الواقع الاستراتيجي يتغير ويستوجب مبادرة سياسية أمنية تعطي جوابا للتهديدات والفرص الكامنة فيه. اسرائيل تتمتع باستقرار أمنى واقتصادي، توجد في تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، تقيم تعاونًا استراتيجيًا مع الدول السنية في إطار اتفاقات ابراهيم، وتحتفظ بتفوق عسكري واضح على خصومها الاقليميين. ومع ذلك، فان الاستراتيجية الايرانية العامة الساعية باستمرار وبقوة في السنتين الاخيرتين لتعزيز نفوذها الاقليمي من خلال استخدام القوة ودحر الولايات المتحدة وحلفائها الاستراتيجيين، الى جانب تطوير قدراتها التكنولوجية في النووي، تنجح في تثبيت ردع ناجع حيال المعسكر السني ووضع تحدي أمنى متعدد الابعاد وبعيد المدى لإسرائيل. اسرائيل مطالبة بوضع استراتيجية شاملة لصد إيران في المنطقة، تمنعها من الوصول الى قدرة حافة نووية، في ظل تعزيز التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ودول المنطقة.
جولة المحادثات الحالية في فيينا التي بدأت في 27 كانون الاول، تقترب من مرحلة الحسم، رغم أن الفجوات الجوهرية بين الطرفين بقيت على حالها. واشار وزير الخارجية الامريكي انطوني بلينكن الاسبوع الماضي بانه بتقديره بقي قليل جدا من الوقت، بضعة اسابيع في اقصى الاحوال لاتخاذ القرار بالعودة الى الاتفاق النووي وذلك لان إيران تقترب من النقطة التي تتمكن فيها من انتاج ما يكفي من المادة المخصبة للانطلاق الى سلاح نووي. وحذر بلينكن من ان الولايات المتحدة ستكون مستعدة لان تفحص خيارات اخرى في حالة فشل المفاوضات.
أما إيران بالمقابل، فتتخذ استراتيجية تسويف في ادارة المفاوضات في فيينا وتطالب بإلغاء نظام العقوبات الى ما يتجاوز ما وصف في الاتفاق الاصلي، لمنع تفعيل متكرر للعقوبات ضدها في المستقبل، لتخزين اجهزة الطرد المركزي المتطورة وعدم تفكيكها وغيرها. هدف إيران هو العودة الى الاتفاق النووي الاصلي بشروطها، في ظل استخدام الرغبة الامريكية للعودة الى الاتفاق لغرض تثبيت اثمان اقتصادية، والابقاء على التقدم التكنولوجي المتحقق في النووي حتى الان.
وبالتوازي تستخدم إيران روافع على الولايات المتحدة من خلال إطلاق الصواريخ والمسيرات الانتحارية للقوات الفرعية والميليشيات الشيعية ضد اهداف امريكية في سوريا وفي العراق. وفي الحدث الاخطر حتى الان لسلسلة الاحداث الهجومية في الذكرى السنوية لتصفية قاسم سليماني (3 كانون الثاني) أطلقت أربع صواريخ نحو السفارة الامريكية في بغداد "المنطقة الخضراء". ومع أن النار لم تلحق الاصابة بالأرواح ولكنها جسدت الجسارة المتزايدة لإيران في استخدام القوة ضد الولايات المتحدة. وأدى الهجوم الى تحذير خطير لإيران من جانب البنتاغون بانه في حالة استمرار الهجمات، فان الولايات المتحدة سترد.
ومع ذلك، فان الردع الامريكي في الشرق الاوسط ضعف، وغياب الرد حتى الان الذي ينبع من رغبة الولايات المتحدة في التقدم في محادثات النووي والامتناع عن الانجرار الى معركة مباشرة ضد إيران يشجع القوى الفرعية الايرانية لممارسة مزيد من اعمال القوة ضد الولايات المتحدة وحلفائها. في هذا الإطار تصاعدت المعركة في اليمن في الاسابيع الاخيرة في اعقاب إطلاق النار الباليستية من جانب الحوثيين نحو الاراضي السعودية (25 كانون الاول)، اختطاف سفينة اتحاد الامارات في البحر الاحمر (3 كانون الثاني)، وهجمة المسيرات في المطار الدولي والمنطقة الصناعية في ابو ظبي (17 كانون الثاني) التي أدت الى موت ثلاثة عاملين جانب واصابة ستة.
