• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
تقدير موقف

اتجاهات أزمة الديون في العالم في عام 2023


شهد العالم منذ عام 1970 وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، أربع موجات رئيسية تراكمت خلالها الديون في عدد من الأسواق الناشئة والنامية والفقيرة، حتى باتت الديون سمة العصر الحديث. ولطالما اقترنت موجات الديون تلك بأزمات مالية كأزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، والأزمة المالية في آسيا في أواخر التسعينيات، والأزمة المالية العالمية في 2007-2009، وأخيراً أزمة الديون التي عايشتها القارة الأفريقية – ولا زالت – على مدار العقدين الماضيين.

وخلال العقد الأخير، شكل تفاقم حجم الدين الخارجي، ولا سيما في اقتصادات الأسواق الناشئة والنامية والبلدان الفقيرة، أحد أهم التطورات المالية على مستوى العالم، وأبرز المخاطر المؤدية إلى عدم الاستقرار المالي العالمي والتباطؤ في النمو الاقتصادي واضطراب الأسواق المالية، في البلدان المقترضة؛ الأمر الذي أججته التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، وإرهاصات الحرب الأوكرانية. وفي ظل تصاعد التحديات الاقتصادية الراهنة، فإن التوقعات تتجه نحو استمرار تفاقم أزمة الديون خلال 2023؛ وذلك انطلاقاً من عدد من المؤشرات التصاعدية والمحددات التي من المتوقع أن تؤثر على مشهد الديون بصورة مباشرة.

مؤشرات تصاعدية

ثمة مؤشرات على تفاقم حجم الديون الخارجية وتصاعدها بوتيرة سريعة خلال العامين الماضيين، بما يدفع إلى القول بأن العالم يواجه في الوقت الحالي أزمة ديون كبيرة، وهي ما يمكن إبرازها على النحو الآتي:

1. تذبذب حجم الدين العالمي بفعل ارتفاع أسعار الدولار: بلغ الدين العالمي، وفقاً لتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي يوم 18 مايو 2022، مستوى قياسياً قُدر بنحو 303 تريليونات دولار في عام 2021، وهو لا يقتصر على الديون الحكومية فحسب، بل شمل الديون العامة، والخاصة، والتابعة للشركات، والأسر. ولعل ذلك المستوى من الدين المرتفع شكَّل ارتفاعاً بمقدار 30% في نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الخمس الماضية، وهو كذلك قفزة أخرى في الدين العالمي القياسي لعام 2020، الذي بلغ 226 تريليون دولار، بحسب ما أفاد به صندوق النقد الدولي في قاعدة بيانات الديون العالمية، الذي مثَّل في وقتها أكبر زيادة في الديون لمدة عام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، على حد وصف الصندوق.

بيد أن ارتفاع الدولار وتراجع مبيعات السندات مؤخراً، ساهما في خفض الدين العالمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2022، وفق ما جاء في تقرير جديد صادر عن معهد التمويل الدولي في 22 نوفمبر 2022، أشار إلى انخفاض النسبة العالمية للديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من يوليو إلى سبتمبر إلى 343%؛ وذلك بتراجع من 303 تريليونات دولار في مطلع عام 2022 إلى 290 تريليوناً في الربع الثالث من العام ذاته، إلا أن ذلك الانخفاض لا يمكن التعويل عليه؛ إذ إنه في الوقت الذي انخفض فيه حجم الديون لبعض البلدان، ارتفع نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي، بفعل النمو الضعيف والإنتاج المنخفض.

2. ارتفاع إجمالي حجم ديون أفريقيا–جنوب الصحراء: وفق البيانات المتاحة، فإنهفي عام 2020، قُدر إجمالي رصيد الدين الخارجي لأفريقيا–جنوب الصحراء بنحو 702.4 مليار دولار أمريكي، مقارنةً بـ380.9 مليار دولار أمريكي في عام 2012، وهي زيادة بمقدار الضعف تقريباً، فيما ارتفع المبلغ المستحق للدائنين الرسميين، بما في ذلك المقرضون ذوو الأطراف المتعددة والحكومات والوكالات الحكومية، من نحو 119 مليار دولار، إلى 258 مليار دولار. وقد صعدت الحرب الأوكرانية من مخاطر الديون السيادية بمنطقة أفريقيا–جنوب الصحراء، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية التي باتت تكابدها من جراء ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، بما يزيد التوقعات باحتمالية ظهور حالات تعثر عن السداد في تلك البلدان خلال عام 2023.

