لقد تشكل المشهد الجيوسياسي لمنطقة القرن الأفريقي منذ فترة طويلة من خلال التموضع الاستراتيجي للدول المتنافسة من أجل الوصول إلى طرق التجارة البحرية والتأثير على الموانئ الإقليمية الرئيسية. ويضيف اقتراح وزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف، في 31 أغسطس 2024، بعرض إدارة ميناء تاجورة على إثيوبيا بعدًا جديدًا لهذه المنافسة المستمرة. ويأتي عرض جيبوتي في وقت من التوترات المتزايدة بين إثيوبيا والصومال، وخاصة في أعقاب مذكرة التفاهم التي أبرمتها إثيوبيا في يناير 2024 مع صوماليلاند للوصول إلى ميناء بربرة. ويحاول هذا المقال تحليل الدوافع والآثار والعواقب الجيوسياسية الأوسع نطاقًا لعرض جيبوتي لإثيوبيا. فهل نحن أمام رؤية استراتيجية حقيقية لعدم التصعيد أم أنها مجرد مناورة جيوسياسية محسوبة؟
إثيوبيا وحلم القوة البحرية
كانت إثيوبيا، وهي دولة هضبة غير ساحلية منذ استقلال إريتريا في عام 1993، تسعى بنشاط إلى إيجاد طرق لتأمين الوصول المباشر إلى البحر الأحمر والطرق البحرية الدولية. ليس هذا فحسب، بل عمدت منذ عام 2018 في ظل قيادة رئيس الوزراء آبي أحمد إلى رفع شعار من النهر إلى البحر وتأسيس قوة بحرية. وتعتمد إثيوبيا حاليًا على جيبوتي في معظم صادراتها، والتي يتم توجيهها عبر ميناء جيبوتي الرئيسي. ومع ذلك، تسبب سعي إثيوبيا إلى تنويع نقاط وصول تجارتها في حدوث احتكاك ونزاع في منطقة القرن الأفريقي، وخاصة مع الصومال. وقد أثار الاتفاق مع صوماليلاند لاستخدام ميناء بربرة جدلاً، لأنه يتعلق بمنطقة شبه مستقلة في الصومال تسعى إلى الاعتراف الدولي.
ففي بث وثائقي على التلفزيون الحكومي في 13 أكتوبر عام 2023، زعم آبي أحمد أن إثيوبيا غير الساحلية يجب أن تستحوذ على ميناء على البحر الأحمر لإخراج سكانها البالغ عددهم حوالي 120 مليون نسمة من "سجن جغرافي" كبير. وبالعودة إلى التاريخ، استشهد بمحارب إثيوبي من القرن التاسع عشر أعلن أن البحر الأحمر هو "الحدود الطبيعية" للبلاد. وقد أشار آبي أحمد إلى أن إثيوبيا كانت بالفعل قوة بحرية لديها بحرية وميناءان، مصوع وعصب. وقد فقدت هذه الموانئ مع بقية سواحلها في عام 1993، عندما انفصلت إريتريا لتصبح دولة مستقلة. وعليه، يرى آبي أحمد أن اللحظة قد اقتربت لتصحيح ما اعتبره خطأ تاريخيًا. كما أصر على أن "الأمر ليس مسألة ترف، بل مسألة وجودية". ومن الواضح إن هذا التصريح يعكس ما كان آبي يعلنه في السر منذ قدومه للسلطة.
إن عرض جيبوتي لتاجورة هو خطوة محسوبة لتزويد إثيوبيا ببديل، مما قد يخفف من التوترات المتصاعدة. وقد تم افتتاح ميناء تاجورة في عام 2017، كما تم تطويره بمشاركة مجموعة تكنيتال الإيطالية. ويقع الميناء إلى الغرب من تاجورة، وهي واحدة من أقدم المدن في جيبوتي والتي تعد ثالث أكبر مدينة في البلاد. ويبلغ عدد سكانها حوالي 45 ألف نسمة. وطبقًا لمصادر حكومة جيبوتي، فقد استثمرت البلاد نحو 90 مليون دولار لتطوير الميناء. ويتمتع الميناء بموقع مثالي لخدمة المناطق الداخلية ويمكنه استيعاب السفن التي يصل وزنها إلى 65 ألف طن. أضف إلى ذلك، فقد تم تصميمه أيضًا للتعامل مع ما يصل إلى أربعة ملايين طن من البوتاس سنويًا إلى جانب الوصول إلى طريق ممر شمال تاجورة-بهلو السريع.
