• اخر تحديث : 2025-11-04 02:24
news-details
قراءات

كيف تدير أنقرة وواشنطن فرص وتحديات العلاقات الثنائية؟


في خضم تحولات المشهد الدولي، وأزمات الشرق الأوسط وخاصةً تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما ارتبط بها من تصعيد في عدة جبهات إقليمية، وصولاً إلى مساعي التهدئة الراهنة في المنطقة؛ تبرز تركيا كفاعل رئيسي يسعى إلى استثمار مرونته الجيوستراتيجية لإعادة بناء علاقاته مع الولايات المتحدة، خاصةً بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025. وتراهن أنقرة على العلاقات الشخصية الجيدة بين الرئيس ترامب ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، لتجاوز عقبات عدة، وفتح مسارات كالتنسيق في ملفات إقليمية مثل حرب غزة والأوضاع في سوريا. 
 
وتقتضي قراءة التقارب بين أنقرة وواشنطن خلال الفترة الأخيرة، التمييز بين عدة مستويات من التفاعل؛ سواء على مستوى الخطاب الرمزي واللقاءات الرفيعة، أم في المجالين الاقتصادي والتجاري الذي يشمل صفقات الغاز وإلغاء تركيا رسوماً جمركية على واردات بعض المنتجات الأمريكية، أم على مستوى التعاون الدفاعي والأمني الذي يتضمن مفاوضات بين الجانبين حول المقاتلات الأمريكية من طراز "إف-16" (F-16) و"إف-35" (F-35)، فضلاً عن الدعم الأمريكي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). فلكل من هذه المستويات مؤشراته الخاصة التي يمكن رصدها وتحليلها وقياسها.
 
ويسعى هذا التحليل إلى قراءة مدى عمق التقارب التركي الأمريكي ومؤشراته، مع تحديد فرص وعقبات تطور العلاقات الثنائية بين البلدين خلال الفترة المقبلة.
 
مؤشرات التقارب:
 
تشهد العلاقات التركية الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية، مؤشرات على التعاون بين البلدين، وخاصةً منذ لقاءات أردوغان وترامب سواء في قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في لاهاي في يونيو 2025، أم زيارة أردوغان إلى البيت الأبيض في 25 سبتمبر الماضي، أم مشاركتهما في قمة شرم الشيخ يوم 13 أكتوبر الجاري وتوقيعهما وثيقة وقف إطلاق النار في غزة. وشهدت هذه اللقاءات تصريحات إيجابية متبادلة بين الجانبين التركي والأمريكي؛ ومن ثم تظهر مؤشرات هذا التقارب في عدة ملفات هي كالتالي:
 
1- صفقات دفاعية: تُعد مساعي تركيا لاستعادة مكانتها في البرامج الدفاعية الأمريكية، والحصول على التكنولوجيا الغربية؛ أحد الدوافع الأساسية للتقارب مع واشنطن. فالضغط التركي المستمر في ملف التسليح يهدف إلى استئناف المفاوضات بشأن برنامج مقاتلات "إف-35" على وجه الخصوص، بعد تجميد مشاركتها فيه بسبب شرائها أنظمة صواريخ "إس-400" (S-400) من روسيا في عام 2019 خلال ولاية ترامب الأولى. 
 
2- مصالح اقتصادية: يظل ملف الطاقة عاملاً مهماً في علاقات أنقرة وواشنطن؛ حيث تتبنى تركيا استراتيجية جديدة لتعزيز أمن الطاقة لديها من خلال تقليص اعتمادها على روسيا في هذا المجال، وزيادة إنتاجها المحلي، والتوسع في استيراد الغاز الطبيعي المُسال من الولايات المتحدة؛ وهو ما يتوافق مع ضغوط واشنطن على حلفائها لتقليل اعتمادهم على الغاز الروسي عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022. ومع ذلك، تظل علاقات أنقرة مع موسكو تُشكل عامل توازن يجعل أي صفقة مع واشنطن مشروطة بقدرة تركيا على الحفاظ على هامش مناورة سياسي يسمح لها بتجنب الاصطفاف الكامل مع أي من القوتين.
 
