في خضم الأحداث المتسارعة في فلسطين وسورية ولبنان وفلسطين، يتحتم الموقف إعادة القراءة في الموقف التركي وفي أحلام أردوغان التوسعية مستغلة شعار الإسلام السياسي في إشعال المنطقة، والمنسجم مع توصيات برنارد لويس ومشروع الشرق الأوسط الكبير. عناوين كبرى تواجهها منطقتنا في الهلال الخصيب وهي ليست بعيدة عن الحرب الكلامية التي تقودها "اسرائيل" اليوم ضد تركيا ودورها في سورية والمضي في احتلال المزيد من الأراضي السورية. في الوقت نفسه هناك أخطار تحيق بتركيا ولكن جنون العظمة الأردوغاني حال دون تضامنه مع جيرانه وصون حرياتهم واستقلالهم بسبب الحسابات الغبية بإعادة المجد العثماني.
كتبنا في موقع متعددة خلال سنين الربيع "العبري" حول أطماع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، العثمانية التوسعية. بعد سقوط دمشق، بدت الأطماع التركية في سورية واضحة المعالم. فاحتلت تركيا محافظتي حلب وإدلب بشكل كامل، وحاولت من خلال رجلها، أحمد الشرع، الذي وصل إلى سدة القرار في دمشق التمدد وإنشاء قواعد عسكرية في سورية، وإنشاء قاعدة في مطار التي فور. ال تي فور واحدٌ من أهم المطارات العسكرية في سورية، وما أن أبدت تركيا الإهتمام به في شهر آذار/ مارس من هذا العام، حتى قام العدو الصهيوني بقصف المطار ودمره تدميراً كاملاً كما هدم العديد من القواعد العسكرية السورية. وكان هناك تصريح صهيوني واضح، بانه لن يسمح لتركيا بالتمركز العسكري في سوريا، بحجة أن هذا يمثل خطراً مباشراً على أمنه.
تزامن القصف مع اتهامات صهيونية لتركيا، بكلام صريح لمسؤولي الكيان، بدعم حركة المقاومة الإسلامية/ حماس/ بالسلاح. الكلام بعيد عن الحقيقة، ووراءه الكثير من العدائية المصطنعة لتركيا، خاصة وأن تدفق المنتجات التركية لم يتوقف إلى الكيان، ولم تتخذ تركيا أي موقف حقيقي منذ العام 2010 حين هوجمت سفينة الحرية التي توجهت لفك الحصار عن غزة. الأتراك يكثرون من الكلام ولكنهم يحتضنون الموساد وعملائهم لضرب أعداء الكيان. دور تركيا المشبوه والصريح في دعم ما سمي بالربيع العربي، وهو في الحقيقة ربيع عبري- تركي، تجلى في اتفاقات آستانة في العام 2015 وحتى آخرها في الدوحة 2024، حيث بقيت تركيا تلعب على الحبلين، الحبل الأميركي ولاحقاً الحبل الروسي- الإيراني. واستمرت تلعب بدهاء خلال الحرب الأميركية- الروسية في أوكرانيا، واستغلت حاجة الأميركيين لها في تنفيذ خططهم، وحاجة راعيي آستانة لها في تسهيل التجارة العالمية عبرها، واستطاعت وضع حلفاء سوريا تحت حصار سياسي خانق. كما لا يخفى دورها في تمرير إرهابيي دول بحر قزوين والإيغور، "الطورانيين"، للقتال في سوريا والعراق، تسهيلاً للتدخل الأميركي والصهيوني في العراق وسوريا، حتى وصل جيش الكيان على بعد 20 كم عن العاصمة دمشق، بعد انهيار النظام.
كرست تركيا، خلال المرحلة ما قبل سقوط النظام، احتلال إدلب. وأنشئت فيها حكومة مؤقته بقيادة أبو محمد الجولاني "أحمد الشرع" لاحقاً، وفرضت العملة التركية واللغة التركية في المدارس، وأنشئت الجيش الوطني السوري المكون من عناصر النصرة في العام 2020. منذ تلك اللحظة بدأت ملامح التقسيم في سورية جلية بحسب المخطط، الذي وضعه برنارد لويس للشرق الأوسط الكبير. وعندما ابتدأ السعى الصهيوني الأميركي الحثيث، نحو "إسرائيل الكبرى"، وإسقاط النظام العربي المقاوم في دمشق، جاء نظام من نمط مختلف لم تعرفه سوريا منذ تكريس سايكس- بيكو في العام 1920. نظام متكامل مع المشروع التركي والصهيوني خلال الثلاث عشرة سنة الماضية.
