• اخر تحديث : 2025-06-13 13:31
news-details
قراءات

ما أبعاد الدعم الأوروبي المتصاعد لأوكرانيا وسط تراجع الدور الأمريكي؟


يشهد مسار الدعم الغربي لأوكرانيا خلال الآونة الأخيرة تحولاً بالغ الأهمية، مع انحسار الدور الأمريكي في قيادة الدعم العسكري والسياسي لكييف، في مقابل تصاعد التنسيق الأوروبي المشترك. فمنذ بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، برزت مؤشرات واضحة على تقليص الالتزام الأمريكي تجاه أوكرانيا، مما دفع القوى الأوروبية إلى تبني مقاربة أكثر استقلالية وفاعلية، عبر تطوير أدوات مالية وعسكرية وعقابية متقدمة، في تحول يعيد رسم توازن الأدوار داخل التحالف الغربي.
 
فقد استجابت العواصم الأوروبية سريعاً لهذا الانكفاء الأمريكي، فسارعت إلى ملء الفراغ الناجم عنه. ففي مارس 2025، عقد الاتحاد الأوروبي قمة طارئة أكدت التزام القارة بمواصلة دعم أوكرانيا. ومنذ ذلك الحين تصاعدت التحركات الأوروبية بوتيرة متسارعة؛ حيث تولت ألمانيا في أبريل 2025 للمرة الأولى رئاسة مجموعة تنسيق الدعم العسكري لأوكرانيا ضمن اجتماعات "رامشتاين" في مقر الناتو ببروكسل. وفي مايو 2025، أطلقت فرنسا مبادرة جديدة بالشراكة مع دول البلطيق لتعزيز القدرات الدفاعية الجوية الأوكرانية. وبالتوازي، واصلت برلين وباريس قيادة مبادرات مستقلة، بما يعكس إدراكاً أوروبياً متزايداً لأهمية ملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن تراجع الدور الأمريكي.
 
 
تراجع أمريكي
 
برزت مجموعة من المؤشرات التي تعكس تراجعاً تدريجياً ومنهجياً في الدعم الأمريكي لأوكرانيا منذ بدء الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتتضح أبرز ملامح هذا التراجع عبر ما يلي:
 
1- إرباك قدرات الجيش الأوكراني بتقليص الدعم العسكري والاستخباراتي: اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطوة صادمة في 3 مارس 2025، حين أعلنت تعليقاً غير محدد المدة لجميع المساعدات العسكرية المخصصة لأوكرانيا، بما في ذلك شحنات أسلحة وذخائر تقدَّر قيمتها بأكثر من مليار دولار. وهو ما انعكس كذلك على الجانب الاستخباراتي؛ ففي 5 مارس 2025، قررت واشنطن تعليق مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع كييف، ما أثّر بشكل مباشر على قدرة الجيش الأوكراني في تنفيذ الضربات الدقيقة، لا سيما باستخدام أنظمة "هيمارس".
 
وبعد ضغوط أوروبية وتحركات دبلوماسية، شهد منتصف مارس 2025 بادرة تهدئة، حيث أُعلن عن استئناف جزئي ومؤقت للمساعدات العسكرية والتعاون الاستخباراتي، عقب محادثات جرت في جدة في 11 مارس 2025، ضمن تفاهم سياسي شمل وقف إطلاق نار لمدة 30 يوماً. ورغم هذه الخطوة المؤقتة، ظل مستوى الدعم الأمريكي بعيداً عن سابق عهده، إذ لم يُستأنف الدعم العسكري الأمريكي بشكل شامل.
 
2- تصاعد التحفظات داخل الكونجرس بشأن تمويل أوكرانيا: برز تحفظ متصاعد داخل الكونجرس الأمريكي، خصوصاً بين الجمهوريين، إزاء استمرار تمويل أوكرانيا. ففي ديسمبر 2024، أُقرّ قانون الدفاع الأمريكي لعام 2025 من دون تجديد "قانون الإقراض والتأجير" لدعم أوكرانيا، فيما أُدرجت مخصصات محدودة بقيمة 300 مليون دولار فقط لبرنامج المساعدة الأمنية "USAI"، كذلك، تعطلت حزمة بقيمة 61 مليار دولار مخصصة لدعم أوكرانيا بفعل خلافات داخل الكونجرس، حيث بقيت معلقة لعدة أشهر قبل أن تُقر في أبريل 2024. وقد اعتُبر هذا التأخير مؤشراً واضحاً على تآكل التوافق السياسي حول دعم كييف.
 