وعلى صعيد متصل، وقبيل زيارة الرئيس أردوغان إلى الولايات المتحدة ولقائه ترامب؛ ألغت تركيا، في 22 سبتمبر الماضي، رسوماً جمركية إضافية كانت قد فُرضت في عام 2018 على واردات بعض المنتجات الأمريكية، وشملت سيارات الركاب والفواكه والأرز والتبغ وبعض المشروبات الكحولية وأنواعاً من الوقود الصلب، إضافة إلى عدد من المنتجات الكيميائية.
 
3- تنسيق إقليمي: حرصت تركيا والولايات المتحدة على التنسيق المشترك في عدة ملفات إقليمية؛ وعلى رأسها تطورت الأوضاع في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فضلاً عن الحرب الإسرائيلية على غزة. ففي الملف السوري، عقدت مجموعة العمل التركية الأمريكية المشتركة بشأن سوريا اجتماعاً في واشنطن في 20 مايو الماضي، حيث أكدت أهمية الحفاظ على وحدة أراضي سوريا، ورفع مستوى التعاون والتنسيق بين أنقرة وواشنطن بشأن أمنها واستقرارها. وخلال لقائهما في البيت الأبيض يوم 25 سبتمبر الماضي، أشاد ترامب بما وصفه قدرة أردوغان على "تحقيق إنجاز رائع تمثل في إزاحة النظام السوري السابق" على حد تعبيره. وتابع ترامب أنه رفع بعض العقوبات الأمريكية عن سوريا بناءً على طلب عدد من زعماء العالم، ومن بينهم أردوغان.
 
وفي ملف حرب غزة، شارك ترامب وأردوغان، ومعهما كل من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني؛ في التوقيع على وثيقة اتفاق غزة في قمة شرم الشيخ يوم 13 أكتوبر الجاري؛ وذلك باعتبارها الدول الضامنة للاتفاق الهادف إلى إنهاء هذه الحرب. وحرص ترامب، خلال هذه القمة، على الإشادة بدور أردوغان ومساهمته بشكل كبير في تسهيل وقف إطلاق النار بقطاع غزة.
 
فرص وقيود: 
 
يمكن قراءة التقارب الراهن بين أنقرة وواشنطن باعتباره "تنسيقاً براغماتياً"، قوامه المصالح المتبادلة، وإدارة الأزمات الإقليمية محل الاهتمام المشترك، وتنويع مصادر الطاقة وتطوير القدرات الدفاعية التركية. لكن هذا التعاون لا يلغي وجود مسائل خلافية بين البلدين، وعلى رأسها مسألة صواريخ "إس-400" الروسية، والدعم الأمريكي لـ"قوات سوريا الديمقراطية". ويمكن تحليل فرص وقيود تعزيز العلاقات بين أنقرة وواشنطن على النحو التالي:
 
1- الرهان على العلاقات الشخصية: تسعى تركيا إلى الاستفادة من فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية، والرهان على العلاقات الشخصية الجيدة بين ترامب وأردوغان؛ وهو ما قد يختصر طريقاً لتعزيز التعاون بين البلدين. فقد أسهمت الاتصالات المتكررة والزيارات الرسمية بين الجانبين في بناء إطار تفاوضي يقوم على الود الشخصي والبراغماتية السياسية. بيد أن هذا الرهان يظل محفوفاً بالمخاطر إذا تغيرت أولويات واشنطن سواء الداخلية أم الخارجية؛ لكن تركيا تدرك أن ترامب يميل إلى عقد الصفقات أكثر من الالتزام بالتحالفات التقليدية، بما يمنحها مساحة تفاوضية وهامشاً أوسع للمناورة مع واشنطن.  
 