المصالح الاستراتيجية لجيبوتي
يمكن النظر إلى عرض جيبوتي لإثيوبيا من خلال منظور طموحاتها الجيوسياسية الأوسع التي تتجاوز مجرد الاعتبارات الاقتصادية، إلى تعزيز موقعها كفاعل مؤثر ومهم رئيسي في المشهد الإقليمي. رغم كونها دولة صغيرة، إلا أن جيبوتي تتمتع بموقع استراتيجي فريد، حيث تقع عند تقاطع البحر الأحمر وخليج عدن، وهو موقع يجعلها حلقة وصل أساسية للتجارة البحرية العالمية. ولطالما سعت جيبوتي للحفاظ على هيمنتها كمركز رئيسي في هذا المجال الحيوي، والقيام بدور محوري في تسهيل التجارة بين الدول الأفريقية والدول الأخرى عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر. ولعل إطلاق لقب ملكة الموانئ الأفريقية على جيبوتي يؤكد ما نقول. ومع ذلك في السنوات الأخيرة، برز تحدي كبير -ربما لم يكن في الحسبان –من قبل ميناء بربرة في صوماليلاند كتهديد مباشر لهذه الهيمنة. فقد شهد الميناء طفرة كبيرة في أدائه وفي أهميته الاستراتيجية، حيث ارتقى تصنيفه ليصبح أحد أكثر الموانئ كفاءة في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي. فوفقًا لمؤشر أداء موانئ الحاويات التابع للبنك الدولي، تقدم ميناء بربرة إلى المرتبة 106 عالميًا بعدما كان يحتل المرتبة 144 في عام 2022. على النقيض من ذلك، شهد ميناء جيبوتي تراجعًا كبيرًا في ترتيبه، حيث هبط من المرتبة 26 إلى المرتبة 379، مما زاد من المخاوف الجيبوتية بشأن مستقبلها التجاري.
وفي هذا السياق، يأتي عرض جيبوتي لإثيوبيا بإدارة ميناء تاجورة كخطوة استراتيجية تهدف إلى مواجهة تنامي نفوذ ميناء بربرة. ويقع ميناء تاجورة في موقع مثالي لتلبية احتياجات إثيوبيا التجارية، كونه أقرب جغرافيًا إلى الحدود الإثيوبية، مما يجعله منافسًا قويًا لميناء بربرة. ولعله من خلال منح إثيوبيا حقوق الإدارة في تاجورة، تسعى جيبوتي إلى تعزيز علاقتها مع شريكها التجاري الرئيسي، إثيوبيا، التي تعتمد على جيبوتي لنقل نحو 90% من صادراتها. كما تهدف جيبوتي من خلال هذه الخطوة إلى تقليل اهتمام إثيوبيا بالتوجه نحو ميناء بربرة وتعزيز التعاون الجيبوتي-الإثيوبي، مما يساهم في إبقاء طموحات صوماليلاند البحرية تحت السيطرة.
بالإضافة إلى البعد التجاري والجيوسياسي، تأمل جيبوتي في أن يسهم دورها كوسيط إقليمي في تخفيف الصراعات في منطقة القرن الأفريقي المتوترة في تعزيز مكانتها الدبلوماسية على الساحة الأفريقية. فالمنطقة شهدت مؤخرًا توترات متزايدة بين إثيوبيا والصومال بسبب مسائل متعلقة بالسيادة البحرية والتجارة. كما أن هذه الخطوة تأتي في وقت يسعى فيه وزير الخارجية الجيبوتي المخضرم محمود علي يوسف، الذي يتحدث عدة لغات منها العربية والإنجليزية والفرنسية، لتعزيز حظوظه في الترشح لرئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي. ويواجه يوسف منافسة غير خافية من شخصيات بارزة مثل السيدة فوزية آدم من الصومال ورئيس الوزراء الكيني السابق رايلاأودينغا، مما يضيف بُعدًا دبلوماسيًا هامًا لخطوة جيبوتي.
