لا شك أن رئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد قد اختار توقيتاً ذكياً لبدء حربه على إقليم تيغراي. في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر، كانت كل الأنظار مشدودة إلى نتائج الانتخابات الرئاسية الأكثر جدلاً في تاريخ الولايات المتحدة. بيد أن التوقيت ليس كفيلاً وحده بتوفير الانتصار في الحرب.
هذه الحرب بحسب الإيكونومست البريطانية، قد تكون "الزفرة الأخيرة" في عمر "الإمبراطورية الإثيوبية"، بينما كتبت صحيفة "الغارديان" بأن القرن الأفريقي بكامله قد يكون في طريقه إلى البلقنة انطلاقًا من الصراع المسلح بين الحكومة الفيديرالية وتيغراي. أما مجلة فورين بوليسي الأميركية، فذهبت إلى حد تقريع اللجنة الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم التي قررت عام 2019 منح أبيي أحمد جائزة نوبل للسلام، قائلة إنه عندما وقع اختيارها على أبيي أحمد لمنحه الجائزة تقديراً لإنهائه الحرب مع أريتريا، فإنها كانت تؤسس لبدء حرب أخرى.
وصل أبيي أحمد إلى رئاسة الوزراء على متن موجة من الغضب الشعبي، على حكم الجبهة الثورية الديموقراطية الشعبية الإثيوبية التي هي كناية عن تحالف أحزاب مبنية على أساس عرقي ولعبت دوراً في إطاحة النظام العسكري لمانغستو هيلا مريام الماركسي التوجه. وتعتبر الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي العمود الفقري للجبهة الثورية، وهي المهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد منذ عام 1991.
حاول أبيي أحمد (نصفه أورومو ونصفه الآخر أمهري، وهما القوميتان الأكثر عدداً في أثيوبيا) أن يظهر بمظهر الموحد لإثيوبيا، فقدم برنامجاً للإصلاح ليكسب به رضا الغرب وليحصل على مساعدات من الجهات المانحة دولياً، وأطلق الكثير من سجناء الرأي (الإعلام الغربي يقول إنه عاود اعتقال عدد مماثل للذين أطلقهم)، ومضى في تشييد سد النهضة تحت عنوان حشد “القومية الإثيوبية” في مواجهات اعتراضات مصر والسودان. وفي الوقت نفسه، تخلص من مراكز القوى في المؤسسات الحكومية والعسكرية، وجلّ هؤلاء من إقليم تيغراي الذي لا يشكل عدد سكانه سوى نسبة 6 في المئة من إجمالي تعداد إثيوبيا، لكنه الإقليم الأقوى نفوذاً سياسياً وعسكرياً.
بات الزعيم الإثيوبي لاعباً إقليمياً رئيسياً من الصومال إلى السودان إلى كينيا، وتالياً بات الرجل طامحاً إلى تبؤ مكانة المرجعية في الشؤون الأفريقية. وفي دلالة رمزية على هذا السعي، دشّن العام الماضي نصباً للإمبراطور هيلا سيلاسي أمام مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا
هذه المعادلة الجديدة سعى أبيي أحمد إلى فرضها، داخلياً من طريق التخلص من النفوذ التيغراني وبناء شبكة أمان لحكمه من المقربين منه، وإقليمياً بشد عصب الإثيوبيين في مواجهة مصر والسودان، وخارجياً بنسج علاقات وثيقة مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً. وعليه، بات الزعيم الإثيوبي لاعباً إقليمياً رئيسياً، من الصومال إلى السودان إلى كينيا (مثلاً توسط بين المجلس العسكري الانتقالي في السودان وقوى إعلان الحرية والتغيير الذي كان له باعاً طويلاً في إسقاط حكم عمر البشير). وتالياً بات الرجل طامحاً إلى تبؤ مكانة المرجعية في الشؤون الأفريقية. وفي دلالة رمزية على هذا السعي، دشّن العام الماضي نصباً للإمبراطور هيلا سيلاسي أمام مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا.
الاندفاع السريع لأبيي أحمد لم يكن ليمضي بسلاسة في بلد معقد التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية. بقيت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هي الخصم الرئيسي الذي يجب التخلص منه نهائياً حتى يتسنى له أن يستكمل مشروعه. وفي الوقت نفسه، بدأت الجبهة الشعبية ترتاب في كل قرارات الحكومة الفيديرالية، ومنها إرجاء الانتخابات التي كانت مقررة هذه السنة، بحجة تفشي فيروس كورونا.
