• اخر تحديث : 2025-11-15 14:22
news-details
تقدير موقف

أبعاد سقوط الفاشر وتداعياته على مستقبل السودان ووحدته


تمكّنت ميليشيا قوات الدعم السريع، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، من السيطرة على مدينة الفاشر، آخر معاقل القوات المسلحة السودانية في إقليم دارفور، بعد حصار خانق فرضته على المدينة، منذ أيار/ مايو 2024، تخلله قصف مدفعي متواصل وقطع شبه كامل للإمدادات الغذائية والطبية، وارتكبت خلاله فظائع ضد المدنيين. وبذلك، أحكمت قبضتها على ولايات دارفور الخمس كافّة. ويُعدّ هذا التطور الميداني آخر تحوّل بارز في مسار الصراع المستمر، منذ نحو عامين ونصف، بين الجيش السوداني والميليشيا التي تدعمها الإمارات العربية المتحدة، بما يحمله من تداعيات سياسية وأمنية خطيرة على مستقبل السودان ووحدته الترابية.
 
أولًا: أسباب السقوط
شهدت الحرب السودانية منذ اندلاعها في نيسان/ أبريل 2023، تحولات ميدانية كبرى، بدأتها ميليشيا الدعم السريع بتحقيق سيطرة واسعة، خلال العام الأول، خاصة في العاصمة الخرطوم، وأحكمت قبضتها على ولايات استراتيجية، مثل الجزيرة وسنار وأجزاء من النيل الأبيض والنيل الأزرق. غير أنّ الأمور لم تلبث أن تغيرت في العام التالي لمصلحة الجيش السوداني، الذي استردّ العاصمة وعددًا من الولايات، ونجح في فك الحصار عن مدينة الأبيض، حاضرة ولاية شمال كردفان، وحقق تقدّمًا في محيطها. ومثّل هذا التقدّم نقطة انطلاق جديدة للجيش، الذي أعلن تحرّكه نحو دارفور لفكّ الحصار عن مدينة الفاشر. ونتيجة لذلك، ركزت الدعم السريع عملياتها في إقليمَي كردفان ودارفور، في محاولة لاستعادة التوازن بعد أن خسرت مواقع استراتيجية في العاصمة والولايات الوسطى. ومع تقدم القوات المسلحة غربًا عمدت الميليشيا إلى تعزيز مواقعها في شمال كردفان، وشنّ هجمات مضادة لعرقلة تقدّم الجيش. بالتوازي مع ذلك، كثّفت الدعم السريع هجماتها على مدينة الفاشر، مستفيدةً من تعزيزات لوجستية وميدانية وصلت عبر الحدود من تشاد وليبيا. 
 
وبناءً عليه، لم يكن سقوط المدينة حدثًا معزولًا، بل نتيجة عوامل عسكرية وسياسية واستراتيجية متشابكة، بدأت منذ أيار/ مايو 2024، وتطوّرت على مراحل لإعادة تشكيل موازين القوى في الحرب.
 
1. سياسيًا: أدت التحالفات التي أقامها قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو "حميدتي" دورًا مهمًا في تغيير موازين القوى، وأسهمت مباشرة في تسريع سقوط المدينة، بانضمام مجموعات مسلحة محلّية ذات امتدادات قبلية في دارفور، مثل حركة العدل والمساواة، جناح سليمان صندل، وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي بقيادة الهادي إدريس، إلى جانب وحدات من الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، جناح عبد العزيز الحلو، النشطة في جبال النوبة بكردفان. وتُوّج هذا التحالف بإعلان حكومة "تأسيس" في نيروبي، في شباط/ فبراير 2025، برئاسة حميدتي، وتقلّد الحلو منصب نائب الرئيس، وأصبح إدريس حاكمًا لإقليم دارفور، بينما تولّى صندل منصب وزير الداخلية. وقد أمّن هذا التحالف دعمًا لوجستيًا واستخباراتيًا مهمًّا لقوات الدعم السريع في محيط العمليات حول الفاشر، ما أسهم في سقوط المدينة، على الرغم من الرفض العربي والإقليمي والدولي للحكومة والتحالف الذي تمثّله.
 
