مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب حسين كالوت يتناول الأزمة المتصاعدة في العلاقات بين الولايات المتحدة والبرازيل في عهد ترامب، وما نتج عنها من تصعيد اقتصادي وسياسي وجيوسياسي انعكس على التوازنات الإقليمية والدولية.
المقال يحلّل كيف أنّ سياسة ترامب العقابية تجاه البرازيل أضعفت نفوذ الولايات المتحدة، وخلقت فرصة للصين لتوسيع حضورها هناك، ما يعكس تحوّلاً أوسع في ميزان القوى العالمي نحو تعددية قطبية. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في نيسان/أبريل، عندما أعلن دونالد ترامب عن فرضه رسوماً جمركية في "يوم التحرير" على عشرات الدول، خرجت البرازيل سالمةً إلى حد كبير. وأصبحت الصادرات البرازيلية إلى الولايات المتحدة خاضعةً لرسوم جمركية بنسبة 10%، وهي النسبة الأساسية، مُتجنّبةً بذلك الرسوم الجمركية المُرهقة التي تمّ فرضها على سلع بعض حلفاء الولايات المتحدة. وفي أواخر تموز/يوليو، أعلن ترامب أنّ الصادرات البرازيلية ستواجه رسوماً جمركية بنسبة 50%، وهي من أعلى المعدلات التي فرضتها واشنطن في العالم. وقد أثار هذا الإعلان احتمال نشوب حرب تجارية بين الولايات المتحدة وأكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية. وهذا الأمر يشير إلى استعداد ترامب لاستخدام الرسوم الجمركية ليس فحسب لفرض صفقات تجارية أكثر فائدة أو موازنة العجز التجاري، بل كأداة للتأثير على السياسة الداخلية لدولة أجنبية أيضاً.
وعند الإعلان عن نسبة الرسوم الجديدة، ذكر البيت الأبيض أنّ "الاضطهاد والترهيب والمضايقة والرقابة والملاحقة القضائية ذات الدوافع السياسية التي تمارسها البرازيل ضد الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو"، حليف ترامب الذي يخضع للمحاكمة بتهمة تنظيم انقلاب بعد فشله في إعادة انتخابه في عام 2022، يرقى إلى "انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان قوّضت سيادة القانون في البرازيل". وقد ألغت الولايات المتحدة تأشيرات 8 من أصل 11 قاضياً في المحكمة الفيدرالية العليا البرازيلية، وفرضت عقوبات اقتصادية، بموجب قانون ماغنيتسكي العالمي، على القاضي ألكسندر دي مورايس، الذي يشرف على قضية بولسونارو. وتأتي هذه الإجراءات رداً على الدور المحوري للمحكمة في محاكمة بولسونارو وأنصاره لتورّطهم في القيام بمحاولة انقلاب بعد الانتخابات. وهي تُشكّل هجمات علنية على شرعيّة المؤسسات الديمقراطية البرازيلية. وقد اعتبرت الحكومة البرازيلية هذه الإجراءات، إلى جانب الرسوم الجمركية الجديدة، انتهاكات صارخة لسيادتها ومحاولاتٍ متعمّدة لإضعاف موقف الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي هزم بولسونارو، قبل الانتخابات المقرّرة في تشرين الأول/أكتوبر 2026.