3- تغير الخطاب السياسي الأمريكي تجاه الحرب في أوكرانيا: رافق هذه الإجراءات تحول في الخطاب السياسي الرسمي؛ إذ باتت تصريحات مسؤولي الإدارة الأمريكية تميل إلى التشكيك في جدوى استمرار الحرب، والدعوة إلى حلول تفاوضية بدلاً من الدعم العسكري المفتوح. وقد ساهم هذا الخطاب في إضعاف الموقف التفاوضي الأوكراني، وخلق حالة من القلق لدى الشركاء الأوروبيين بشأن مصداقية الالتزام الأمريكي.
 
4- تراجع الالتزامات الأمريكية بعيدة المدى تجاه دعم أوكرانيا: إلى جانب التراجع في التمويل المباشر، برز خلال الأشهر الأخيرة تآكل في الالتزامات القانونية والمالية الأمريكية بعيدة المدى تجاه دعم أوكرانيا. فقد غابت أي مبادرات تشريعية جديدة تضمن استمرارية الدعم بعد عام 2025، في وقت فشل فيه الكونجرس في تمرير "مشروع الحزمة الاستراتيجية متعددة السنوات" الذي كان مطروحاً قبيل الانتخابات الرئاسية. وقد أثار هذا الفراغ في الأطر التشريعية المستقبلية قلقاً واسعاً لدى الشركاء الأوروبيين، الذين يخشون من تحول الدعم الأمريكي إلى مساهمات ظرفية غير منتظمة، دون وجود إطار مستقر طويل الأمد، بما قد يُقوض ثقة الحلفاء في استمرار واشنطن كداعم رئيسي لأوكرانيا.
 
زخم أوروبي
 
شهدت الأشهر الأخيرة تزايداً ملحوظاً في مسارات التنسيق الأوروبي لدعم أوكرانيا، حيث تبنت القوى الأوروبية استراتيجية متعددة الأبعاد لتغطية الفجوات الناتجة عن تراجع الدعم الأمريكي. ويمكن تفصيل هذه الأبعاد وفقاً لما يلي:
 
1- تعزيز التنسيق الدبلوماسي الأوروبي لدعم أوكرانيا: في ظل تراجع القيادة الأمريكية للمسار الدبلوماسي في الأزمة الأوكرانية، برزت القوى الأوروبية كفاعل رئيسي في دعم كييف سياسياً ودبلوماسياً. وقد تكثفت تحركات العواصم الأوروبية لملء الفراغ التفاوضي من خلال إطلاق مبادرات سياسية مستقلة، من أبرزها مبادرة "ائتلاف الراغبين"، التي دفعت بها باريس ولندن، والتي تهدف إلى تعزيز الردع ضد روسيا، مع بلورة مسارات لحل تفاوضي يحترم وحدة وسيادة أوكرانيا. وبالتوازي، لعبت ألمانيا وفرنسا دوراً محورياً في تنسيق المواقف الأوروبية مع الإدارة الأمريكية، حيث كثف الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" اتصالاته مع واشنطن لتفادي الانقسامات العابرة للأطلسي وضمان وحدة الصف الغربي في مقاربة الحل السياسي.
 
وعلى المستوى متعدد الأطراف، يعمل الاتحاد الأوروبي على تنشيط قنوات التواصل مع شركائه في مجموعة السبع ودول الآسيان، بهدف تشكيل جبهة أوسع داعمة لمسار حل دبلوماسي مستدام. ورغم وجود بعض التحفظات داخل الاتحاد (خصوصاً من المجر وسلوفاكيا)، فإن الزخم الدبلوماسي الأوروبي يعكس إرادة واضحة لتعزيز الاستقلالية الاستراتيجية، ولعب دور ريادي في صياغة ملامح الحل النهائي للأزمة.
 
