"لقد أثبت الرئيس التونسي أنه مصدر عدم الاستقرار السياسي..."، بهذه العبارة استهل مدير تحرير موقع "ميدل إيست آي" البريطاني ديفيد هيرست مقاله على الموقع، وهذا بعض ما جاء فيه:
كنت أتمنى لو أنني كنت مخطئًا هذه المرة، كنت أتمنى لو أن الوثيقة التي نشرتها في أيار/ مايو، وتحتوي على تفاصيل خطة قيس سعيد للاستيلاء على تونس، وتقويض الدستور، وإغلاق البرلمان كانت ملفقة.
حينها سخر البعض مني بسببها، وقيل لي لا يوجد شيء من ذلك، وإن الوثيقة كانت من صنع معارفي من الإسلاميين، والحقيقة أن مصدر الوثيقة كان علمانيًا، ومن داخل الرئاسة نفسها.
كانت تونس على مدى عشر سنوات تتأرجح من أزمة سياسية إلى أخرى، لكنها تمكنت بطريقة ما من البقاء على قيد الحياة كآخر رجل يقف في الربيع العربي.
لم تكن الوثيقة مجرد رسالة عابرة صدف أن وجدت طريقها عن غير قصد إلى صندوق البريد الرئاسي، أجبر قيس سعيد نفسه بعد أربعة أيام على الاعتراف بأن الوثيقة صحيحة. لقد كانت خطة وضعها أقرب مستشاريه.
وجاء في الوثيقة التي كشف عنها موقع "ميدل إيست آي" أنه بعد استدراج رئيس الوزراء هشام المشيشي ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي إلى القصر واحتجازهما هناك سيتم تعيين اللواء خالد اليحياوي وزيراً للداخلية بالإنابة.
هذا ما حدث صباح الاثنين. تم تعيين اليحياوي على النحو الواجب ليكون الرجل الذي سيقود حملة القمع التي تجري الآن على السياسيين والصحفيين. لم يقتصر الأمر على استيلاء سعيد على السلطات التنفيذية، بل عيّن نفسه أيضًا مدعيًا عامًا. يتم تأطير أفعال سعيد على أنها رد فعل على الدمار الذي أحدثه الوباء. لكن في الوقت الذي تم فيه تسريب الوثيقة لم يكن الفيروس قد تمكن من تونس وعاث فيها الفساد... لم يكن لانقلاب الأحد أدنى علاقة بالفيروس، بل كان مخططًا له في وقت كان فيه الفيروس تحت السيطرة.
رحبت أحدى أنصار سعيد سامية عبو من التيار الديمقراطي بتحركاته، وقالت يوم الأحد إن "قرارات الرئيس دستورية وتاريخية، وكان ينبغي على الرئيس اتخاذ تلك القرارات قبل وقت مضى".
انقلاب نقي وبسيط
ووصفت الوثيقة التي خُتمت بعبارة "سري للغاية" الخطة بأنها "انقلاب دستوري". لكن ما حدث ليلة الأحد تجاوز الدستور الذي ينص على أنه حينما يتم تفعيل الفصل الذي يسمح للرئيس بأن يحوز على سلطات استثنائية، يُجبر البرلمان على الانعقاد المستمر، ولا يمكن حله. في الواقع، علق سعيد البرلمان وعزل أعضاءه.
يتوقف تفعيل الفصل 80 على المحكمة الدستورية التي حال سعيد دون تمكين البرلمان من تشكيلها، علمًا أنه بموجب الدستور ينتخب أربعة فقط من بين 12 عضوًا.
يرى أحد من أبرز أساتذة القانون الدستوري في تونس عياض بن عاشور، وكان قد أدى دورًا محوريًا في صياغة الوثيقة الانتقالية والدستور وقانون الانتخابات، وكان رئيس الكيان الذي أدار الفترة الانتقالية عام 2011، وهو رجل علماني، ولا يدعم الإسلاميين، أن هذا انقلاب "بكل معنى الكلمة".
وبالمثل، قال رئيس مفوضية الانتخابات نبيل بافون، إن المفوضية "في حالة صدمة"؛ كل المؤسسات التي أُنشئت بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وما خلقته ثورة 2011 لوضع تونس على طريق الديمقراطية عارضت تصرفات سعيد بغض النظر عن ميولها السياسية.
لذا، لا يوجد شيء دستوري في هذا الانقلاب. هذا انقلاب محض وبسيط مثل الانقلاب الذي أطاح بمحمد مرسي في مصر عام 2013 وحاول الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا عام 2016.
تقريبًا كل الأحزاب في تونس تعارضه. من اليسار إلى اليمين، علماني إلى إسلامي - النهضة، والكرامة، وقلب تونس، والجمهورية، وليس أقلها التيار الديمقراطي نفسه الذي ينتمي إليه عبو.
حتى لحظة كتابة هذا التقرير، كان هناك حزب سياسي واحد فقط، وهو "الشعب"، يؤيد اجراءات سعيد. ليس من الصعب معرفة السبب. ففي العالم العربي، بمجرد أن تستولي على كل السلطة لا تعيدها.