وقد قوّضت واشنطن مصداقيّتها كشريك موثوق لصديق حافظت معه على أكثر من قرنين من التعاون الدبلوماسي والاقتصادي. وبدلاً من تعزيز المصالح الأميركية (أو مصالح ترامب)، أثارت هذه الإجراءات ردود فعل عنيفة في البرازيل. إذ تُشير استطلاعات الرأي إلى أنّ غالبية البرازيليين لا يوافقون على تصرّفات ترامب، التي ساعدت في تأكّل الدعم لبولسونارو وإضعاف التماسك الأيديولوجي للكتلة الاقتصادية اليمينية في البرازيل ونفور قطاعات من النخبة التجارية. ونتيجة لذلك، باتت حتى القطاعات المحافظة التي كانت في السابق حريصة على اتباع نهج واشنطن أكثر ميلاً اليوم إلى دعم استراتيجية الحكومة البرازيلية الرامية إلى تنويع الشراكات الاقتصادية وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
كلما سعت الولايات المتحدة إلى تقويض سيادة البرازيل وزعزعة استقرار مؤسساتها الديمقراطية، بما في ذلك من خلال الدعوة الضمنية إلى تغيير النظام، كلما خلقت مساحة جيوسياسية أكبر للصين لتوسيع نفوذها الكبير بالفعل في البلاد. إذ تعمل بكين جاهدةً على ترسيخ حضورها في البرازيل من خلال الاستثمار في مجالات حيوية مثل الطاقة والزراعة والأمن الغذائي والدفاع والتكنولوجيا المتقدّمة وتصنيع السيارات وبرنامج الأقمار الصناعية المشترك والبنية الأساسية الاستراتيجية مثل الموانئ. وأبرزها بناء الصين خط سكة حديد عابر للقارات طموح في البرازيل لربط المحيطين الأطلسي والهادئ. وعليه، فإنّ هذه التطوّرات لا تُضعف مكانة واشنطن في البرازيل فحسب، بل تُعيد أيضاً ضبط توازن القوى الإقليمي الأوسع.
وبالنسبة للكثير من صنّاع القرار في البرازيل، فإنّ هذا الوضع مرفوض لأنه يبطئ ظهور النظام العالمي متعدّد الأقطاب الذي طال انتظاره. وبدلاً من أن تتمكّن البرازيل من موازنة علاقاتها مع كلّ من الولايات المتحدة وخصومها التقليديين، إلى جانب تعزيز علاقاتها مع ما يُسمّى بالجنوب العالمي، يتمّ دفعها نحو خيار ثنائي: إما التحالف التامّ مع واشنطن أو مع بكين. وفي مواجهة التهديدات المتزايدة من واشنطن، قد تستنتج برازيليا في نهاية المطاف أنّ خياراتها أصعب بكثير مما توقّعت.
الأصدقاء غير الدائمين
على مدى عقود من الزمن، ارتكزت العلاقة الإيجابية والمثمرة بين البرازيل والولايات المتحدة على المصالح والثقة المتبادلة، الأمر الذي عزّز بدوره الاستقرار الإقليمي. فخلال الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، تحالفت البرازيل مع الولايات المتحدة وسمحت لها ببناء قواعد جوية في شمال شرق البلاد مقابل مساعدات اقتصادية وتنمية صناعية، وهذه نقطة تحوّل محورية في استراتيجية الدفاع في نصف الكرة الأرضية. وفي الآونة الأخيرة، شهدنا تعاوناً مكثّفاً في مجال الأمن الإقليمي ومكافحة تجارة المخدرات غير المشروعة، ولا سيما من خلال آليات مثل اتفاقية التعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة والبرازيل لعام 2010، والتي عمّقت العلاقات المؤسسية بين قوات الأمن في البلدين. واليوم، تعكس التجارة الثنائية عمق هذه الشراكة وعدم تكافئها. ويؤكّد تحقيق الولايات المتحدة فائضاً تجارياً مع البرازيل بلغ نحو 400 مليار دولار خلال العقد الماضي على الميزة الهيكلية التي تتمتع بها واشنطن.
وهذا لا يعني عدم وجود خلافات أو توترات، ولا سيما في ظل سعي البرازيل إلى انتهاج سياسة خارجية أكثر استقلالية. فقيادة البرازيل للجنوب العالمي، ولا سيما خلال فترة رئاسة لولا الأولى (2011-2003) وفي عهد خليفته ديلما روسيف (2016-2011)، غالباً ما تعارضت مع أولويات الولايات المتحدة. وقد أدركت واشنطن وجود عدد من الاختلالات الاستراتيجية، منها معارضة البرازيل الصريحة للغزو الأميركي للعراق في عام 2003؛ ودورها المركزي في عام 2009 في إنشاء مجموعة "بريكس"، وهي كتلة حكومية دولية متنامية ذات نفوذ عالمي متزايد؛ وجهودها المشتركة مع تركيا في عام 2010 للتوسّط في اتفاق نووي مع إيران، والذي همّشته إدارة أوباما في نهاية المطاف لصالح المفاوضات مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا. وفي الآونة الأخيرة، أعربت واشنطن عن قلقها إزاء العلاقات المتنامية بين البرازيل والصين، والتي تعمّقت منذ هزيمة بولسونارو، الذي أبعد برازيليا عن بكين بشكل متعمّد.