3. تزايد لافت بإجمالي حجم الديون في الدول المتقدمة: وفق تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي في 16 ديسمبر 2021، فإن حجم الدين العام في الاقتصادات المتقدمة ارتفع بصورة كبيرة، من نحو 70% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2007 إلى 124% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، فيما صعد الدين الخاص بمقدار طفيف من 164% إلى 178% من إجمالي الناتج المحلي في نفس الفترة. ويمكن إرجاع تلك الزيادات إلى تسجيل الاقتصادات المتقدمة ارتفاعاً حاداً في عجز المالية العامة وانهياراً في معدل الإيرادات الحكومية نتيجة الركود في الآونة الأخيرة، وإجراءات الإغلاق التي استهدفت احتواء كوفيد-19.

ووفق التقرير الذي صدر عن المعهد الدولي للمالية في مايو 2022، فإن حجم الدين في اليابان بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قُدر بنحو 257%، واليونان بنحو 207%. فيما تقود كل من الصين والولايات المتحدة الدين العام العالمي إلى مستويات قياسية، مع ارتفاع ديون الصين على مدار الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022 بمقدار 2.5 تريليون دولار، وزيادة ديون الولايات المتحدة بنحو 1.5 تريليون دولار في الفترة ذاتها.

4. تنامي حجم الدين في الأسواق النامية والناشئة: أشار تقرير صادر عن معهد التمويل الدولي في مايو 2022 إلى أن إجمالي ديون الاقتصادات الناشئة خلال الربع الأول من عام 2022، بلغ نحو 98.7 تريليون دولار مقابل 89 تريليون دولار في ذات الفترة في 2021. ورغم انخفاض حجم الدين الإجمالي لديون الأسواق الناشئة، وفق تقرير جديد صادر عن معهد التمويل الدولي في 22 نوفمبر 2022، من 98.7 تريليون دولار إلى 96.2 تريليون دولار، فإن النمو الاقتصادي الضعيف أعاد نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة إلى أعلى مستوى لها عند 254%، وهو المستوى الذي سجلته في أوائل عام 2022.

5. زيادة مخاطر تخلف الدول الفقيرة عن سداد الديون: دأب الاقتصاديون والمؤسسات المالية العالمية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الفترة الأخيرة على دق ناقوس الخطر بشأن خطورة أزمة الديون؛ حيث توقع البنك الدولي في عام 2022 أن نحو 12 دولة قد تواجه تخلفاً عن السداد خلال العام المقبل. ويُشار في هذا الصدد إلى أن نحو 60% من البلدان النامية المنخفضة الدخل تعاني من ضائقة ديون أو معرضة بشدة لخطرها؛ ففي مطلع ديسمبر 2022، صرح البنك الدولي بأن خدمة الديون السنوية لأفقر دول العالم للدائنين الثنائيين الرسميين، بلغت 62 مليار دولار وهي زيادة بنسبة 35% عن عام 2021، محذراً من احتمالية زيادة أعباء الديون.

فيما تدين البلدان الفقيرة، وفق بعض الحسابات، بما يصل إلى 200 مليار دولار للدول الغنية وبنوك التنمية المتعددة الأطراف والدائنين من القطاع الخاص. ومن المتوقع خلال عام 2023 أن تتعرض البلدان النامية لأزمة ديون كارثية، ستتفاقم بفعل اندماج التضخم السريع مع تباطؤ النمو وارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع الدولار، وهو ما يعني أن جهود تخفيف الديون ستتعرض لتعثرات شديدة، في ظل اشتداد الأزمات الاقتصادية في الدول المقترضة، بما يرجح أن تحدث موجة جديدة من التخلف عن السداد.