شجب مجلس الامن بشدة اختطاف السفينة ودعا الى حفظ حرية الملاحة في المسارات الدولية في خليج عدن وفي البحر الاحمر. ومع ذلك، فان غياب الرد العسكري من جانب الولايات المتحدة وحلفائها على استخدام إيران للقوة في سوريا، العراق واليمن يؤدي بالمعسكر السني، ولا سيما اتحاد الامارات والسعودية، الى تعزيز العلاقات الثنائية مع طهران، وخوض حوار مباشر معها. ان السياسة الامريكية تجبر المعسكر السني على اجراء تعديلات وتغييرات في سياسته الاقليمية حول إيران، في ضوء التقدير بان السند الامريكي غير مصداق.
وبالتوازي، يتركز الاهتمام العالمي على الازمة الناشئة في اوكرانيا. روسيا تطالب الولايات المتحدة والناتو بضمانات الا يتوسع الناتو شرقا الى اوكرانيا والا يقبل مزيدا من الدول التي كانت سابقا في الاتحاد السوفياتي، وتدعو الى اخراج القوات العسكرية والاسلحة من وسط وشرق اوروبا. وشدد وزير الخارجية الروسي على أن "روسيا لن تنتظر الى الابد" جواب الولايات المتحدة والناتو، وان لموسكو خيارات يمكن أن تستخدمها في حالة ربط مطالبها. معظم مطالب روسيا لاقت حتى الان رفضًا باتًا من الولايات المتحدة والناتو اللتين شددتا على ان روسيا ستدفع ثمنًا باهظًا في حال توجهها الى الخيار العسكري.
التوتر المتصاعد يضع في الاختبار تصميم وقدرة الولايات المتحدة على منع استخدام روسيا للقوة، وقد نشرت حتى الان أكثر من 100 ألف جندي على الحدود مع اوكرانيا. الجهد الدبلوماسي لم ينتهِ بعد، لكن من شأن الفشل الامريكي في هذه الساحة أن تكون له مضاعفات تجاه الصين، وإيران وفي الشرق الاوسط.
واستمرارًا لذلك، فان تفاهمًا امريكيًا – روسيًا في مسألة النووي الايراني حرج في القدرة على بلورة تفاهمات دولية في محادثات النووي في فينا بل والتقدم لاحقا الى الاتفاق. كما أن بث ضعف امريكي في الازمة في اوكرانيا سيؤثر على مكانة واستقرار الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، وعلى قوة الردع لديها. سيكون لهذا معان سواء في جانب اعادة انتشار المعسكر السني المؤيد لأمريكا في المنطقة، زيادة التأثير الروسي والصيني في الشرق الاوسط واستعداد إيران والمحور الراديكالي لأخذ مخاطر في بناء القوة والاحتكاك مع اسرائيل.
في السياق المحلي، تشكل المسألة الفلسطينية عنصرًا من شأنه أن يقوض الاستراتيجية الاسرائيلية في المنطقة وتجاه الولايات المتحدة. فغياب الاستراتيجية الشاملة، والرغبة الاسرائيلية في تقليص النزاع وادارته دون افق سياسي يخلقان احساسًا باستقرار وهمي في ضوء تعظيم الاعمال الاقتصادية – المدنية من جهة، واعمال “جز العشب” العسكرية من جهة اخرى. فهشاشة السلطة الفلسطينية، بما في ذلك في ضوء الخطاب المتعاظم عن اليوم التالي لأبو مازن وتواصل جهد حماس لإشعال الاجواء في الضفة، والقدس وفي المجتمع العربي في اسرائيل تعظم الاحتكاكات العنيفة في الساحة الفلسطينية بشكل من شأنه أن يقلل من الاهتمام والتركيز في المسألة الايرانية.
من ناحية ملموسة، تحاول حماس تثبيت معادلة عمل جديدة تجاه اسرائيل بعد حملة حارس الاسوار. من جهة تهدد بخطوط حمراء تخرق حماس بسببها التهدئة (القدس، السجناء والان الاضطرابات في النقب)، بل وتصمم رواية كفاح وطني فلسطيني شامل ضد اسرائيل (يخدم قيادتها “في اليوم التالي”)، وبالمقابل تدفع الى الامام التسوية في غزة والتي تثبت حكمها. غياب استراتيجية اسرائيلية شاملة، سواء في القطاع أم في الضفة وفي مركزها افق سياسي يثبت مكانة السلطة الفلسطينية وفكرة الفصل، في ظل تواصل “آلية الجولات” يخدم حماس التي تحاول تثبيت نفسها كالقيادة الوطنية للساحة الفلسطينية.
