مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب سام روغيفين، يتناول صعود الصين العسكري والتكنولوجي وتحوّلها من دولة تُتَّهم بتقليد الغرب وسرقة ابتكاراته، إلى قوة رائدة ومبتكرة في مجالات متعددة، بما فيها التكنولوجيا العسكرية. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
يُقرّ الآن على نطاق واسع بأنّ السردية التي اعتادت الدول الغربية أن ترويها لنفسها حول تطور التكنولوجيا في الصين، بأنّها مجرد مقلد للتكنولوجيا الغربية، وتسرق الملكيات الفكرية، وأن نجاحاتها نتيجة دعم حكومي غير فعّال، لَم تعد كافية. فالصين اليوم تعدّ مبتكرة وقائدة تكنولوجية في مجالات الروبوتات، والمركبات الكهربائية، والمفاعلات النووية، والطاقة الشمسية، والطائرات المسيرة، والسكك الحديدية والقطارات الفائقة السرعة، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي.
وإذا كان هناك حاجة إلى التأكد من ذلك، فإنّ العرض العسكري الذي جرى في بكين منتصف الأسبوع الجاري، يحسم وجوب إضافة التكنولوجيا العسكرية إلى القائمة السالفة. ولم يعد كافيا القول إنّ جيش التحرير الشعبي، يحاول اللحاق بالركب، أو أنّه ينسخ تصاميم المعدّات العسكرية الأجنبية. فالصين الآن تبتكر، وهي تقود. ونتيجة لذلك، فإنّ ميزان القوى العسكرية الإقليمي، الذي ظل لعقود يميل إلى صالح الولايات المتحدة وشركائها، يشهد الآن تغيراً لا رجعة فيه.
كان عرض يوم النصر، الذي يصادف الذكرى الـ80 لـ"مقاومة الشعب الصيني للعدوان الياباني الفاشي خلال الحرب العالمية الثانية"، استعراضاً لقوة الصين العسكرية المعاصرة، ورسالة عن اتجاهات تطورها المستقبلي. فبعد أن كانت الصين متحفّظة في السابق عن الكشف عن أحدث معداتها العسكرية، أزيحت الستارة الآن ـ ولو بشكل انتقائي ـ خلال هذا الحدث.
ومن بين أبرز ما عرض هي المقاتلات التي ستلحق بمتن أسطول حاملات الطائرات الصينية المتنامية، والتي تضم الآن 3 حاملات، ولكن من المرجّح أن ينضم إليها في السنوات المقبلة حاملة طائرات عملاقة تعمل بالطاقة النووية، بنفس حجم وقدرات حاملة الطائرات الجديدة من طراز جيرالد فورد التابعة للبحرية الأمريكية. كما كُشف عن 4 أنواع جديدة من طائرات "لويال وينغمان" المسيرة، وهي طائرات خفية مصمّمة للمهمات إلى جانب الطائرات المأهولة وتلقي أوامر المهام منها. وعرضت الصين أيضا 4 أنظمة صاروخية مضادّة للسفن والهجمات الأرضية لم يسبق رؤيتها من قبل، بالإضافة إلى غوّاصة جديدة بدون طاقم وطوربيدات جديدة.
قدّم العرض العسكري أحدث الكشوفات في عام حافل بالأحداث بالنسبة لمراقبي المجمع الصناعي العسكري الصيني. وقد بدأت في العام الماضي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصور غير واضحة لطائرتين مقاتلتين جديدتين خفيتين في رحلات تجريبية. وبعد بضعة أسابيع، أفادت "نافل نيوز" أنّ الصين تقوم ببناء نوع فريد من البوارج المزوّدة بمحركات وجسور طرق يمكن تمديدها، وتسمح للقطع البحرية بتفريغ حمولتها في مواقع ساحلية غير مجهزة. وأكّدت الصور اللاحقة للبوارج في أثناء اختبارها على أنّها مناسبة بشكل مثالي لنقل الدبّابات الثقيلة إلى الشاطئ في حال غزو تايوان.
وفي أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي، نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" صوراً ملتقطة بالأقمار الصناعية تظهر أنّ الصين تقوم ببناء مركز قيادة عسكرية جديد خارج بكين يبلغ حجمه 10 أضعاف حجم البنتاغون على الأقل. وفي أيار/مايو كانت باكستان تخوض مع الهند معركة جوية شارك فيها 125 طائرة فوق إقليم كشمير المتنازع عليه، واستخدم سلاح الجو الباكستاني طائرات صينية على ما يبدو بناءً على أدلة محدودة، لكنّها أدت مهماتها بموثوقية عالية.