في صميم إعادة تقييم السياسة الخارجية البرازيلية الحالية، يكمن اعتقاد راسخ بأنّ نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقيادة الولايات المتحدة، في حالة تراجع. وترى برازيليا بشكل مطرد أنّ صعود عالم متعدّد الأقطاب، مدفوعاً بعدد من القوى الكبرى وتنامي نفوذ دول الجنوب العالمي، ضرورة حتمية وفرصة سانحة في آن واحد. وفي هذا السياق، تطمح البرازيل إلى المساهمة في توجيه مسار الحوكمة والتنمية العالميين. وهذا ما يفسّر جهودها لبناء شراكات استراتيجية مع دول تتجاوز فلك الولايات المتحدة والقوى الغربية التقليدية الأخرى، إضافة إلى تركيزها المتزايد على التعاون المباشر بين دول الجنوب العالمي. وتعمل البرازيل على تعزيز هذه النقطة بشكل أساسي من خلال مجموعة "بريكس"، التي أصبحت عنصراً هيكلياً مهماً في السياسة الخارجية البرازيلية. وحتى المشكّكون البرازيليون السابقون في هذا التحالف يعتبرونها الآن منصةً لا غنى عنها لتعزيز مصالح البلاد. فعلى سبيل المثال، أدّى إطار العمل الذي وضعته المجموعة دوراً فعّالاً في دعم الجهود الأمنية المشتركة بين البرازيل والهند؛ وإنشاء بنك التنمية الجديد، الذي يسهم في تمويل مشاريع البنية الأساسية والتنمية في البرازيل وغيرها من الأسواق الناشئة؛ وتنسيق الجهود الرامية إلى الحد من اعتماد أعضائها على الدولار الأميركي.
ومع ذلك، لا تنوي البرازيل التخلّي عن الولايات المتحدة. فلطالما أعطت الدولتان الأولوية للكثير من الأهداف المشتركة، بما في ذلك الاستقرار الإقليمي. ولا يزال لولا، الزعيم السياسي الأكثر نفوذاً في أميركا اللاتينية، منفتحاً على استئناف المفاوضات التجارية مع واشنطن. إلّا أنّ أسلوب ترامب قد يحول دون توافق البلدين. فقد أبدى لولا، الدبلوماسي البراغماتي، تاريخياً استعداده لتقديم تنازلات في حال أُجريت المحادثات بحسن نيّة وقامت على الاحترام المتبادل. لكنه كان أقلّ تقبّلاً للإكراه أو الدبلوماسية التبادلية أو الإملاءات أحادية الجانب، وهي كلّها سمات مميّزة لنهج ترامب في السياسة الخارجية.
وتُصبح مسائل السيادة أكثر إلحاحاً عندما تُقاوم البرازيل التوافق مع الأولويات الاستراتيجية الأميركية، سواء في مجالات الهجرة، أو دبلوماسية المناخ، أو التجارة الزراعية، أو إصلاحات الحوكمة متعدّدة الأطراف. فبالنسبة للبرازيل، يُعدّ إبراز هوية دولية مستقلة أمراً أساسياً لطموحها في قيادة دول الجنوب العالمي. ومع ذلك، فإنّ هذا الطموح يتمّ اختباره بشكل مطرد من خلال واقع النظام متعدّد الأقطاب. فمع تزايد تنافس القوى الكبرى على النفوذ، يتعيّن على البرازيل إيجاد توازن بين الحفاظ على استقلاليتها، ومواصلة التعاون مع الولايات المتحدة، وتجنّب الاعتماد المفرط على أيّ شريك منفرد، سواء أكان الصين أم غيرها. وبالتالي، فإنّ مرونة النظام الناشئ تجعل تحقيق التوازن بين هذه الأهداف أكثر إلحاحاً وصعوبة في آن واحد.
سرعة التحوّل إلى أعداء
يبدو أنّ واشنطن اليوم حريصة على استعراض قوتها غير المتكافئة. والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه ما إذا كان استخدام ترامب للرسوم الجمركية والعقوبات يهدف إلى انتزاع تنازلات في مفاوضات تجارية جوهرية مع البرازيل، أم أنه يهدف ببساطة إلى تعزيز تغيير النظام. وتشير دلائل البيت الأبيض إلى الاحتمال الأخير، كما تشير إليه حقيقة الفائض التجاري الأميركي مع البرازيل، والذي كان من المفترض من حيث المبدأ أن يجنّب البرازيل منشار ترامب للرسوم الجمركية. ويرى المقرّبون من ترامب أنّ البرازيل تُشكّل تهديداً متزايداً للهيمنة الأميركية في أميركا اللاتينية، نظراً لشراكتها المتنامية مع الصين. ويعتقد الكثيرون في برازيليا، بمن فيهم المقرّبون من لولا، بأنّ ضغط واشنطن يهدف إلى ترجيح كفّة الميزان السياسي الداخلي في البرازيل لصالح المعارضة، على أمل أن تُعيد الحكومة المحافظة المستقبلية ترتيب البرازيل وفقاً لأجندة الولايات المتحدة بشأن الصين والأمن الإقليمي والتجارة. وبالنسبة لترامب، يُمثّل لولا شريكاً غير موثوق به. فهو مستقل للغاية، ومُهتم جداً بالتعاون بين دول الجنوب العالمي، ومتردّد جداً في الالتزام بالأولويات الاستراتيجية الأميركية. أما بولسونارو، الذي يبدو مستعداً تماماً لتقديم تنازلاتٍ لا حصر لها للبيت الأبيض، فيُعتبر بديلاً مثالياً.
لكنّ الاستراتيجية التي ينتهجها ترامب قد تأتي بنتائج عكسية. إذ تشير استطلاعات الرأي حتى الآن إلى أنّ لولا استفاد من تأثير "الالتفاف حول العلم" الشائع في الدول الخاضعة لعقوبات خارجية. كما أنه من غير المرجّح أن تُحدث أيّ حكومة يمينية مستقبلية في البرازيل تحوّلاً جذرياً في توجّه السياسة الخارجية للبلاد تجاه الولايات المتحدة. وقد أصبحت العلاقة الاقتصادية بين البرازيل والصين اليوم هيكلية. حتى دوائر الأعمال الزراعية في قلب البرازيل، التي لطالما شكّلت معقلاً لبولسونارو، تُدرك أنّ البرازيل لا تستطيع ببساطة أن تنأى بنفسها عن بكين. وهكذا، أخطأ ترامب في قراءة المشهد السياسي البرازيلي بافتراضه أنّ الضغط الخارجي سيُضعف لولا، مُتجاهلاً مدى تأثير الترابط الاقتصادي بين البرازيل والصين وبراغماتية ناخبيه على أيّ تعديل جذري في السياسة الخارجية لصالح واشنطن.
من المحتمل أن يتلاشى تأثير "الالتفاف حول العلم" مع مرور الوقت. ولكن بما أنّ البرازيل اليوم أقلّ اعتماداً على الولايات المتحدة مما كانت عليه قبل 30 عاماً، فقد تتمكّن الحكومة من تخفيف وطأة حملة الضغط التي تشنّها واشنطن والوصول إلى انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2026 باقتصاد قوي إلى حدّ معقول؛ وهي نتيجة من شأنها أن تضمن عملياً إعادة انتخاب لولا. ولكي تُجبر الولايات المتحدة البرازيل على الرضوخ، يتعيّن عليها فرض عقوبات قاسية على النظام المالي البرازيلي. وستؤدّي هذه الإجراءات بالتأكيد إلى زيادة أكبر في الدعم السياسي للولا. وعليه، يبدو أنّ ترامب قد وقع في فخّ من صنع يديه.