محددات مؤثرة 

تأتي التوقعات بزيادة حجم الديون والتعثر في سدادها خلال عام 2023، انطلاقًا من عدد من العوامل والمحددات الرئيسية، التي يُتوقع أن تؤثر بدرجة كبيرة على مشهد الديون في 2023، وهو ما يمكن تناوله عبر ما يلي:

1. وجود توقعات باستمرار صدمات العرض السلبية خلال 2023: ثمة توقعات باستمرار صدمات العرض السلبية المصحوبة بركود تضخمي في عام 2023. ويعني ذلك حدوث زيادات مفاجئة في أسعار السلع أو الخدمات مقابل نقصان المعروض منها، وبمعنى آخر انخفاض الإنتاج مقابل ارتفاع مستوى الأسعار، وهو وضع أصعب بكثير من الطلب المفرط على السلع. ومن شأن حدوث ذلك أن يخلق حالة من التراجع في النمو الاقتصادي لدى البلدان المقترضة، وفي ظل انخفاض القدرة على الإنتاج، ستتراجع مقدرة تلك الدول على سداد الديون.

2. توقعات حدوث ركود عالمي في 2023 نتيجة رفع أسعار الفائدة: تتزايد التوقعات بحدوث ركود عالمي في عام 2023، على خلفية قيام البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم خلال عام 2022، برفع أسعار الفائدة التي صاحبها ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع؛ لذا يتوقع المحللون أن يتسبب الارتفاع الجامح في الأسعار في عزوف الناس عن الشراء، بما يخلق حالة من الركود في حركة البيع والشراء.

وتكمن خطورة ذلك بالنسبة إلى الديون العالمية، في أن الركود عادة ما يكون مصحوباً بسلسلة من الأزمات المالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية؛ حيث من شأن ذلك أن يسهم في انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي في تلك البلدان، وانخفاض حجم النقد الأجنبي والسيولة النقدية لديها، ومن ثم انخفاض قدرتها على سداد الديون، بما يعني المزيد من التعثر في السداد.

3. احتمال رفع أسعار الفائدة وتشديد سياسات البنوك المركزية: بالرغم من توقع صندوق النقد الدولي انخفاض التضخم العالمي خلال عام 2023 من 8.8% في عام 2022 إلى 6.5%، و4.1% بحلول عام 2024، إلا أن تلك النسبة لا تزال مرتفعة، وربما يصحبها رفع في معدلات الفائدة. وفي ضوء عدم نجاح زيادة أسعار الفائدة الحالية في إعادة التضخم العالمي إلى المستويات التي كان عليها قبل الوباء، فإن المستثمرين يتوقعون أن ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة إلى ما يقرب من 4% في عام 2023؛ وذلك بزيادة تفوق نقطتين مئويتين عن متوسطها في عام 2021. ومن شأن ذلك أن يخلق حالة من عدم الاستقرار في أسعار العملات الوطنية، خاصةً بالنسبة للأسواق الناشئة ذات المستويات المرتفعة من الديون، ومن ثم انخفاض قيمة عملتها في الوقت الذي تصبح فيه مضطرة للسداد بالعملة الصعبة.

4. التباطؤ الحاد المتوقع في النمو الاقتصادي العالمي خلال 2023: لعل التباطؤ الحاد الذي من المتوقع أن يشهده النمو الاقتصادي العالمي في عام 2023، هو نتيجة حتمية لكافة التوقعات السابقة، خاصةً مع زيادة احتمالية حدوث ركود خلال 2023، وهو ما عبر عنه رئيس مجموعة البنك الدولي، حينما أعرب عن قلقه العميق إزاء الاتجاهات الاقتصادية خلال 2023؛ حيث يرى أنه ستكون لها عواقب طويلة الأمد، ومدمرة للاقتصاد والمواطنين في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.

