قد يبدو هذا السؤال غريبا للبعض، وقد يراه آخرون أنه مجرد تفكير رغبوي لا يستند للواقع استنادا إلى قناعة أن تركيا دولة إقليمية كبرى، وتملك مؤسسات قوية و متجذرة أكثر من الدول العربية التي انهارت فيها المؤسسات لأنها لم تكن تقاد إلا من حكام دكتاتوريين هدفهم السلطة فقط.....وطالما أن سبب السقوط هو هذا كما يروج كثيرون ، دعوني أركز إذن على مؤشرات قد تجعل تركيا تتعرض لنفس ما تعرضت له دول مجاورة لها، لكن بسيناريو مختلف:
1- لم يخف اردوغان أنه نائب رئيس مشروع الشرق الاوسط الكبير ( الرجل صرح ٢٩ مرة علانية أنه مكلف بهذه المهمة ، التي طلبت من أستاذه المرحوم نجم الدين أركان و رفضها، ما أدى لاحقا لتأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم بحجة التجديد، والاصلاح، وعدم قدرة جيل أربكان على التطوير حسب قول أردوغان ورفاقه الذين أسسوا معه الحزب، ولاحقا أطاح إردوغان بهم واحدا تلو الآخر ليستفرد بالسلطة لوحده، ومنهم: عبد الله غل، بولانت أرينتش، وغيرهم)...
2- تعززت سياسات أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية)
الهادفة للاستئثار بالسلطة ، بعد الاطاحة بكبار الضباط الاتاتوركيين - القوميين الذين عارضوا المشروع الامريكي و غزو العراق عام 2003 ، وتصاعدت أكثر منذ محاولة الانقلاب عام 2016، حيث شهدت تركيا تحولات كبيرة باتجاه تركيز الصلاحيات بيد الرئيس، خصوصًا مع النظام الرئاسي الذي فُرض عام 2018، والتضييق على الأحزاب الكردية (مثل حزب الشعوب الديمقراطي/اليسار الأخضر)، وتهميش المعارضة العلمانية والقومية من خلال القضاء والإعلام الموالي، اضافةلإضعاف المؤسسات المستقلة: القضاء، الجيش، والبيروقراطية التي باتت أكثر خضوعًا للسلطة التنفيذية.
3- إلغاء التعددية السياسية التي ما زالت قائمة شكلًا، لكن مفرغة من مضمونها؛ حيث تُحاصر المعارضة في الإعلام، التمويل، والعمل السياسي ، وقد أدى هذا إلى زيادة الانقسام المجتمعي بين الموالين لأردوغان (المحافظون-الإسلاميون-القوميون) والمعارضين (علمانيون، أكراد، يساريون، ليبراليون).
4- العامل الكردي: العامل الأكثر خطورة، إذ أن استمرار القمع السياسي والعسكري للأكراد قد يعزز نزعات الانفصال أو الحكم الذاتي، خصوصًا إذا دعمته قوى خارجية (كما حدث في شمال العراق وسورية)، ولقد أدرك اردوغان خطورة ذلك تماما، فلجأ إلى التصالح التاريخي مع أوجلان، ومع ذلك ينتظر الأكراد خطوات عملية من البرلمان لإعادة دمج المقاتلين والعفو العام، وإطلاق سراح أوجلان....
5- العامل الاقتصادي: الأزمة الاقتصادية الحادة التي تضعف التماسك الاجتماعي، وقد تولّد مناطق تشعر أنها “تدفع الثمن” أكثر من غيرها.
6- العامل الإقليمي: تركيا محاطة بتوترات (سورية، العراق، القوقاز، شرق المتوسط)، وأي صراع كبير قد يستغلّ هشاشة الداخل.
7- الخريطة المذهبية في تركيا
السنة: هم الأغلبية(أكثر من 70%)، موزعون قوميا بين الأتراك والأكراد والعرب، وأما العلويون (Alevi/Bektashi): نسبتهم تتراوح بين 15–20%، موجودون في مناطق وسط الأناضول، اسكندرون، سيواس، تونجلي، وأحياء داخل إسطنبول وأنقرة، وهناك أيضًا عرب علويون (قرب الحدود السورية في لواء اسكندرون) وهؤلاء حساسيتهم شديدة تجاه ما جرى في سورية.
8- ارتدادات الأزمة السورية على تركيا اذ أظهرت الحرب السورية اصطفافًا طائفيًا حادًا، حيث شعر
العلويون الأتراك أن خطاب أردوغان ضد الأسد موجه ضدهم هم أيضًا، خاصة مع لهجة "نصرة السنة السوريين"، فالسنة الأتراك، خصوصًا المحافظين والقوميين، انخرطوا عاطفيًا في دعم المعارضة السورية، وكانت النتيجة تعميق الهوة السنية–العلوية داخل تركيا.
9- تديين السياسة: أردوغان وحزبه عززوا الهوية السنية المحافظة في الخطاب الرسمي (المدارس الدينية، المساجد، رمزية العثمانية)، وعملوا على تهميش العلويين حيث لم يتم الاعتراف رسميًا ببيوت العبادة العلوية (Cemevi)، ولا بمكانتهم، مما ولّد شعورًا بأن الدولة "ليست دولتهم"، وشكلت المجازر التي أرتكبت في الساحل السوري، ودعم حكومة أردوغان لسلطة الأمر الواقع في سورية، عاملا اضافيا جعل علويي تركيا يعتبرون أن أردوغان "يدعم قتل العلويين" في سورية، وهذا خلق جرحًا نفسيًا عميقًا.
10- المخاطر المستقبلية تبدو واضحة مع استمرار سياسات أردوغان في "أسلمة الدولة" ما قد يجعل العلويين يشعرون بأنهم "غرباء في وطنهم"، مما يفتح الباب لمطالب أوسع بالحماية أو الحكم الذاتي.
وتقدم الأحداث التي وقعت في سورية نموذجًا تحذيريًا: إذا جرى تفجير الانقسام المذهبي في تركيا كما في سورية،وهو ما يمكن أن يصبح عاملًا لتفكيك النسيج الاجتماعي.
10- يبدو لي أن الانقسامات المذهبية، والهوياتية في تركيا أشبه ببرميل بارود ساكن، لم يُفجَّر بعد بحجم ما حدث في سورية.
لكنه يزداد سخونة بفعل:
سياسات أردوغان التهميشية ، وانعكاسات الحرب السورية ، والتوتر الاقتصادي والسياسي ، ومع استمرار الاستئثار بالسلطة من قبل اردوغان وقمع المعارضة،والعمل على تفكيكها كما يحدث الان مع حزب الشعب الجمهوري سوف يتحول الخلاف السياسي تدريجيًا إلى خلاف مذهبي–هوياتي شبيه بالمسار السوري لكن داخل سياق تركي مختلف، لأن مهندس المشروع واحد، واعتقاد أردوغان أنه سينجو ببلده بعد أن أحرق جيرانه هو اعتقاد واهم ، إذ أن المشاركة في تدمير جيرانك سينعكس سلبا على أمنك القومي، ويضعفه بشكل كبير، وسيتذكر هؤلاء المثل الذي يقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، وما بناء الملاجئ في المدن التركية، وتعزيز القدرات الدفاعية الا نتيجة الإدراك العميق لحجم المخاطر القادمة، التي يوجهون الرأي العام إلى أنها خارجية، لكن الخصوم سيفجرون الداخل، والداخل فقط، خاصة أن الحرب الأخيرة على إيران أظهرت أن العدوان الخارجي يوحد الشعب، وهو ما لن يفعلوه مع تركيا.