فجَّرت روسيا، في 29 مايو 2025، أزمة دبلوماسية مع صربيا باتهامها بتزويد أوكرانيا بالأسلحة، في سابقة غير معهودة بين الحليفين التقليديين. جاءت هذه الخطوة في توقيت بالغ الحساسية، وسط تصاعد الضغوط الغربية على بلجراد، ومراقبة أوروبية دقيقة لمواقفها. وبالرغم من إعلان الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيتش" أن صربيا وروسيا ستُجريان تحقيقاً مشتركاً لمعرفة كيفية وصول ذخيرة صُنعت في صربيا إلى أوكرانيا، ومحاولته الحفاظ على استقرار العلاقات بين روسيا وصربيا، فإن هذه الأزمة تطرح تساؤلات جدية حول مستقبل التحالف الصربي الروسي، في ضوء التغيرات الجيوسياسية المتسارعة.
الدوافع الروسية
تسعى موسكو من خلال هذه الاتهامات إلى تحقيق جملة من الأهداف السياسية والاستراتيجية تتجاوز مجرد الرد على شبهة التسلُّح:
1– فرض اصطفاف استراتيجي على صربيا في الصراع الأوكراني: تحاول روسيا من خلال هذه الاتهامات العلنية، دفع صربيا نحو الاصطفاف بشكل أكثر وضوحاً في النزاع القائم بينها وبين الغرب، خاصةً بعد أن أصبحت صربيا من أبرز الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتُدرك موسكو أن موقع بلجراد الاستراتيجي وسياساتها المتأرجحة قد تُشكِّل نقطة ضعف في مساعيها إلى توسيع نفوذها في البلقان؛ ولذا فإن التصعيد العلني لا يمكن اعتباره خطوة معزولة، بل هو محاولة لتكريس رؤية أمنية تقوم على استقطاب الحلفاء التقليديين ضمن ما تُسمِّيه موسكو "العالم الروسي". ومن خلال هذه الضغوط، تسعى موسكو إلى سحب الحلفاء الرماديين من دائرة الحياد نحو الالتزام السياسي والأمني الكامل بمواقفها، معتبرةً أن هذه اللحظة لا تحتمل المواقف المزدوجة أو التوفيقية.
2– ردع التوجه الأوروبي المتصاعد نحو بلجراد: يرتبط هذا التصعيد الروسي أيضاً برغبة الكرملين في الحد من توسع النفوذ الأوروبي في الفضاء السلافي؛ إذ جاءت الاتهامات في أعقاب إشارات أوروبية عن تسريع ضم صربيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أثارت تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين حول ضرورة إدماج صربيا استراتيجياً في منظومة الأمن الأوروبي انزعاجاً روسياً كبيراً، كما أن هذا الاتهام يُشكِّل وسيلة لإضعاف شرعية الخطاب الرسمي في بلجراد الذي يروِّج للاعتدال و"الحياد النشط" كاستراتيجية توازن. وتدرك موسكو أن تلويث سمعة بلجراد يمكن أن يعيد تطويقها ضمن دائرة التأثير الروسي، ولو مؤقتاً.
3– إعادة تشكيل العلاقة مع صربيا على قاعدة الولاء التام: من خلال هذا التصعيد، تحاول روسيا أيضاً إعادة تعريف العلاقة الثنائية مع بلجراد من منطق "الشراكة الروحية والتاريخية" إلى منطق "الولاء والالتزام السياسي"؛ فقد عبَّرت تصريحات جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية عن تحوُّل نوعي في لهجة الخطاب؛ حيث استُخدمت تعبيرات مثل "طعنة في الظهر" و"الربح من دماء السلاف". وهذا الخطاب لا يستهدف فقط المؤسسات السياسية في بلجراد، بل يُوجَّه أيضاً إلى الرأي العام الروسي والصربي لإعادة تشكيل الإدراك الجماعي حول طبيعة العلاقة؛ فالكرملين بات يعتبر أن العلاقة مع صربيا يجب أن تمر عبر التزام سياسي مباشر، وليس فقط عبر الرمزية الأرثوذكسية أو التضامن السلافي، وهي مقاربة تُضيِّق الهامش أمام بلجراد في انتهاج سياسة متعددة المسارات.