5. ارتفاع تكاليف الاقتراض وتعقيد شروطه على الدول النامية: قد يؤدي التخلف عن سداد مجموعة ضخمة من القروض إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض للبلدان المتعثرة، التي قد تصبح في ظل الضغوطات الاقتصادية أكثر اضطراراً لطلب المزيد من القروض، في توقيت ربما تتعرض فيه لانخفاض في تصنيفها الائتماني. وقد تتجه الدول المقرضة والمنظمات الدولية إلى تعقيد شروط الإقراض، بما يضع البلدان الفقيرة والنامية وسط تحديات جِسام؛ فإما التنازل من أجل الحصول على القروض لإنعاش اقتصادها، أو المزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية بها.

تداعيات محتملة

قد يدفع تفاقم معدلات الديون حول العالم، وعلى وجه الخصوص في البلدان الفقيرة والنامية خلال العام المقبل، إلى عدد من التداعيات السلبية السياسية والاقتصادية، وهو ما يمكن تناوله عبر ما يأتي:

1. تأجيج الاضطرابات المالية: يعد التعثر عن السداد حالة من العجز تمر بها البلدان غير القادرة عن سداد ديونها. ويعد ذلك العجز مرآة للعديد من الاضطرابات المالية التي قد تدفع المواطنين للتخبط في البحث عن استثمارات للملاذ الآمن، في محاولة لتجنب خسارة أموالهم في ظل تراجع قيمة العملة. وفي ظل ارتفاع أسعار العقارات، يصبح الاحتفاظ بالعملة الصعبة الحل المتاح أمام كل من يرغب في الحفاظ على قيمة أمواله، وفي حال توسع هذا التوجه خلال 2023، فإن ذلك سيدفع الدولار إلى أعلى، ومن ثم حدوث مزيد من العبء الاقتصادي على البلدان المتعثرة، وانتكاسة في آفاق النمو بها.

2. نشوب الاضطرابات السياسية: ربما يسفر العجز عن سداد المديونيات، والتورط في مديونات جديدة، عن غضب واستياء شعبي في بلدان نامية أو فقيرة، أو على أقل تقدير، قد يفتح المجال لمزيد من الانتقادات لسياسات تلك الحكومات، واللعب على استقرارها السياسي، وربما يتطور الأمر إلى الخروج في تظاهرات واحتجاجات بالشوارع مناهضة للظروف الاقتصادية الصعبة، وربما يحدث انهيار حكومي في بعض البلدان.

3. زيادة تدفقات الهجرة: في ظل التوترات الاقتصادية المتوقعة خلال عام 2023، قد يضطر عدد ضخم من المواطنين إلى الهجرة خارج دولهم، بحثاً عن العملة الصعبة وسبل عيش أفضل، مع زيادة تدفقات الهجرة إلى الدول المتقدمة، بشكل قد يؤثر سلباً على اقتصاداتها. وقد حذر من هذا الأمر “ديفيد مالباس” رئيس البنك الدولي، في مقابلة في قمة مجموعة العشرين في بالي في نوفمبر 2022؛ حيث رأى أن إيجاد حلول لتخفيض الديون أمر مهم بالنسبة للبلدان المقترضة، لخفض العبء الثقيل عليها، الذي إن استمر فستتضرر الاقتصادات المتقدمة كذلك، من حيث زيادة تدفقات الهجرة إليها.

وإجمالاً، فإنه في ظل التوقعات السلبية عن اتجاهات الاقتصاد العالمي، التي من ضمنها زيادة تعقد أزمة الديون العالمية، خاصةً بالنسبة للبلدان النامية والفقيرة، تزداد المخاوف من الدخول في موجة جديدة في التخلف عن سداد الديون، بيد أن ذلك إن حدث فلن يتسبب في وقوع أزمة مالية عالمية؛ وذلك بالنظر إلى الحجم الصغير نسبياً لتلك الاقتصادات بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي. لكن الأزمة بالنسبة للاقتصادات النامية والفقيرة، ستظل قائمة؛ إذ من المحتمل أن تسفر تلك الضغوط الاقتصادية عن تداعيات خطيرة في تلك البلدان، كتفاقم معدلات الجوع وحدوث المزيد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية.