• اخر تحديث : 2025-08-12 12:33
news-details
مقالات عربية

هذا المقال هو موجز مكثّف لورقة بحثية قُدّمت في المؤتمر الدولي الثامن لزيارة الأربعين في كربلاء المقدسة برعاية العتبة الحسينية المقدسة وإدارة مركز كربلاء للدراسات والبحوث، بتاريخ 28 و29 آب العام 2024. الدراسة للباحثة والأستاذة الجامعية من لبنان، الدكتورة مريم رضا، وعنوانها "الخطاب الإعلامي الغربي والمجال التفاعلي للمشروع الحضاري الإسلامي في الزيارة الأربعينية".
 
زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام في العشرين من شهر صفر حدث عالمي مليوني عابر للتاريخ والجغرافيا. هو تجمّع بشري تشارك فيه العديد من الجنسيات الأجنبية المختلفة الذين يعاينون عن كثب فرادة الحدث وخصوصياته. وتم إدراج العزاء والتقليد الاجتماعي المتمثل في تقديم الضيافة والخدمات خلال الأربعين في قائمة "اليونسكو" التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية في العراق. بيد أنّ زيارة الأربعين تحمل أبعادًا تتجاوز المقدّس الديني وفق المفهوم المادي المفسّر للطقوس والشعائر، كما أضحت مسيرة الأربعين منصة إعلامية دولية. ولما كانت السلطة السياسية تهيمن على سردية الخطاب الإعلامي وتطوّع المفردات والنقل خدمة للمصالح والأجندات، كيف ينقل الخطاب الغربي صورة الزيارة الأربعينية؟ وما هي الصورة التي تنشرها وكالات الأنباء الغربية والمراكز البحثية عن الزيارة؟  
 
 زيارة الأربعين في جوهرها عملية تنصهر فيها الأبعاد المادية والروحية في بناء الشخصية الإسلامية السويّة، وتاليًّا المجتمع الإسلامي القوي والمتماسك. الزيارة تحيي أهداف نهوض الإمام الحسين واستشهاده، وتعبّر عن تجديد البيعة والعهد للرسالة الحسينية العاشورائية في طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفض الظلم والجور. الاستشهاد ليس نهاية حياة وإنما بداية البناء الحقيقي للحضارة الإسلامية ببعديها المادي والمعنوي. وتعكس الزيارة بكل محطاتها مجموعة من القيم الحضارية الإنسانية التي تنادي بها كل الأديان، وتدّعيها مختلف الجماعات نظريًّا بمعزل عن التطبيق. فالزيارة تترجم الحضارة الإسلامية في نبذ الفوارق والاختلافات وكسر قيود التفرقة والعنصرية.
 
وتجسّد الزيارة عهد وفاء للمسيرة الإعلامية التي قادتها السيدة زينب بنت علي، أخت الإمام الحسين، في رفع الصوت ضد الجور والطغيان، ونقل الحقائق، وإظهار الحق، حتى غدا المنبر الزينب طليعة الإعلام المقاوم. وتحمل مسيرة الأربعين العديد من رسائل السياسة والثقافة والاجتماع. تتوزّع الرسائل السياسية في وحدة الأمة وحب الحرية ومواجهة الظلم، وتُعزّز الثقافية منها فكرَ أهل البيت ونهج الاقتداء بهم، وتنمية المفاهيم العاشورائية المختلفة في الحب والإيثار والتضحية. كذلك، تبرز الرسائل الاجتماعية في النظام والتضامن، والتماسك والوحدة. هذه المفاهيم القيمية والأخلاقية هي جوهر الهوية الإنسانية الجامعة؛ الهوية الحضارية التي تعبّر عن المجتمع الإنساني المتضامن والمتماسك حول مفاهيم التكامل والتراحم.
 
