثال، ذكر ترامب في خطاب في مؤتمر العمل السياسي المحافظ (سيباك) في ولاية ميريلاند، بحسب تقارير يوم 23 فبراير الجاري: "أتواصل مع الرئيس زيلينسكي، وأتواصل مع الرئيس بوتين. أحاول استعادة الأموال أو تأمينها"، وأضاف: "أعطت أوروبا المال في صورة قرض، وستسترد أموالها. أما نحن فقد أعطينا المال من دون مقابل؛ لذلك أريد منهم أن يعطونا شيئاً في مقابل كل الأموال التي دفعناها".
2– اعتبار واشنطن الاتفاق جزءاً من مسار تسوية الحرب: يبدو أن إدارة ترامب تعتبر الاتفاق المحتمل جزءاً من مسار تسوية الحرب، وهي تدرك أن هذا هو التوقيت المناسب لإنجاز الاتفاق، كما تعتقد أن الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" بات في موقف ضعف في الوقت الحالي، كما أنها تريد إنجاز الاتفاق سريعاً؛ وذلك في ضوء أن الكثير من المعادن الأوكرانية، بحسب العديد من التقديرات، تقع في مناطق شرق أوكرانيا، وهي المناطق التي تشهد المواجهات العسكرية مع روسيا.
3– أهمية المعادن الأوكرانية للاقتصاد الأمريكي: تكتسب المعادن الأوكرانية أهمية بالنسبة إلى الاقتصاد الأمريكي؛ فبحسب بعض التقارير، تضم أراضي أوكرانيا نحو 22 معدناً نادراً من أصل 30 معدناً تستخدمها دول أوروبا، و50 معدناً تصنفها الولايات المتحدة باعتبارها مهمة. وهذه المعادن تدخل في العديد من الصناعات، مثل صناعة البطاريات، والصواريخ والطائرات والسفن. وفي هذا الصدد، كان العرض الأوَّلي الذي قدمته واشنطن يتضمَّن حصول الولايات المتحدة على نسبة 50% من عائدات المعادن الأوكرانية، حتى وصول العوائد المستردة إلى 500 مليار دولار.
4– مساعي واشنطن إلى تعزيز موقفها الاستراتيجي في مواجهة الصين وروسيا: يشكل الاتفاق المحتمل نقطة تحول في التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين على الموارد الطبيعية؛ حيث تمتلك أوكرانيا احتياطيات ضخمة من المعادن النادرة، مثل التيتانيوم والليثيوم، وهي معادن حيوية للصناعات العسكرية والتكنولوجية. ومن ثم، فإن تأمين حقوق الولايات المتحدة في هذه الموارد سيعزز موقفها الاستراتيجي في مواجهة النفوذ الروسي والصيني في سوق المعادن.
حسابات كييف
في مقابل هذه الدوافع الأمريكية بشأن الاتفاق المحتمل، فإن كييف ربطت تنفيذ الاتفاق بعدد من العوامل المتمثلة فيما يلي:
1– حرص كييف على الحفاظ على سيادتها: من المتوقع أن يتضمن الاتفاق بين الولايات المتحدة وأوكرانيا بنوداً قانونية تحدد طبيعة التعاون في قطاع المعادن الحرجة؛ حيث من المرجح أن تشمل هذه الأحكام حقوق التنقيب والاستخراج والتصدير، بالإضافة إلى آليات توزيع العائدات بين الطرفين. قد تنص الاتفاقية أيضاً على التزامات متبادلة، مثل استثمارات أمريكية في البنية التحتية الأوكرانية، مقابل منح الشركات الأمريكية الأولوية في استغلال الموارد. ومع ذلك، تواجه هذه الأحكام تحديات قانونية؛ حيث تسعى كييف إلى ضمان عدم المساس بسيادتها على أراضيها ومواردها، في حين تريد واشنطن ضمان استرداد استثماراتها الكبيرة في أوكرانيا.
2– رغبة كييف في تقليل حصة واشنطن من عائدات المعادن: في ظل رفض أوكرانيا العرض الأوَّلي الذي تضمَّن حصول الولايات المتحدة على نسبة 50% من عائدات المعادن الحرجة، يعمل الجانبان على تعديل البنود المالية والاقتصادية للاتفاق؛ حيث من المحتمل أن تشمل التعديلات تقليل نسبة العائدات الأمريكية أو تقديم حوافز إضافية لكييف، مثل برامج استثمارية مباشرة، أو دعم تقني في استخراج المعادن.