2. عسكريًا: تعرّضت المدينة المحاصرة لأكثر من 250 عملية هجومية خلال عام ونصف، راوحت بين القصف المدفعي الثقيل والهجمات بالطائرات المسيّرة، والتوغلات البرية، في محاولة لاختراق خطوط الدفاع عنها. وسمح حصول الدعم السريع على منظومات دفاع جوي حديثة بتحييد سلاح الجو السوداني، خاصة بعد إسقاط طائرتين للجيش مطلع عام 2025، ما أدى إلى توقّف شبه كامل للدعم الجوي للقوات المحاصرة. وفي مقابل نقص الإمدادات من الذخيرة والعنصر البشري لدى هذه القوات، رُفِدت قوات الدعم السريع بمئات المقاتلين المرتزقة الأجانب ذوي الخبرة. ونتيجة طول فترة الحصار، تراجعت معنويات القوات المدافعة عن المدينة، خاصة بعد سقوط مدينة بارا في ولاية شمال كردفان، التي كانت تمثّل نقطة ارتكاز رئيسة للقوات المسلحة لفكّ الحصار عن الفاشر. وبذلك، شكّل سقوط بارا ضربة قاسية عززت شعور العزلة لدى المدافعين وأغلقت أحد أهم المسارات المحتملة لإعادة التموين والدعم، ما عمّق الحصار وأضعف فرص الصمود.
 
3. استراتيجيًا: أدّى الدعم الخارجي الدور الأكبر في تمكين الميليشيا من السيطرة على الفاشر. فقد أفادت تقارير أصدرتها الأمم المتحدة والصحافة الموثوقة، بأنّ الإمارات زوّدتها بمعدّات عسكرية متطورة، بعضها بريطاني المنشأ، وُضعت في مواقع قتالية حول المدينة. وكشف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أنّ هذه المعدات شملت منتجات لشركة "نمر" الإماراتية وشركات بريطانية مثل Militec و Cummins UK، ما مكّن قوات الدعم السريع من تحقيق تفوّق تكتيكي في مراحل حاسمة من القتال، عبر استخدام عربات مدرعة وأنظمة توجيه دقيقة. ولم يقتصر هذا الدعم على الذخائر والعتاد، بل شمل أيضًا تدفقًا مستمرًا للإمدادات العسكرية عبر الحدود من تشاد وليبيا، إلى جانب مشاركة مرتزقة أجانب من دول مجاورة. وقد وُثِّقت مشاركة ما لا يقل عن 300 مرتزق كولومبي، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وأدّى هؤلاء المقاتلون دورًا نوعيًا في العمليات القتالية، إلى جانب تدريب قوات الدعم السريع على استخدام الأسلحة المتطورة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة والمدفعية الميدانية. وشاركوا فعليًا في القتال حول مدينة الفاشر، وقد أظهرت تسجيلات مصوّرة انخراطهم المباشر فيه. وعزّز هذا الدور الفني والعملياتي فاعلية الدعم السريع، وساهم في تحويل ميزان القوى العسكري لمصلحتها، لا سيما في ظل تراجع قدرات القوات المسلحة على التعويض والتصدّي.
 
ثانيًا: التداعيات المستقبلية
نظرًا إلى موقع الفاشر الاستراتيجي، وارتباطها بشبكة حدودية دولية، واحتضانها لكتلة سكانية كبيرة، قد يمثّل سقوطها نقطة تحوّل في مسار الحرب تعيد تشكيل موازين القوى العسكرية والسياسية، ما لم تتمكّن حكومة الخرطوم من احتواء تداعياته.
 
1. التداعيات العسكرية
تمنح السيطرة الكاملة لقوات الدعم السريع على إقليم دارفور، إلى جانب أجزاء واسعة من إقليم كردفان، تفوّقًا ميدانيًا واضحًا يعيد تشكيل الخريطة العسكرية في السودان. ولا يقتصر هذا التوسع الجغرافي على اتساع المساحة العملياتية تحت سيطرتها، بل يعزز قدرتها على المناورة وتنفيذ عمليات هجومية متعددة المحاور، ويُسهم في انكشاف الجبهة الغربية للقوات المسلحة، خاصة مع تراجع خطوط الإمداد والدعم. وتتزايد المخاطر الأمنية في المناطق الشمالية والغربية، لا سيما إذا نجحت الميليشيا في تأمين طريق الصادرات الحيوي الرابط بين أم درمان وبارا، والسيطرة على مناطق أم بادر وسودري، التي تضمّ مهابط للطائرات، ما يجعلها نقاط إسناد محتملة لشنّ عمليات عسكرية جديدة على العاصمة.
 