بدا لتركيا أن الظرف التاريخي بعد سقوط الأسد سيمكنها من توسيع سلطتها على معظم الأراضي السورية، وأن الحلم العثماني بات على مرمى حجر، فأظهرت شرهاً للسيطرة على الساحل السوري الغني بحقول الغاز الطبيعي، وتأمل من خلال وضع اليد عليه واستخراج الغاز والسيطرة على مصفاة حمص، واحدة من أكبر مصافي النفط في الشرق الأوسط، لصالح تقوية موقع تركيا في منتدى غاز شرق المتوسط. وقد دفعت خلال الحرب السورية 2012- 2024 بالمجاميع الإرهابية من أجل احتلال الساحل والتمركز في منطقة كنسبا الإستراتيجية في ريف اللاذقية، تمهيداً للسيطرة على المحافظة، ولذلك فإن سلسلة المجازر التي تلت سقوط النظام في سورية والتي ساقتها نفس المجاميع بأهالي الساحل السوري، باسم الدولة، لم يكن خارج السياق المخطط وقد فعلتها من قبل.
لا يشكل أردوغان مصدر القلق بالنسبة للغرب والدولة الصهيونية، بل الوجود التركي بحجمه الحالي هو المشكلة، ولذلك تجب تقسيمها بحسب مشروع الشرق الأوسط الجديد. وفي الوقت نفسه لا يمكن لتركيا أن تكون مصدر ثقة عند العرب، فالحلم العثماني لا يتعلق بشخص ما بل هو منهج اتبعته تركيا منذ أن قصقص الغرب جناحيها إثر معادلة سيفر 1919. وتركيا لم تسامح العرب حتى اليوم لأنهم انطلقوا بثورتهم ضدها في العام 1914 للتخلص من نير الحكم العثماني. ويبدو أن شدة الصراع المتفاقمة منذ سلسلة الإنقلابات في غرب إفريقيا في تموز/ يونيو 2023، في النيجر ومالي وغيرهما، أنهى سيطرة عدد من الدول الغربية وأولها فرنسا والولايات المتحدة، وبهدوء غريب، وسمح لروسيا بأن تحل مكانها، وكأننا يومها كنا أمام معاهدات "سيفر" أو "سان ريمون" أو "سايكس-بيكو" جديدة، أعادت توزيع النفوذ حول العالم، وما حدث ويحدث اليوم هو تكامل الإنقلابات.
حتى روسيا لا تثق بتركيا، وتجربتها معها منذ العام 2015 تنبأ بذلك، وبحسب مصدر موثوق للعهد طلب احد الجنرالات الروس من سوري معروف يحمل الجنسية الروسية وصله بأحد القيادات الكردية وعبر بأنهم لا يثقون بالاتراك. فمخطط سايكس بيكو الجديد، والذي فضحت معالمه تصريحات المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان، توم برّاك، ينبئ بالقادم على تركيا وأولها انسحابها من العراق. تركيا تعلم ما يخطط لها، وأنها تقع ضمن الدول التي يسعى الغرب لتقويضها وتقسيمها، ومروحة احتلالاتها تقع ضمن توسيع نطاق المناورة، وهذا ما فعلته تاريخياً عبر تصعيد معاركها. صحيح أن روسيا لا ترغب بفتح أي صراع مع "اسرائيل" أو تركيا، لكنها لن تقف في مواجهة الغرب في وجه تقسيم تركيا.
نحن هنا في الحقيقة أمام دولتين احلاليتين وتوسعيتين، هما "اسرائيل" وتركيا. وكلاهما يفهمان بعضهما بعضاً، ولذلك فالتراشق والإتهامات المتبادلة ما بين الكيانين ليست مستغربةً. ولكن يبدو أن المصلحة التركية تقضي تراجعها لصالح "اسرائيل" المدعومة أميركياً. ففيما كانت تحاول تركيا توسيع نفوذها على الأراضي السورية، شهدت استانبول أعمال شغب واتهامات واعتقال رئيس بلدية استنبول، أكرم إمام أوغلو، في منتصف آذار/الماضي وارتفعت أصوات تطالب بضرورة سحب الثقة من الحكومة الحالية والدعوة إلى انتخابات مبكرة. التحركات المعارضة كانت تنبأ بمحاولات انقلاب في تركيا، مما يذكر بالعصا الأميركية التي لوحت في وجه أردوغان في العام 2016. قام أردوغان يومها بالوقوف جانباً واكتفت الدولة بالتصريح بأن لا مصلحة لها بالإشتباك مع "اسرائيل".