3– الضمانات الأمنية كشرط أساسي للاتفاق: ترى أوكرانيا أن أي اتفاق مع الولايات المتحدة يجب أن يتضمن ضمانات أمنية تمنع روسيا من استغلال الموارد الأوكرانية أو استهداف مناطق التعدين. ومع ذلك، لم تتضمن الصيغة الأولية أي التزام أمني واضح من الجانب الأمريكي؛ ما أثار انتقادات من كييف التي ترى أن منح حقوق التعدين من دون تأمين الحماية العسكرية قد يعرض الاقتصاد الأوكراني للخطر؛ لهذا السبب، تسعى أوكرانيا إلى تضمين بند يربط الاتفاق بمساعدات أمنية مستدامة، مثل الدفاعات الجوية المتطورة، أو ضمانات دبلوماسية أمريكية ضد أي تهديدات روسية مستقبلية.
4– مدى الاستفادة الاقتصادية الأوكرانية من الاتفاق: دفع البعض بأن هذا الاتفاق يمكن أن يمثل فرصة اقتصادية هائلة لأوكرانيا، بالرغم من اعتبار واشنطن أنه دفعٌ لفواتير قديمة؛ إذ سيؤدي لا محالة إلى جلب استثمارات ضخمة تعزز قطاع التعدين والبنية التحتية الصناعية، لكن هناك مخاوف من أن يؤدي الاتفاق إلى هيمنة الشركات الأمريكية على قطاع المعادن الحيوي؛ ما قد يحد من فرص الاستثمار المحلي. ومن المرجح للغاية أن تسعى أوكرانيا إلى إدراج شروط تحافظ على نسبة معينة من العائدات داخل البلاد، بجانب فرض التزامات على الشركات الأمريكية لنقل التكنولوجيا وتوفير فرص عمل للأوكرانيين. في المقابل، تريد الولايات المتحدة أقصى قدر من الحرية في استغلال الموارد؛ ما يخلق خلافات تؤخر إتمام الصفقة.
5– محاولة كييف توظيف الاتفاق للتأثير على مسار الانفتاح الروسي الأمريكي: أثارت المفاوضات حول الاتفاق توترات سياسية بين واشنطن وكييف، خاصةً بعد تصريحات ترامب التي وصفت زيلينسكي بأنه "ضعيف في التفاوض"، وأنه استغل إدارة بايدن بشكل سلبي، فضلاً عن تهميشه في المفاوضات بين واشنطن وموسكو، كما أن المخاوف من تراجع الدعم الأمريكي لأوكرانيا إذا لم يتم الاتفاق تزيد من الضغط على الحكومة الأوكرانية لإيجاد صيغة توافقية، خاصةً مع ما تردد بتلويح ترامب بإمكانية قطع خدمات الإنترنت "ستار لينك" إذا لم توافق كييف. وفي هذا السياق، قد تضع كييف شروطاً مرتبطةً بمسار الحرب الأوكرانية، والمحادثات الراهنة بين الولايات المتحدة وروسيا، ضمن اتفاق المعادن المحتمل مع واشنطن.
6– حدود استغلال الاتفاق المحتمل في عملية إعادة الإعمار بأوكرانيا: أشارت بعض التقارير إلى أن بنود الاتفاق المحتمل تتضمن إنشاء صندوق لإعادة الإعمار، تديره الدولتان بشكل مشترك، ويستثمر في مشاريع داخل أوكرانيا، ويجذب الاستثمارات لزيادة التنمية، بما في ذلك مجالات التعدين والموانئ، كما ينص الاتفاق على مساهمة أوكرانيا في الصندوق المقترح بمبلغ 500 مليار دولار، شرط أن تكون المساهمات الأوكرانية في الصندوق ضعف مساهمات الولايات المتحدة، لكن لا ينص على أن يُدفَع هذا المبلغ للولايات المتحدة.
الخلاصة: يبدو أن اتفاق المعادن الحرجة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا يشكل خطوة موازية لمسار تسوية الصراع، أكثر من كونه شرطاً مباشراً لإنهائه؛ فبينما يوفر الاتفاق فرصة للولايات المتحدة لاستعادة ما استثمرته من مساعدات اقتصادية وعسكرية لأوكرانيا، فإنه لا يضع بالضرورة إطاراً حاسماً لإنهاء الحرب. بدلاً من ذلك، فإن الاتفاق المحتمل يمكن أن يكون جزءاً من ترتيبات أوسع تشمل تفاهمات اقتصادية وأمنية بين القوى الكبرى، من دون أن يكون عاملاً محدداً لمسار التسوية.