وتظهر الصين الكثير من المؤشّرات عن رغبتها في إنشاء مجمع صناعي عسكري محلي بالكامل. وقد تعهدت القيادة الصينية علنا عن طموحها في بناء جيش من الدرجة الأولى على النطاق العالمي بحلول منتصف القرن الجاري.
بالطبع، يتطلب ذلك أكثر من مجرد التكنولوجيا، بينما تشير الموجة الأخيرة من عمليات تطهير كبار الضباط إلى وجود مشاكل خطيرة تتعلق بالفساد والأداء في جيش التحرير الشعبي الصيني.
ولكن على الصعيد التكنولوجي، على الأقل، هناك أدلة كثيرة على طموح الصين منذ فترة طويلة. وقد بدأت تحديث قوتها العسكرية في أوائل التسعينيات، ومنذ ذلك الحين، خضع جيش التحرير الشعبي الصيني لأسرع تحول تكنولوجي لأيّ قوة عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية. كما أنّ الكشف عن هذه المعلومات منذ العام الماضي يؤكد هذا الاتجاه، وينبغي أن يطرح السؤال عمّا إذا كانت طموحات الصين لا يزال يستخف بها، وعن ماذا تريد الصين من كلّ هذه القوة العسكرية؟
أحد الاحتمالات هو أنّ الصين تبني قوة عسكرية، بهدف تحدّي الولايات المتحدة بشكل مباشر. ومن خلال تدابير ومركزات عسكرية عالمية فعلية. فقد شهدت أستراليا البعيدة على جانب من القدرات الجديدة للصين في شهر شباط/ فبراير الماضي، حين أرسلت بحرّية جيش التحرير الشعبي الصيني مجموعة من السفن الحربية للقيام بجولة حول القارّة، كانت بمثابة رسالة مفادها أنّ القوة العسكرية الصينية باتت اليوم تمتلك مدى جديداً.
ومع ذلك، إذا كان هناك استنتاج عام يمكن استخلاصه من المعلومات التي ظهرت خلال الأشهر التسعة الماضية، فهو أن تركيز الصين ليس منصباً فقط أو بشكل أساسي، على إبراز قوتها العسكرية في منطقة المحيط الهادئ، فضلاً عن العالم كله. فالكثير من المعدات الجديدة التي شوهدت في العرض العسكري ليست مصمّمة بوضوح لذاك الهدف.
بالطبع يمكن استخدام هذه المعدات في العديد من المهمّات. ولا شكّ في أنّ الصين قد زادت بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية، من قدرتها على استخدام القوة العسكرية عبر مسافات طويلة. وهي تبني أسطولاً قوياً من طائرات النقل الاستراتيجي، مما يؤهلها نقل الأفراد والآليّات بسرعة حول العالم. ومؤخّراً، بدأت في تعزيز أسطولها من طائرات التزود بالوقود جواً، التي لطالما كان امتلاك مثل هذا الأسطول سمة رئيسية لقدرة الولايات المتحدة في القوة الجوية عالميا.
اليوم تمتلك الصين عشرات السفن الحربية "بلو واتر وار شيب" المصمّمة للعمل في المحيطات المفتوحة، على عكس السفن الساحلية "براون واتر كوستال"، إضافة إلى حاملات الطائرات وسفن الإمداد التي تمكّن الأسطول من البقاء في البحر لفترات طويلة.
يذكر أنّ الصين لم تزد أيّ قاعدة خارجية جديدة إلى القاعدة الوحيدة التي افتتحتها في جيبوتي عام 2017، وما تزال على بعد سنوات من امتلاك قاذفة قنابل ذات مدى عابر للقارّات، كما أنّها لا تملك شبكة تحالفات عالمية مماثلة لتلك التي لدى الولايات المتحدة. كما أنّ الطائرات المقاتلة الجديدة، وقوارب الإنزال، والطائرات المسيرة وأنظمة الصواريخ التي ظهرت هذا العام لا تشير إلى تركيز ساحق على نشر هذه على القوة عالميا، بقدر ما ستعزز هذه القدرات بشكل أساسي موقف الصين في محيطها الإقليمي.
على هذا ينبغي أن يكون تركيز الصين على طموحاتها الإقليمية بدلاً من وجودها العسكري العالمي. وهذا خبر سيّئ بشكل خاص بالنسبة لتايوان، لأنّ ميزان القوى العسكرية هناك يميل بوضوح لصالح بكين. وقد تناولت ورقة بحثية حديثة نشرت في أكثر الدوريات الأكاديمية موثوقية في دراسات الاستراتيجية هي "الأمن الدولي"، الاتجاهات الحالية وقدمت بعض الاستنتاجات المثيرة للقلق بالنسبة لتايبيه ولأولئك في واشنطن الذين يرون أنّ للولايات المتحدة مصلحة حيوية في الدفاع عن تايوان.
البحث كان بعنوان "هل الوصول ممنوع والتنافس الصيني الأميركي على الهيمنة العسكرية في آسيا"، حيث يجادل نيكولاس أندرسون وداريل بريس بأنّ الركيزة الأساسية للقوة العسكرية الأميركية في آسيا هي الطائرات المقاتلة المتمركزة في اليابان وغوام في المحيط الهادئ ستتعرض لخسائر كارثية في حال وقوع غزو صيني لتايوان.
وتضع الورقة البحثية نموذجاً للأضرار التي قد تلحق بالقواعد الجوية الأميركية نتيجة امتلاك الصين مخزوناً كبيراً ومتزايداً من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى خلال أول 30 يوماً من مثل هذه الحرب. وخلصت الدراسة إلى أنّه حتّى في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، ستخسر الولايات المتحدة 45% من قواتها الجوية خلال الشهر الأول. ومن الجدير بالذكر أنّ الورقة تركز فقط على تأثير الصواريخ الصينية التي تطلق من قواعد برّية، ولا تحتسب تأثير الضربات الصينية الإضافية من سلاح الجو والبحرية.
وقد قدم أندرسون وبريس عدة اقتراحات حول كيفية تصحيح الولايات المتحدة لهذا الخلل المتزايد، رغم أنّ معظمها لا يبدو واعداً على نحو خاص. وفي النهاية يشيران إلى أنّ الأمر قد يتطلب إعادة تفكير جذرية في الاستراتيجية الأميركية. ويتوجّب على واشنطن أن تفكر في التحول من عقلية الهيمنة العسكرية إلى دور الداعم في المنطقة، "لأنّ أي قوة عظمى بعيدة مثل الولايات المتحدة لا يمكنها أن تكون الفاعل العسكري المهيمن في شرق آسيا، قد لا يكون هذا توازن طويل الأمد، بالنظر إلى القوة الاقتصادية والتقنية للدول الآسيوية الأخرى".
وهذا توصيف مُخفَّف، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار مدى غرابة المشهد لو انعكست الأدوار بين الولايات المتحدة والصين. فلو كانت الصين هي القوة المهيمنة في نصف الكرة الغربي، وتحتفظ بشكل دائم بسبعين ألف جندي في كندا وبمجموعة قتالية من حاملات الطائرات في كوبا، لكان ذلك أبعد ما يكون عن مفهوم "التوازن طويل الأمد".
لمعالجة اختلال التوازن العسكري المتزايد في شرق آسيا، يمكن للولايات المتحدة أن توسّع وجودها هناك بشكل كبير، غير أنّ احتمال حدوث ذلك يبدو ضعيفاً. فقد واصلت الصين تحديث قواتها العسكرية لأكثر من 30 عاماً من دون أن تواجه ردّاً جوهرياً من واشنطن، فما الذي يدعو للاعتقاد بأنّ الوضع سيتغيّر الآن؟ وحتى إذا تمكنت الولايات المتحدة من تجاوز حالة الجمود، فمَن من الدول الآسيوية سيقبل باستضافة هذا العدد الكبير من القوات؟ وأيّ دولة ستمنح واشنطن ضمانات باستخدام أراضيها في حرب محتملة ضدّ الصين؟
وإذا ما جرى تجاوز هذه العقبات، فمن شبه المؤكّد أن تردّ الصين بزيادة إنفاقها العسكري. وكما أظهر العرض العسكري في بكين أمام أنظار العالم هذا الأسبوع، فإنّ سباق التسلّح الجاري يصبّ اليوم في مصلحة الصين أكثر من مصلحة الولايات المتحدة. كما أنّ توازنات جديدة بدأت بالفعل بالتشكّل، ما يفرض على الاستراتيجية العسكرية والسياسة الخارجية الأميركية أن تتكيف معها.