وتتيح هذه السيطرة على شمال دارفور الوصول إلى خطوط إمداد خلفية عبر الحدود مع ليبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى، ما يعزز قدرة الدعم السريع على تلقّي الدعم العسكري واللوجستي، ويفتح المجال لتمددها غربًا لتعزيز سيطرتها على إقليم كردفان والتقدّم شمالًا نحو الولاية الشمالية، المرتبطة جغرافيًا بمثلّث حدودي تسيطر عليه قواتها قرب الحدود الليبية، ما يوفر لها منفذًا خلفيًا مباشرًا لاجتياح الولاية، ويزيد قدرتها على فرض وقائع جديدة على الأرض.
 
2. التداعيات السياسية
تعزز السيطرة على إقليم دارفور سلطة الأمر الواقع التي تمثّلها حكومة "تأسيس"، بما يمكّنها من فرض حكم بديل في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية. ويجسّد إعلان تشكيل حكومة موازية من نيروبي، على الرغم من رفضها دوليًا، اتجاهًا لإضفاء طابع مؤسسي على التحولات الميدانية الجارية، مقابل إضعاف موقف القوات المسلحة في أيّ مفاوضات سياسية مستقبلية، لا سيما بعد فقدانها السيطرة على دارفور، ما يقلّص قدرتها على الدفاع عن وحدة الدولة في ظل تصاعد النزعة المناطقية. وعلى الرغم من تأكيد حميدتي على التمسك بوحدة السودان، فإن هذا الخطاب لا يخفي طموحاته المرتبطة بأجندات إقليمية ودولية، خصوصًا مع ظهور تقارير تشير إلى أطماع إماراتية في السيطرة على الموانئ الاستراتيجية على ساحل البحر الأحمر في أقصى شرق السودان.
 
3. التداعيات الإنسانية
ينذر سقوط مدينة الفاشر، التي يقدّر عدد سكانها بأكثر من مليونَي نسمة، وتستضيف مئات الآلاف من النازحين داخليًا، بأزمة إنسانية كبرى. ويتفاقم الخطر في ضوء المجازر والانتهاكات التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في حق المدنيين، بحسب تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، والتي شملت عمليات إعدام جماعية بدوافع عرقية، واغتصابًا ممنهجًا، وتجويعًا، واعتداءاتٍ على المرافق الصحية، من بينها المستشفى السعودي الذي قُتل فيه ما لا يقل عن 500 مريض وموظف، إلى جانب تفاقم موجات النزوح. ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، فرّ أكثر من 26 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السنّ، سيرًا على الأقدام هربًا من المجازر، وتعرّضوا خلال رحلتهم للابتزاز والعنف الجنسي، في ظل غياب ممرات آمنة للخروج من المدينة. وتذكر المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" أنّ "ما يقدّر بنحو 130 ألف طفل في الفاشر معرّضون لانتهاكات جسيمة، مع ورود تقارير عن عمليات اختطاف وقتل وتشويه وعنف جنسي". كما تثير موجات النزوح الجماعي نحو تشاد وليبيا وجنوب السودان مخاوفَ كبيرة من زعزعة الاستقرار في المناطق الحدودية الهشة، وتفاقم نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود، في ظل فرار أكثر من أربعة ملايين شخص إلى دول الجوار.
 
خاتمة
يمثّل سقوط مدينة الفاشر نقطة تحوّل مهمة في مسار الحرب السودانية، التي شهدت تقلبات ميدانية كبيرة منذ اندلاعها. وبينما يعزز هذا الحدث سلطة الأمر الواقع في دارفور على المدى القريب ويعمّق الانقسامات السياسية والميدانية منذ انقلاب ميليشيا الدعم السريع على الجيش ومؤسسات الدولة، يظل احتمال استعادة المؤسسة العسكرية للمبادرة واسترداد الإقليم قائمًا. إلا أن ذلك يتطلب، إلى جانب إعادة ترتيب الأوضاع العسكرية، وَضْع رؤية شاملة تُوازِن بين الاحتياجات السياسية والأمنية والإنسانية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس متينة تضمن تجاوز آثار الحرب وتحقيق سلام مستدام يعيد للسودان وحدته واستقراره. ويستدعي الأمر، أيضًا، موقفًا حازمًا من الجهات الدولية الفاعلة تجاه التدخلات الخارجية الداعمة لقوات الدعم السريع، التي قد تؤدّي إلى تكرار المآسي الإنسانية التي شهدها إقليم دارفور قبل نحو عقدَين على يد ميليشيا الجنجويد، التي أعادت إنتاج نفسها تحت مسمّى الدعم السريع.