4– توجيه رسائل إلى باقي حلفاء موسكو المتأرجحين: تخدم هذه الاتهامات أيضاً غرضاً ردعياً تجاه باقي الدول المتأرجحة بين المعسكرَين، كأرمينيا وبيلاروسيا وربما كازاخستان؛ إذ تقدم موسكو في خطابها مع بلجراد نموذجاً واضحاً لما يمكن أن تواجهه الدول التي تحاول الحفاظ على الحياد أو اللعب على الحبلين. وبهذا المعنى، فإن التصعيد الروسي تجاه صربيا لا ينفصل عن منطق التحذير الاستراتيجي من التهاون في دعم الموقف الروسي؛ فهو بمنزلة عقوبة رمزية تهدف إلى استباق "عدوى التوازن" التي قد تنتقل إلى دول أخرى حليفة، كما أنه يكرِّس منطقاً روسياً جديداً في إدارة العلاقات الدولية يقوم على "الحسم بدل التفاهم"، وهو تحوُّل ينسجم مع السياسات الروسية بعد حرب أوكرانيا التي دفعت موسكو إلى إعادة هندسة شبكة تحالفاتها على أساس أكثر صرامةً.
5– توظيف داخلي للأزمة في خدمة التعبئة الروسية: أما على المستوى الداخلي الروسي، فإن هذه الحملة تخدم خطاباً تعبوياً يسعى إلى تحويل الأنظار عن التعثر العسكري في أوكرانيا عبر تأليب المشاعر القومية ضد "الخيانة"؛ فاستخدام مفردات من قبيل "الغدر" و"الربح من دماء الإخوة السلاف" يعكس توظيفاً دعائياً يهدف إلى تقديم تفسير سيكولوجي للهزائم المتتالية، بعيداً عن مسؤولية القيادة الروسية، كما أن تحميل صربيا؛ أحد الحلفاء الرمزيين، مسؤولية إيصال السلاح إلى كييف، يسمح للكرملين بتعزيز خطاب "العزلة الوطنية" و"التعرض للمؤامرة الغربية الشاملة". وبهذا المعنى، فإن صربيا تحولت من شريك في خطاب "الوحدة السلافية" إلى حالة تجريبية لإعادة بناء السردية الداخلية الروسية التي تربط بين انهيار العلاقات التقليدية و"الخذلان التاريخي".
مستقبل معقد
ستترك هذه الأزمة آثاراً مباشرة على مسار العلاقات الثنائية؛ ما يهدد بإعادة صياغة التموضع الصربي بين الشرق والغرب:
1– تراجع الثقة بين موسكو وبلجراد: أحدثت الاتهامات الروسية صدمة في العلاقات الثنائية بين بلجراد وموسكو؛ حيث اعتُبرت بمنزلة كسر لجدار الثقة الذي بُني على مدى عقود من التحالف السلافي؛ فالخطاب الروسي لم يأتِ من وسيلة إعلام هامشية، بل من جهاز استخبارات رسمي؛ ما يضفي عليه طابعاً رسمياً واستراتيجياً. هذه النقلة من الصمت الاستراتيجي إلى الاتهام العلني تضع العلاقات في مسار جديد قوامه الشك والتوجس، لا الثقة والتفاهم. وحتى في حال تشكيل لجنة تحقيق مشتركة، فإن العودة إلى مناخ ما قبل الأزمة يبدو صعباً، خاصةً في ظل إحجام موسكو عن تقديم أدلة قاطعة. ويبدو أن الأساس الأخلاقي والرمزي للعلاقة الثنائية قد بدأ يتآكل، وصار التفاعل بين الطرفَين محكوماً بمنطق المساءلة لا الشراكة.
2– اضطرار بلجراد إلى الابتعاد عن سياسة الحياد النشط: وضعت هذه الأزمة بلجراد في موقف حرج داخلياً وخارجياً؛ إذ لم تعد تستطيع الحفاظ على موقعها المتوازن بين موسكو وبروكسل كما في السابق؛ فبينما تطالبها روسيا بإثبات ولائها، تُراقبها مؤسسات الاتحاد الأوروبي لاختبار صدقيتها بصفتها مرشحاً للعضوية. وأمام هذا الضغط المزدوج، باتت صربيا مطالبة بتحديد موقعها الاستراتيجي بوضوح؛ ما قد يؤدي إلى تقويض سياسة "الحياد النشط" التي انتهجها الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش منذ عام 2017. وبات من المتوقع أن تؤثر هذه الأزمة على مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ حيث ستُطالب صربيا بمواقف أكثر انسجاماً مع الخط السياسي الأوروبي. وهذا قد يُلزمها بمراجعة علاقاتها الدفاعية والتجارية مع موسكو، أو على الأقل إدخال درجة من التمايز في ملفاتها الخارجية.