وفي حين الحضارة الإسلامية تكتنز منظومة فكرية أخلاقية تسمو فيها علاقة الروح بالجسد، ويتكامل فيها الفرد بالمجتمع، تتعرّض الزيارة الأربعينية لعملية ممنهجة في النقل والسرد بناء على موقعيتها الريادية في بناء المشهد الحضاري الإسلامي في ظل اتجاه صراع الحضارات الثقافي. يحدّد المنظّر الأمريكي، صموئيل هنتنغتون، في كتابه "صدام الحضارات"، الحضارة الإسلامية بأنها الأشد خطورة على المنظومة الثقافية الغربية. فالاختلاف الثقافي وفقًا لهنتنغتون بين الفكر الغربي والإسلامي هو الأساس وجوهر الصراع والتصادم بين المنظومتين، وهذه النظرة للثقافة الإسلامية على أنها تهدد الهوية الغربية ساهمت في تعميق أزمة الرؤية الغربية للإسلام وعززت ما يُعرف بـ "الإسلاموفوبيا" أو الخوف الشديد من الإسلام والمسلمين. وقد اعتمد الغرب على الوسائل الإعلامية في مواجهة المنظومة الفكرية الإسلامية بغية الهيمنة على العقول عبر قصفها بالأكاذيب والتضليل وتزوير الحقائق، وصولًا إلى مرحلة تغيير المواقف والسلوك.
 
تشير مجموعة من الدراسات والمقالات الأجنبية إلى وجود نظرة نمطية سلبية في الإعلام الغربي عن الإسلام، حيث تُدرس الزيارة الأربعينية بشكل ناقص يشوّه الأبعاد الحقيقة لها؛ فضلًا عن أنها لا تنال الاهتمام المناسب من وسائل الإعلام الغربي بما يتوافق مع حجمها وخصوصياتها. يستجيب الإعلام الغربي لصورة الزيارة الأربعينية بصورة ضعيفة لتغطية زيارة الأربعين من قبل الوكالات الإعلامية الغربية. كما أن الدراسات التي تنقل روح الزيارة نادرة، إذ يتم التركيز على صورة الزيارة المادية من طقوس عبادية ومظاهر خارجية دون القيم والأخلاق والمُثل الإسلامية التي يعيشها الزوار طوال طريق المشاية، من النجف إلى كربلاء.
 
 تؤكد مجموعة المقالات الواردة في مختلف الوكالات الإعلامية الأجنبية الإخبارية والبحثية، من العام 2014 إلى العام 2023، وعددها 51 مقالًا، وجود عملية تأطير للزيارة الأربعينية وإعادة صياغة لها واستبعاد للمعاني والرسائل السياسية والثقافية والاجتماعية الغنية بها. على سبيل المثال، تطل المقالات الأجنبية بعناوين توجّه القارئ الغربي نحو الزيارة على هويتها "الشيعية" الهوية أكثر من الهوية الإسلامية الجامعة بمعدل ستة أضعاف، بينما تتساوى نسبة مصطلح "الإنسانية" مع نسبة مصطلح "الإسلام الشيعي" (13.11%). وتعمل الدراسات على مماثلة الزيارة بالطقوس الدينية المختلفة لدى بقية الشعوب والجماعات الدينية من المسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس.
 
تحكم السردية الغربية سلسلة من العمليات الكابحة لنشر الزيارة الأربعينية كنموذج في صعود الحضارة الإسلامية والمشروع النهضوي المتكامل في بناء الإنسان السويّ والمجتمع المهدوي. وتتوزّع هذه العمليات ما بين التجاهل والتنميط والتهميش والكبت. وفي حين تمثّل الزيارة هوية ثقافية قيمية وأخلاقية هي خلاصة التكامل الروحي المادي وفق الهوية الدينية الإسلامية، وعصارة عملية البناء في انسجام الفكر والعقيدة والسلوك والمواقف، وذروة الارتباط الروحي والفكري، والسلوكي العملي على حدّ سواء، يتنوّع وصفها في الخطاب الغربي، لكن مع اصطفاف خلف مصطلحات تحاول توهين شأنها وتقويض فرادتها. يحصر التقليد والتكرار ذهن الجمهور بنوع من "الطقوس" العبادية الجوفاء الخالية من المضامين الروحية والمعنوية، ويوهّن موقعيتها ويجعلها في موازاة أنواع الحج الأخرى.
 