لم يُخفِ سعيد رغبته في تغيير النظام السياسي في تونس. كان قد عيّن رئيس الوزراء المشيشي وصادق عليه البرلمان. اصطدم معه، واتسعت الخلافات بين الرجلين عندما رفض سعيد المصادقة للمشيشي على التعيينات الوزارية. لم يكن الصراع بين الرئيس ورئيس الوزراء حول أيديولوجيا - لم يكن أي من الوزراء سياسيًا ولم يكن لحركة النهضة أي يد. كان من المفترض أن تكون حكومة تكنوقراط. كان الخلاف حول السلطة وسعيد يريدها كلها.
من حالم إلى دكتاتور
في النهاية، كان أستاذًا جامعيًا متمرداً مثل سعيد لا سياسياً هرماً من النظام القديم مثل الباجي قايد السبسي الذي ابتليت به التجربة التونسية مع الديمقراطية. ويُسجل للسبسي أنه قاوم إغراء المال الذي عرضته عليه أبوظبي حتى يتخلص من النهضة. واختار بدلاً من ذلك التسوية السياسية، وانهار حزبه نتيجة لذلك، لكن صمدت تونس. مثل هذا الفن هو لعنة بالنسبة لسعيد، وهو شخص لا يوجد خلفه حزب سياسي، وكان يدعمه حزب النهضة باعتباره البديل الأقل سوءًا من بين المرشحين الرئاسيين، وكونه ينمي أفكاراً خاصة به.
وصف نضال مكي الذي درس تحت قيادته سعيد بأنه حالم يسعى إلى التغيير التحولي كرئيس. قال نضال لموقع "ميدل إيست آي" عام 2019: "السيد سعيد لديه بعض التحفظات بشأن الديمقراطية التمثيلية كما تُمارس وتُجرب في تونس. إنه لا يعارضها بشكل قاطع، لكنه يود تصحيحها من خلال إدخال جرعة من الديمقراطية المباشرة".
أثبت سعيد أنه مصدر عدم الاستقرار السياسي. لقد حكم بالتأرجح بين التهديد والمرونة مرة أخرى. في نيسان\ أبريل ادعى أنه القائد الأعلى للجيش وقوى الأمن الداخلي في البلاد فيما وضع الدستور القوى الداخلية تحت سيطرة رئيس الوزراء.
وأعاد في حزيران \يونيو وحده كتابة التاريخ التونسي من خلال التصريح بأن فرنسا ليس لديها ما تعتذر عنه أثناء حكمها الاستعماري للبلاد. وأعلن سعيد أن تونس كانت تحت الحماية الفرنسية وليس الحكم الاستعماري. إذا ما أخذنا بالاعتبار كم من التونسيين تعرضوا للاغتيال أو للاغتصاب تحت الحكم الاستعماري منذ العام 1881، تبدو تصريحاته في غاية العجرفة. كان دافعه الوحيد لإحباط ترشيح مناصب للمحكمة الدستورية مرارًا وتكرارًا - على الرغم من اختيار أربعة من قبل الرئاسة، وأربعة من قبل البرلمان وأربعة من قبل القضاء - هو إيقاف تشكل الهيئة التي يمكن أن تحكم بأن تحركاته غير دستورية من القائمة.
كان المرء يتوقع من مثله كأستاذ قانون أن يرسخ مبدأ الفصل بين السلطات، إلا أن سعيد لا يعترف بأخطائه، ولا يتحمل المسؤولية عن معاناة التونسيين.إن الفوضى التي تضرب الحكومة هي الفوضى التي يصنعها بيديه، كما أدركت تونس سريعاً حينما عطل البرلمان واعتقل المعارضين السياسيين...
اخر الصامدين
على مدى عشر سنوات، كانت تونس تتأرجح من أزمة سياسية إلى أخرى لكنها تمكنت بطريقة ما من البقاء على قيد الحياة كآخر رجل صمد في الربيع العربي.
لم يكن حزب النهضة مثل الإخوان المسلمين في مصر. لقد تراجع، وتخلى عن السلطة طواعية. لقد أبرم صفقات لتقسيم المعارضة. لكنه لم يستطع إحداث التغيير الاقتصادي الذي كانت بلاده في أمس الحاجة إليها. بالنسبة للتونسي العادي ـ خاصة الشباب ـ سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ.
لم يكن حزب النهضة في معظم هذا الوقت يسيطر على البلاد أو الحكومة، لكنه كان يقاتل من أجل إنشاء مؤسسات مثل البرلمان، والمحكمة الدستورية التي من شأنها ترسيخ تونس كدولة ديمقراطية. إذا كانت التجربة التونسية مع الديمقراطية قد وصلت بالفعل إلى نهايتها، فهذا يعني أن التونسيين سيقبلون حجة الديكتاتوريين في كل أنحاء العالم العربي بأنهم ليسوا مستعدين للديمقراطية، وأنه لا يناسبهم سوى العيش في كنف الديكتاتوريين الهشّين والأشرار.
لا أعتقد أن الربيع العربي قد مات، ولا أعتقد أن الشعب التونسي مستعد للعودة إلى حكم الرجل الواحد. يمكن أن تثبت الأيام التالية أنني على حق مرة أخرى.