3– تزايد مخاطر تجميد التعاون بين روسيا وصربيا في ملفات حيوية: تهدد هذه الأزمة بتجميد عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية بين الجانبين، خاصةً في قطاعات الطاقة والصناعات الدفاعية. وتُعد روسيا المورد الأساسي للغاز إلى صربيا، كما أن شركات مثل "غازبروم" تمتلك حصصاً في مصافي التكرير داخل البلاد؛ ما يمنح موسكو ورقة ضغط إضافية. في المقابل، تعتمد الصناعات العسكرية الصربية على التصدير إلى الخارج، ويشمل ذلك أسواقاً تقليديةً ذات صلات بروسيا. وإذا استمرت هذه الاتهامات دون تسوية واضحة، فقد تلجأ موسكو إلى فرض قيود غير معلنة على التعاون التقني أو تأخير إمدادات الغاز؛ ما يخلق ضغطاً اقتصادياً داخلياً على الحكومة الصربية، كما قد تمتنع موسكو عن دعم بلجراد في ملفات حساسة كقضية كوسوفو، وهو ما سيُضعِف الموقف الدولي لصربيا.
4– تعزيز الخطاب المؤيد للانفكاك عن موسكو داخل صربيا: على الصعيد السياسي الداخلي، من المتوقع أن تُغذِّي هذه الأزمة الخطاب المعارِض للتقارب مع موسكو، خاصةً في أوساط المجتمع المدني والتيارات الليبرالية المؤيدة لأوروبا؛ فقد اعتبرت بعض وسائل الإعلام الصربية المستقلة أن الاتهامات الروسية تُشكِّل "ابتزازاً دبلوماسياً" يهدف إلى إخضاع القرار السيادي لبلجراد. وتوقعت شخصيات أكاديمية أن تؤدي هذه الأزمة إلى فرز سياسي جديد في الداخل الصربي، بين تيار يدعو إلى الانفكاك التدريجي عن موسكو، وتيار قومي يرى روسيا حليفاً لا يمكن التفريط فيه. هذا الصراع قد يُترجَم في البرلمان أو في الحملات الانتخابية المقبلة، وقد يكون له تأثير طويل الأمد على خريطة التحالفات السياسية الداخلية، وهو ما يضع الحكومة أمام تحدي الموازنة بين الداخل والخارج في قراراتها الاستراتيجية.
5– محاولة الرئيس الصربي الإبقاء على الروابط مع موسكو: بالرغم من الموقف المحرج الذي تعرَّض له الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيتش" بعد الاتهامات الروسية، حاول "فوتشيتش" الإبقاء على حيز للتهدئة مع موسكو؛ حيث خرج ليؤكد أن صربيا وروسيا ستُجريان تحقيقاً مشتركاً لمعرفة كيفية وصول ذخيرة صُنعت في صربيا إلى أوكرانيا، بعد أن اتهمت موسكو بلجراد بتزويد الحكومة الأوكرانية بالأسلحة، وأشار إلى أنه ناقش صادرات الأسلحة الأوكرانية مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أثناء زيارته إلى موسكو في مايو الماضي، نافياً بعض اتهامات المخابرات الروسية الخارجية.
6– احتمال حدوث تحوُّل استراتيجي في السياسة الخارجية الصربية: على المدى المتوسط، قد تُفضي هذه الأزمة إلى تحوُّل استراتيجي في سياسة صربيا الخارجية، خصوصاً إذا ما تبيَّن أن روسيا مصممة على التصعيد أو التلويح بإجراءات عقابية؛ فإذا تم تقليص إمدادات الطاقة أو تعطيل المشاريع المشتركة، فإن بلجراد قد تجد نفسها مضطرة إلى تعزيز شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويشمل ذلك المجالين العسكري والدبلوماسي، كما أن الضغط الأوروبي، الذي يربط استمرار الدعم بمدى التزام صربيا بالمعايير الغربية، قد يدفع الحكومة الصربية إلى اعتماد خيارات كانت تتجنَّبها سابقاً، مثل تقليص الاعتماد على الغاز الروسي، أو تنويع شركاء التسليح. وبهذا المعنى، فإن الأزمة قد تتحول من خلاف ظرفي إلى نقطة انطلاق نحو مسار جديد في التموضع الاستراتيجي لصربيا.
ختاماً، تشير الاتهامات الروسية لصربيا إلى تحوُّل لافت في طبيعة العلاقة بين البلدين، يتجاوز الخلافات الظرفية نحو اهتزاز في أسس الثقة المتبادلة. وبينما تحاول بلجراد الحفاظ على توازنها بين موسكو وبروكسل، تفرض الأزمة الراهنة عليها خيارات أكثر حسماً. وإذا لم تُعالَج التداعيات بروية، فقد تصبح لحظة الاتهام نقطة فاصلة في مسار تحالف استمر لعقود. ويمكن القول إن مستقبل العلاقات بين روسيا وصربيا بات مرهوناً بقدرة الطرفَين على إعادة ضبط الخطاب وتجاوز منطق الابتزاز؛ فإما الذهاب نحو الترميم المدروس، أو الوصول إلى الانفصال التدريجي.