وكانت تيغراي برئاسة دبرصيون جبراميكائيل الإقليم الوحيد من أصل الأقاليم العشرة التي تؤلف إثيوبيا، الذي أجرى انتخابات تشريعية بشكل أحادي في أيلول. ولم ترُق الخطوة لأبيي أحمد، فاعتبر الانتخابات لاغية وقرر وقف حصة الإقليم من الموازنة الفيديرالية.
هنا، بدأ النزاع المستتر بالظهور إلى العلن. والجبهة الشعبية التي تعتبر أنها أقصيت عن الحكم في 2018 في ظروف قاهرة لم تسلم بانكفائها بالمرة، وبقي لديها حنينٌ للإمساك مجدداً بمقدرات إثيوبيا، فكان هجوم مقاتلين من تيغراي على القيادة الشمالية في الجيش الفيديرالي والمتمركزة في تيغراي، منذ أيام الحرب مع اريتريا. أرادت الجبهة الشعبية بعث رسالة تحدٍ إلى أديس أبابا، بينما كان أبيي أحمد ينتظر الشرارة التي سيشعل بها فتيل الحرب ضد الجبهة الشعبية للقضاء عليها وعلى أية أمال لديها بالعودة إلى الحكم، فكانت الحرب الدائرة حالياً، والتي تعتبر الآن هي الأعنف في ضراوتها منذ الحرب الإثيوبية – الأريترية بين عامي 1998 و2000 والتي أسفرت عن مئة ألف قتيل وتشريد مئات الألاف.
لدى دول الجوار خشية من توسع دائرة الحرب، خصوصاً من جهة السودان والصومال، وهما الدولتان اللتان تتداخلان عرقياً وجغرافياً مع إثيوبيا، فهل يتجه القرن الأفريقي كله نحو البلقنة وفق نبوءة “الغارديان”، أم أن الأمور لا تزال تحت السيطرة؟
ويتمثل هدف أبيي أحمد في دخول العاصمة الإقليمية ميكيلي في محاولة لإخضاع قادة الجبهة الشعبية. وفي رأي مراقبين أنه حتى لو تحقق له ذلك، فإن الحرب لن تتوقف، لأن تيغراي تملك جيشاً خاصاً يصل مع عديد الاحتياط إلى 250 الف رجل. فضلاً عن ذلك، تملك الجبهة الشعبية الكثير من أوراق القوة، ومنها القدرة على خوض حرب استنزاف هي متمرسة بها منذ القتال ضد مانغستو هيلا مريام، فضلاً عن قدرتها على توسيع دائرة القتال ليتحول حرباً إقليمية، وبدأت إشارات ذلك تظهر من خلال القصف الصاروخي على أسمرة عاصمة إريتريا. وتتهم الجبهة الشعبية إريتريا بالسماح للقوات الإثيوبية الفيديرالية باستخدام أراضيها لشن غارات جوية على تيغراي.
وإذا ما طال أمد الحرب، فإنها قد تشكل أرضية تشجع عرقيات أخرى على التمرد على السلطة الفيديرالية الأثيوبية والذهاب إلى أقصى الحدود في إعلان الاستقلال السياسي عن أديس أبابا، لا سيما وأن الدستور الإثيوبي يسمح من الناحية النظرية على الأقل للأقاليم بالإقدام على مثل هذه الخطوة في ظروف معينة.
ولدى دول الجوار خشية من توسع دائرة الحرب، خصوصاً من جهة السودان والصومال، وهما الدولتان اللتان تتداخلان عرقياً وجغرافياً مع إثيوبيا، فهل يتجه القرن الأفريقي كله نحو البلقنة وفق نبوءة الغارديان، أم أن الأمور لا تزال تحت السيطرة، مع احتمال التوصل إلى تسوية توفق بين طموحات أبيي احمد وتوق الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي للعودة إلى الحكم؟
صحيح أن أبيي أحمد اختار توقيتاً مناسباً ليشرَع في حربه، لكن هل يملك قرار إنهائها وفق ما يشتهي؟ لا شيء يدل على ذلك طالما أن الإلغاء، هو عنوان الحرب!