2- تولي أوروبا قيادة المسار العسكري في دعم أوكرانيا: عبر "آلية التسهيل الأوروبي من أجل السلام"، ضخ الاتحاد الأوروبي نحو 11.1 مليار يورو لدعم أوكرانيا عسكرياً. كما تولت العواصم الأوروبية، ولا سيما برلين ولندن، زمام القيادة في الاجتماعات الدفاعية (صيغة "رامشتاين")، التي تُعقد الآن في مقر حلف الناتو ببروكسل بقيادة أوروبية واضحة.
 
علاوة على ذلك، بادرت ألمانيا بتشكيل "ائتلاف الحرب الإلكترونية"، فيما تعمل عدة عواصم أوروبية على تطوير مبادرات نوعية، من بينها تعزيز الدفاعات الجوية المشتركة، وتوسيع برامج التدريب العسكري للقوات الأوكرانية، في خطوة تعكس انتقال الدور الأوروبي من موقع المساندة إلى موقع الفاعل القيادي في مسار الدعم العسكري.
 
3- تطوير منظومة الدعم الإنساني والاجتماعي لأوكرانيا: واصل الاتحاد الأوروبي تقديم الدعم الإنساني للاجئين الأوكرانيين الذين تجاوز عددهم أربعة ملايين شخص، مع منحهم الحماية المؤقتة. كما ضاعف تمويله لمشاريع إزالة الألغام وتأهيل البنى التحتية المدنية في المناطق المتضررة. وفي هذا الإطار، يُظهر الاتحاد قدرة متزايدة على الجمع بين الاستجابتين الإنسانية والعسكرية في مقاربة متكاملة.
 
4- توسيع أدوات التمويل الأوروبي لدعم الاقتصاد الأوكراني: عمل الاتحاد الأوروبي على تقديم قروض ومنح مباشرة لأوكرانيا بهدف دعم استقرار الاقتصاد الأوكراني وتمويل الموازنة العامة. فقد خصص الاتحاد منذ عام 2023 نحو 19.5 مليار يورو، تبعتها حزمة إضافية بقيمة 18 مليار يورو في أكتوبر 2024. إلى جانب ذلك، أطلق الاتحاد "صندوق أوكرانيا" (2024–2027) بتمويل يصل إلى 50 مليار يورو. ولأول مرة، جرى تفعيل آلية لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لتسديد ديون أوكرانيا، في خطوة تعكس تزايد الجرأة في أدوات التمويل الأوروبية.
 
5- إقرار حزم عقوبات متتالية على موسكو ضمن المسار الأوروبي الموحد: واصل الاتحاد الأوروبي ترسيخ موقفه الموحد تجاه الأزمة الأوكرانية عبر مسار عقابي تصاعدي ضد روسيا. وقد نجح البرلمان الأوروبي، بإجماع أعضائه، في مارس 2025، في إقرار التزام راسخ بدعم أوكرانيا، رافقه إصدار حزم متتالية من العقوبات الاقتصادية، بلغ عددها حتى الآن الحزمة السابعة عشرة.
 
واستهدفت هذه الحزم بنية الصناعات الدفاعية الروسية وشبكات الدعم المالي للنظام في موسكو، إلى جانب معاقبة الشخصيات الداعمة للعمليات العسكرية. ويعكس هذا المسار تصميماً أوروبياً على استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والقانوني كوسيلة لدفع موسكو نحو تغيير سلوكها الاستراتيجي، في حين تستمر مؤسسات الاتحاد في تطوير أدوات عقابية أكثر فاعلية وذات أثر ملموس في المشهد الدولي.
 
تحديات ماثلة
 
رغم النجاح النسبي في بناء منظومة دعم متماسكة، يواجه التنسيق الأوروبي جملة من التحديات البنيوية والسياسية التي قد تقيد فاعليته. ويمكن استعراض أبرز هذه التحديات على النحو الآتي:
 
1- تباين مواقف دول الاتحاد الأوروبي حول حدود الدعم العسكري: تبرز خلافات واضحة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول طبيعة وحدود الدعم المقدم لأوكرانيا. فقد امتنعت المجر عن توقيع البيان الختامي لقمة مارس 2025 الداعمة لكييف، فيما اشترط رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو ربط استمرار الدعم بضمانات تتعلق بمصالح بلاده في ملف نقل الغاز الروسي.
 