لقد أثارت العقوبات المفروضة على أعضاء المحكمة الفيدرالية العليا في البلاد، والتي فُرضت في تموز/يوليو، الجدل. وباستثناء أنصار بولسونارو الرئيسيين ومجموعة من حكّام الولايات، انتقدت جميع القوى السياسية الرئيسة في البرازيل هذه الخطوة بشدة. وترى هذه الدوائر الانتخابية أنّ العقوبات والرسوم الجمركية أدوات قانونية تُستخدم لأغراض جيوسياسية، وتُعتبر إهاناتٍ مباشرة لنزاهة الديمقراطية البرازيلية. كما أنّ محاولة ترامب لردّ اعتبار بولسونارو تتعارض مع التوجّهات السياسية السائدة في البرازيل. فقد تمّ وصف بولسونارو وابنه إدواردو، الذي يضغط بقوة ضدّ البرازيل في واشنطن، بالخائنين من قبل أنصار لولا. حتى أنّ بعض الأحزاب اليمينية نأت بنفسها بحذر عن الرئيس السابق المدان. إضافة إلى ذلك، باتت القطاعات الرئيسة التي كانت تشكّل العمود الفقري للائتلاف المحافظ في البرازيل، بما في ذلك الصناعات الزراعية والطاقة والصناعات الدفاعية والتصنيع ــ تشعر بخيبة أمل متزايدة إزاء تدخّل ترامب في سياسة البلاد وسياساته التجارية الحمائية، التي قوّضت قدرتها التنافسية في مجال التصدير والوصول إلى سلاسل التوريد.
وعلى الرغم من أنّ مجالات التعاون المحتملة بين برازيليا وواشنطن لا تزال قائمة، إلّا أنّ الأجندات السياسية للولا وترامب متعارضة جوهرياً، ومن غير المرجّح أن يتحقّق أيّ تقارب قبل انتخابات البرازيل عام 2026. إذ ليس لدى لولا حوافز تُذكر للامتثال للضغوط الاقتصادية والقانونية التي تمارسها واشنطن. والتراجع عن موقفه سيُقوّض روايته عن الدفاع عن السيادة الوطنية، وسيُكلّفه خسارة رصيده السياسي، ولا سيما في الدوائر الانتخابية التقدّمية والقومية التي تُشكّل قاعدته الأساسية. في الواقع، تُمكّن مقاومة الضغوط الأميركية لولا من مواصلة تعزيز الدعم المحلي وتعزيز دور البرازيل القيادي في دول الجنوب العالمي. وحتى لو قدّمت البرازيل تنازلات استراتيجية، مثل منح الولايات المتحدة وصولاً تفضيلياً إلى المعادن النادرة، فليس هناك ما يدلّ على أنّ واشنطن ستتراجع.
من جانبها، أطلقت البرازيل عملية انتقام رسمية تستند إلى قانون المعاملة بالمثل الاقتصادي الصادر حديثاً. وقد فوّض لولا هيئة التجارة الحكومية، "كامكس" (CAMEX)، بتقييم الإجراءات الأميركية، وبعد ذلك ستنظر الحكومة في فرض رسوم جمركية أحادية الجانب. وأمام "كامكس" مهلة حتى أواخر أيلول/سبتمبر لتقديم نتائجها. علاوة على ذلك، ستتخذ البرازيل خطوات للتعويض عن تأثير حملة الضغط التي يشنّها ترامب، من خلال شراء السلع المنتجة محلياً والتي تستهدفها الرسوم الجمركية الأميركية مثل الأساي وماء جوز الهند والعسل لصالح برامج الغذاء أو الاحتياطيات الوطنية، على سبيل المثال. في المقابل، أشار وزير المالية فرناندو حداد، الذي انتقد تسييس التجارة عبر استخدام الدولار الأميركي، إلى أنّ البرازيل قد تطعن في الرسوم الجمركية أمام المحاكم الأميركية. كما سعت البرازيل إلى تعزيز شراكاتها التجارية الأخرى. ومؤخّراً، أعلن وزير التجارة الكندي، خلال زيارة رسمية إلى برازيليا، أنّ بلاده تعتزم توقيع اتفاقية ثنائية مع السوق المشتركة الجنوبية "ميركوسور"، وهي تكتّل تجاري في أميركا الجنوبية تُعدّ البرازيل جزءاً منها.