تعتمد وسائل الإعلام الغربية مفردة "الحج" بدل الزيارة في الترجمة، لكن الواقع أن الشعيرتين مختلفتان، كما تُحصر في دائرة "السياحة الدينية"، ويصورّها البعض أنها "فرصة الطبقة العاملة للسفر". تقدم السردية الغربية الزيارة على أنّها تاريخ أحداث، يبدأ من وفاة النبي الأعظم إلى معركة كربلاء، وطقس في اللطم وارتداء اللباس الأسود والبكاء والدموع والنواح والمواكب والأناشيد والألحان. يستثمر الخطاب الغربي زيارة الأربعين للحديث عن الوضع السياسي للعراق أو الدول المجاورة من باب تسويق فكرة استغلال أهل الحكم للشعب في تثبيت سلطتهم. وللمفارقة، يتجنّب الخطاب الغربي الحديث عن الإصلاح وهو جوهر النهضة الحسينية، وتُطمس الهوية الإنسانية الجامعة للقيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة، بينما ينشط الخطاب في تغذية الانقسام المذهبي الشيعي السني خلال فترة وجود "داعش".
 
وكالات الأنباء الغربية صاغت الرواية قبل هزيمة داعش بطريقة مختلفة عما بعدها. قبل العام 2017، ارتبطت الرسائل بعناصر الخطر والتهديد والانقسام المذهبي والتطرّف والنبذ، ما يتعارض مع رسالة الإمام الحسين. وبعد هزيمة التنظيم الإرهابي، ركّزت الترجمة الثقافية على الشكل دون المضمون، والصورة العامة، والمعاني السطحية التي لا تتعدّى الرسائل الهدفية من العبادة والاعتقاد بالآخرة والارتباط بالإمام من باب "القداسة". أما الهدف فهو استبعاد الرسائل السياسية والثقافية والاجتماعية التي تعبّر عن جوهر الزيارة وموقعيتها في بناء الحضارة الإسلامية. وبناء على تحليل البيانات، يعتمد الخطاب الغربي عملية انتقائية تركّز على عوامل غير مؤثرة في هوية المتلقين، بل على العكس تساهم المختارات في توجيه الجمهور باتجاه أطر وأفق ضيّقة تصنع الحواجز بدلًا من هدمها.
 
وعلى الرغم من محاولات الطمس والتعتيم، تُظهر الزيارة الأربعينية طاقة إيجابية في اختراق الصدود التي تفرضها حواجز الماكينة الإعلامية الغربية عبر سياساتها في قمع الإعلام الغربي عن التفاعل مع الزيارة الأربعينية بترجمتها الأصيلة. بالنسبة لبعض ترجمات الخطاب الغربي، على ندرتها، الزيارة هي "ثقافة مادية مشبّعة بالمقدس"، و"الإيمان والحب هما سبيل الزوار للتخلص من خوف الطريق وتهديداته". كما إنها "زيارة سياسية وأخلاقية وروحية رفيعة المستوى للغاية" و "تَجمُّع متعدد الثقافات" قادر على كسر حواجز الهوية. تظهر قدرة الزيارة بمفاعيلها على اختراق "التجهيل" و"التعتيم"، سيّما إذا ما تكاتفت جهود الجهات المعنية الدينية والعلمية والأمنية والفنية والإعلامية في التنسيق والتشبيك لاستخراج جوهر الزيارة، والأهم هو التسييل المعرفي عمليًّا وتطبيقيًّا بغية المعالجة والترميم، وتعزيز عملية البناء.