2- التسوية المالية لقضية "بنك خلق": كشفت تقارير، في 7 أكتوبر الجاري، عن طرح أنقرة تسوية مُحتملة بقيمة 100 مليون دولار للدعوى القضائية ضد "بنك خلق" التركي (Halkbank) الذي تتهمه واشنطن بالاحتيال ومساعدة إيران على التهرب من العقوبات المفروضة عليها. ويُبرز عرض التسوية بشأن "بنك خلق"، الذي تملك الدولة التركية أكثر من 90% من أسهمه، أن معالجة العقبات القضائية قد تكون مدخلاً لمزيد من التعاون بين واشنطن وأنقرة في ملفات أخرى، وتهيئة أرضية أكبر للصفقات الدفاعية والتجارية. غير أن الاتفاق التنفيذي بين حكومتي البلدين ليس كافياً وحده، بل يجب توفير التغطية المؤسسية التي تضمن استمرارية أي تسوية مُحتملة. وما قد يزيد من تعقيد هذا الملف هو رفض المحكمة العليا الأمريكية، في 6 أكتوبر الجاري، استئنافاً تقدم به "بنك خلق"، الذي علق بدوره على هذا الحكم قائلاً: "إن قرار المحكمة العليا لا يعني انتهاء الإجراءات القانونية.. والمبادرات الرامية إلى إيجاد توافق قانوني في إطار الاتفاقيات بين الولايات المتحدة وتركيا مستمرة في اتجاه إيجابي".
 
3- تنويع الخيارات الطاقوية: قد يوفر استيراد تركيا الغاز الطبيعي المُسال من الولايات المتحدة، وتقليل اعتمادها على الغاز الروسي؛ خياراً استراتيجياً يعزز قدرات أنقرة في ملف الطاقة، ويمنح واشنطن رافعة اقتصادية للدخول في شراكات أعمق مع أنقرة. بيد أن هذا التوجه يضع تركيا في لعبة التوازن بين الولايات المتحدة وروسيا، خاصةً في ظل سعيها للحفاظ على مصالحها مع الطرفين.
 
4- حلول وسط لمسألة الأكراد: تبقى علاقة واشنطن مع "قوات سوريا الديمقراطية" وخاصةً ذراعها العسكري المُتمثل في "وحدات حماية الشعب" الكردية (YPG)؛ المحور الأكثر حساسية في العلاقات الأمريكية التركية؛ حيث تعتبر أنقرة هذه الوحدات تهديداً وجودياً لأمنها القومي، بينما تراها واشنطن شريكاً فعالاً ضد الإرهاب. وربما يتطلب أي تقارب في هذ الملف الحاجة إلى إعادة تنظيم هذه القوات داخل إطار سوري يرضي أنقرة ويراعي مخاوفها، دون المساس بالمكاسب الأمنية التي حققتها واشنطن. غير أن غياب حل وسط معناه أن هذا التقارب سيبقى هشاً.
 
5- الموقف من المستجدات السياسية في تركيا: قد تُشكل التفاعلات السياسية في تركيا ولا سيّما موقف أردوغان من حزب الشعب الجمهوري المعارض واحتجاجات أنصاره خلال الأشهر الماضية؛ مصدر توتر مع واشنطن. وهذا يعني أن أي تقارب أو صفقة كبيرة بين البلدين قد تصطدم مثلاً بضغوط من الكونغرس الأمريكي لمطالبة ترامب بتبني موقف أكثر وضوحاً من قضايا الداخل التركي. 
 
ختاماً، يتسم التقارب الراهن بين تركيا والولايات المتحدة بطابع "البراغماتية المشروطة"؛ إذ يقوم على مجموعة من الصفقات السياسية والدفاعية والتجارية، في ظل سعي الجانبين لتجاوز الخلافات القائمة بينهما، مثل ملف "بنك خلق" التركي، والعلاقات مع "قوات سوريا الديمقراطية"، ومستقبل منظومة "إس-400" الروسية. وتسعى أنقرة من خلال هذه المقاربة إلى توسيع هامش مناورتها السياسية وضمان مكاسب دفاعية واقتصادية، فيما ترى واشنطن في التعاون مع تركيا وسيلة لتعزيز نفوذها الإقليمي واحتواء روسيا.