علاقات جديدة
يُقوّض نهج ترامب القوة الناعمة للولايات المتحدة وشرعيّتها العالمية، ويُمكّن منافسيها، بما فيهم الصين، من خلال إضعاف الهياكل التي كانت تُعزّز الهيمنة الأميركية. بمعنى آخر، يُسرّع هذا النهج صعود النظام متعدّد الأقطاب الذي تسعى البرازيل إلى المساهمة في توجيهه. وعندما تشهد نخب السياسة الخارجية البرازيلية موقف ترامب العدائي تجاه حلفاء الولايات المتحدة التقليديين الآخرين، بما في ذلك أستراليا وكندا واليابان وأوروبا، فإنّ ذلك يعزّز انطباعها بأنّ واشنطن لا تستطيع أن تقدّم للبرازيل شراكة مجدية على المدى المتوسط. بل هناك أجماع متزايد داخل الأوساط الدبلوماسية البرازيلية على أنّ الولايات المتحدة قد تظلّ شريكاً غير موثوق به بعد انتهاء ولاية ترامب في عام 2029، أي حتى العقد المقبل أو حتى لفترة أطول.
ونتيجة لذلك، ستتعزّز علاقة البرازيل مع الصين. إذ تسعى الحكومة البرازيلية جاهدةً لتنويع أسواق صادراتها. ورداً على الرسوم الجمركية الأميركية على السلع البرازيلية، أعلنت الصين عزمها على زيادة وارداتها من السلع البرازيلية الرئيسة، مثل القهوة واللحوم والحبوب، في إشارة إلى إعادة تنظيم استراتيجي للعلاقات التجارية. وتنظر شريحة متنامية من القيادة اليمينية البرازيلية إلى الصين كشريك اقتصادي طويل الأمد أكثر استقراراً وواقعية من الولايات المتحدة. ويشاركها هذا التصوّر القطاع الخاصّ، الذي يمارس ضغوطاً متزايدة على الحكومة البرازيلية لمنح الشركات الصينية فرصاً أكبر للوصول إلى السوق البرازيلية.
لطالما امتنعت السياسة الخارجية البرازيلية عن تبنّي أيّ موقف معادٍ لأميركا أو الغرب صراحةً. بل فضّلت البرازيل نهجاً دبلوماسياً متعدّد الاتجاهات، قائماً على مبادئ الاستقلالية والبراغماتية والتفاعل البنّاء مع مجموعة متنوّعة من الأطراف العالمية الفاعلة. وبالنسبة لبرازيليا، تُشكّل بكين شريكاً استراتيجياً لا غنى عنه، لكن واشنطن، حتى بعد اعتداءاتها الأخيرة، تظلّ قوة عالمية لا يمكن الاستغناء عنها. ونتيجةً لذلك، لم تجد البرازيل خيار الاختيار بين بكين وواشنطن مُجدياً أو مرغوباً فيه. ومع ذلك، فإنّ الموقف مُتزايد المواجهة والقسرية الذي اتخذته إدارة ترامب قد هزّ حسابات البرازيل الدبلوماسية، وسرّعَ من ميلها الجيوسياسي نحو بكين.
وفي حال أصبح هذا التوافق دائماً، فستكون آثاره بعيدة المدى. من الناحية الاقتصادية، سيعزّز تعميق العلاقات التجارية والاستثمارية مكانة الصين كشريك خارجي رئيس للبرازيل، ما يُرسّخ حضور الشركات الصينية في القطاعات الاستراتيجية. ومن الناحية الجيوسياسية، سيُصعّب ذلك على البرازيل العمل كجسر بين دول الجنوب العالمي والدول الغربية، ما يحدّ من طموحاتها متعدّدة الأقطاب ويُضيّق نطاق مرونتها الدبلوماسية. وسبق أن برزت هذه السيناريوهات في المناقشات السياسية في الفترة التي تسبق انتخابات عام 2026. وتحذّر شخصيات المعارضة من "الاعتماد المفرط" على الصين بينما يعتبر حلفاء الحكومة التنوّع أمراً ضرورياً للدفاع عن السيادة الوطنية في عصر التنافس بين القوى العظمى. ومع ذلك، قد يصبح تحقيق هذا التنويع أكثر صعوبة. فعدوانية ترامب المستمرة قد تضع صنّاع القرار البرازيليين في موقف لا يرغبون فيه، موقف يشعرون فيه بالحاجة إلى الاختيار.