ويتعمق هذا الانقسام بفعل تباين الرؤى الأيديولوجية بين تيارين داخل الاتحاد: الأول، بقيادة القوى التقليدية (مثل ألمانيا وفرنسا)، يدعو إلى مواصلة دعم أوكرانيا بلا هوادة. والثاني، مدعوم من تيارات يمينية وشعبوية متصاعدة في عدد من الدول الأعضاء، يعارض تصعيد الدعم العسكري ويدفع باتجاه تسوية تفاوضية. وتبرز في هذا السياق مواقف قادة مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، إلى جانب تيارات سياسية معارضة في دول أخرى، وهو ما أدى إلى عرقلة مقترحات أوروبية لرفع المساعدات العسكرية إلى 40 مليار يورو خلال عام 2025.
 
2- عجز الصناعة الدفاعية عن تلبية متطلبات الدعم العسكري: رغم إطلاق الاتحاد الأوروبي مبادرات كبرى لتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية مثل صندوق SAFE، إلا أن تراجع الطاقة الإنتاجية الحالية في الصناعات العسكرية الأوروبية يُعد أحد أبرز التحديات أمام استدامة الدعم العسكري لكييف.
 
إذ تشير تقارير مراكز الأبحاث الدفاعية إلى أن سلاسل الإمداد الأوروبية تعاني من اختناقات هيكلية في إنتاج الذخائر الثقيلة، وأنظمة الدفاع الجوي، وقطع الغيار، ما يعيق الوفاء بالتعهدات المعلنة. ويفاقم هذا الوضع اعتماد بعض خطوط الإنتاج على مكونات مستوردة من دول خارج الاتحاد، وهو ما يُعرض منظومة الإمداد لمخاطر التقلبات في سلاسل التوريد العالمية. وفي هذا السياق، يدرك القادة الأوروبيون أن ضمان استمرارية الدعم العسكري الفعال لأوكرانيا يستلزم معالجة عاجلة لهذه الفجوات، عبر تحفيز الاستثمار الصناعي، وتطوير شراكات صناعية جديدة داخل الاتحاد، وتعزيز قدرات الإنتاج الاستراتيجي.
 
3- تصاعد الضغوط المالية على موازنات الدول الأوروبية: تشكل تكاليف الدعم العسكري والاقتصادي عبئاً متزايداً على موازنات الدول الأوروبية، خصوصاً مع استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع نسب الدين العام في العديد من العواصم. وتُفاقم هذه الضغوط الحاجة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي في وقت تواجه فيه الحكومات الأوروبية ضغوطاً اجتماعية واقتصادية داخلية، وهو ما يهدد بحدوث تآكل تدريجي في التأييد السياسي والشعبي لاستمرار مستويات الدعم الحالية.
 
وفي هذا السياق، باتت قضايا الاستدامة المالية والتوزيع العادل لأعباء التمويل بين الدول الأعضاء تشكل محور نقاشات متزايدة داخل المجلس الأوروبي، وسط مخاوف من أن يؤدي تصاعد التكاليف إلى تصدعات جديدة في وحدة الصف الأوروبي تجاه الأزمة الأوكرانية.
 
اختبار استراتيجي
 
خلاصة القول، مع تراجع الدعم الأمريكي، بات الاتحاد الأوروبي أمام اختبار استراتيجي لقيادة جهود دعم أوكرانيا. وقد تجاوزت مساهمات الاتحاد نظيرتها الأمريكية بحلول فبراير 2025 بنحو 23 مليار يورو، وفقاً لمعهد Kiel، في تحول نوعي في ميزان الدعم الغربي. ويستعد الاتحاد للمرحلة المقبلة بإطلاق أداة "SAFE" بقيمة 150 مليار يورو لدعم المشتريات الدفاعية، إلى جانب مقترح لتعبئة ما يصل إلى 800 مليار يورو لتعزيز قدراته الاستراتيجية. ورغم هذا الزخم، يبقى مستقبل الدور الأوروبي مشروطاً بعدة عوامل حاسمة، أبرزها قدرة الاتحاد على تجاوز الانقسامات السياسية وتوحيد استراتيجيته تجاه الحرب، وتعزيز القاعدة الاقتصادية لضمان استدامة التمويل الدفاعي، والحفاظ على التأييد الشعبي في ظل ارتفاع كلفة الحرب.