توصيات
1ـ توقيع متجدد للاتفاق النووي بين القوى العظمى وايران من شأنه أن يبقي القدرات والمعلومات التكنولوجية المتطورة في ايدي طهران، الى جانب تعزيز الاقتصاد المحلي في اعقاب رفع العقوبات وزيادة التجارة مع دول المنطقة والساحة الدولية. في هذا السيناريو ستكون قدرة عمل اسرائيل محدودة في ضوء ضغط القوى العظمى وبخاصة امريكا للحفاظ على الاتفاق الموقع، ومنع ضعضعة الاستقرار الاقليمي. على اسرائيل أن تبلور سياسة متداخلة في اطارها تعمل على توثيق الحلف الاستراتيجي مع واشنطن لتمكين محور التعاون والتنسيق العسكري – الاستخباري، الى جانب بناء قوة خاصة تسمح لها بعملية مستقلة في حالة تجاوز إيران الخطوط الحمراء في النووي.
2ـ لاحقًا سيؤدي تجديد الاتفاق النووي باحتمالية عالية الى سباق تسلح تقليدي لعموم دول المنطقة بوسائل قتالية غربية، روسية وصينية متطورة. على اسرائيل أن تبلور سياسة اقليمية متوازنة في اطارها تعمق التعاون الامني العسكري مع دول الخليج، مصر والاردن لغرض صد النفوذ والتآمر الاقليمي الايراني، الى جانب الحفاظ على التفوق النوعي للجيش الاسرائيلي.
3ـ على السياسة الاسرائيلية ان تناور بين المصالح المتضاربة، وان تخلق مجال مرونة يسمح بالتقدم في التعاون الاقليمي في ظل الحفاظ على القوى التكنولوجية والبشرية. اما تآكل التفوق النوعي للجيش الاسرائيلي، من خلال تسلل تكنولوجيات متطورة، رأسمال بشري واساليب تفعيل خاصة فستعرض للخطر امن اسرائيل في المدى البعيد، رغم المزايا التي ينطوي عليها الامر في ا لمدى القصير في المواجهة مع إيران.
4ـ على اسرائيل ان تستغل الفرص في الدينامية الاقليمية كي تعزز اهدافها الاستراتيجي وعلى رأسها دحر ايران من سوريا ولبنان، تقليص تهديد النار الدقيقة على اسرائيل ومنع ايران من ا لوصول الى قدرة حافة نووية. وفي هذا السياق مثلا، فان توسيع المعركة ما بين المعارك في سوريا ضد اهداف ايرانية (العصا)، الى جانب الاستعداد للاعتراف بنظام الاسد، والدفع الى الامام بإعمار الدولة في ظل التنسيق السياسي الامني مع ا لدول العربية وروسيا (الجزرة)، يمكنه أن يشكل استراتيجية ناجعة لتقليص النفوذ الايراني في الدولة.
5ـ على اسرائيل أن تواصل تعزيز التنسيق الامني والمساعدة المدنية – الاقتصادية، في ظل تعزيز حوكمة السلطة، صد حماس على الارض وتمكين الردع تجاهها. في سياق التوتر في النقب على اسرائيل أن تطلق اشارة واضحة لحماس بان استمرار جهودها لإشعال الاجواء بين مواطني اسرائيل العرب ليس مقبولا وسيجبي ثمنا من الحركة، ولا سيما في شكل تقييد الخطوات الاسرائيلية واسعة النطاق التي تعمل عليها اسرائيل تجاه القطاع. في الجانب بعيد المدى، على اسرائيل أن تبلور استراتيجية شاملة تشير الى افق سياسي لتحقيق فكرة الفصل لأجل منع المسيرة الزاحفة المتحققة بشكل “الدولة الواحدة”، ومنع أزمة في العلاقات مع واشنطن.
6ـ الازمة في اوكرانيا تؤثر على مبنى الامن العالمي والاقليمي. يمكن أن تفسر الازمة الحالية ايضا كنتيجة للطموح الغربي للاستقرار والامتناع عن معارك عسكرية في عصر ازمة صحية واقتصادية عالمية. على اسرائيل أن تمتنع بقدر الامكان عن التدخل في الازمة في اوكرانيا في ضوء الحاجة للحفاظ على التنسيق الاستراتيجي مع سوريا في سياق المعركة بين المعارك في سوريا، وبالتوازي تعزيز التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة قدر الامكان.