إدارة الصراعات الاقليمية
لا يخفى أن التوترات بين إثيوبيا والصومال ليست جديدة، فقد ابتلعت الدولة الإمبراطورية إقليم الأوجادين الصومالي كما أنها قامت بغزو الصومال عسكريًا خلال الفترة من 2006-2009. بيد أن قضية الوصول البحري زادت من حدة المخاطر الجيوسياسية في القرن الأفريقي. وتنظر الصومال إلى تعاملات إثيوبيا مع صوماليلاند باعتبارها تحديًا لسيادتها، في حين أن طموحات إثيوبيا البحرية مدفوعة بما تسميه "الحتمية الاقتصادية" المتمثلة في تأمين وصول موثوق ومتنوع إلى البحر الأحمر. وقد يرى البعض أن عرض جيبوتي يمثل بادرة دبلوماسية، مما يوفر لإثيوبيا بديلاً قابلاً للتطبيق لميناء بربرة مع تقليل الاحتكاك مع الصومال. ومع ذلك، فإن خطوة جيبوتي هي أيضًا جزء من استراتيجية أوسع نطاقًا للاصطفاف مع القوى العالمية الرئيسية، ولا سيما الصين. ومع تعزيز جيبوتي لمكانتها كمركز لوجستي وتجاري رئيسي في مبادرة الحزام والطريق، فإن هذا العرض لإثيوبيا يرتبط بتيارات جيوسياسية عالمية أكبر. إذ يمكن للصين، التي لديها بالفعل قاعدة عسكرية في جيبوتي وتشارك بشكل كبير في مشاريع البنية التحتية في البلاد، أن ترى هذا التطور كفرصة لترسيخ نفوذها في المنطقة بشكل أكبر.
التداعيات الأمنية
بالنسبة لإثيوبيا، يمثل عرض ميناء تاجورة فرصة اقتصادية ومعضلة استراتيجية. من ناحية أخرى، يوفر هذا العرض لإثيوبيا إمكانية الوصول إلى ميناء رئيسي آخر، مما يؤدي إلى تنويع طرق التجارة والحد من الاعتماد المفرط على ميناء واحد. ومن شأن ممر شمال تاجورة-بهلو الذي تم تطويره حديثًا أن يوفر اتصالًا حديثًا وفعالًا بالبنية الأساسية بين إثيوبيا وميناء تاجورة، مما يسهل تدفق السلع والصادرات مثل البوتاسيوم والحجر الجيري وخام الحديد. أضف إلى ذلك، قد يؤدي قبول هذا العرض إلى تعقيد علاقة إثيوبيا بصوماليلاند وإضعاف موقفها في المفاوضات المستقبلية بشأن استخدام ميناء بربرة. وسوف تحتاج قيادة إثيوبيا إلى الموازنة بين فوائد هذا العرض والتأثير المحتمل على علاقاتها الدبلوماسية مع الصومال، والتي لا تزال هشة وتداعيات ذلك كله على نظام الأمن القومي العربي .
ختامًا، فإن عرض جيبوتي لإثيوبيا هو محاولة واضحة لتأكيد هيمنتها كمركز بحري أساسي في منطقة القرن الأفريقي مع وضع نفسها كوسيط دبلوماسي في الصراعات الإقليمية. وربما يقدم ميناء تاجورة، بمرافقه الحديثة وقربه من إثيوبيا، حلاً عمليًا لطموحات إثيوبيا البحرية القديمة، ولكنه يخدم أيضًا المصالح الاستراتيجية لجيبوتي من خلال مواجهة النفوذ المتزايد لصوماليلاند. في الوقت نفسه، يتشابك الاقتراح بشكل عميق مع مقاربة جيبوتي مع مبادرة الحزام والطريق الصينية والمشهد الجيوسياسي المتغير في المنطقة، وخاصة مع القدوم المصري إلى محيطه الاستراتيجي في القرن الأفريقي. ومع ذلك، فإن رد الفعل الإثيوبي سوف يؤثر يقينًا على توازنات القوة في القرن الأفريقي لسنوات قادمة.