في وقت مبكر جدًا من موعد مسيرة الأعلام، قبل أسبوعين تقريبًا؛ سارعت حكومة بينت لاتخاذ قرار نُظر إليه على أنه متسرع، بإقرار مخطط مسيرة الأعلام كما قدمه المنظمون، اعتمادًا (حسبما أعلِن) على توصيات مختلف الجهات الأمنية، ومن باب التحوط تُرك الباب مواربًا لإبقاء إمكانية تغييره، حيث اعتبر القرار في حينه غير نهائي، وألزم الجهات المقررة بتقديم تقدير موقف مستمر يعتمد عليه القرار النهائي.
المهم بالنسبة لنا هنا هو محاولة تفكيك وفهم خلفيات القرار الاحتلالي بالموافقة على مخطط المسيرة، رغم ما يعنيه ذلك من مخاطر الانفجار الكبير على جبهة القطاع وعلى جبهتيْ الداخل والضفة، لا سيما وأن معركة "سيف القدس" لا زالت حاضرة بما انطوت عليه من كي الوعي الاحتلالي، ومن تثبيت معادلة عدم القبول بفصل جبهات المواجهة، وربط القطاع بالقدس.
بتقديرنا، ثمة عوامل كثيرة لعبت دورًا مركزيًا في صناعة القرار الاحتلالي؛ أولها الصراعات السياسية الداخلية وما يعرف بأزمة الحكم والأزمة السياسية المستمرة، فرئيس الحكومة بينت هو رئيس حزب "يمينا" المتطرف، وهو من أقل مُكونات الائتلاف قوة برلمانية عددية، ويعاني من صراعات وإنذارات بالانشقاقات الداخلية، وبينت يدرك أن أيّ قرار بالتراجع سيوصف بالضعف من قِبل أعضاء حزبه أولًا، وسيتخذونه ذريعة للانشقاق، وفي هذه الحال ليس أن الحكومة ستسقط فحسب، بل إن رئاسة الحكومة ستنتقل إلى لبيد، وهو (أي بينت) سيذهب إلى الانتخابات كمن باع وخان ثقة ناخبيه، وكمن أظهر ضعفًا أمام المقاومة؛ الأمر الذي سيعني بالنسبة له انتحارًا سياسيًا.
من جهة أخرى، حتى لو لم ينشق أحد من حزبه على خلفية تغيير القرار؛ فإن بينت واثق من أن المعارضة لمثل هذا القرار في الشارع الإسرائيلي قوية، لا سيما أن "الليكود" يغذيها ويحرض عليه، فضلًا عن أن بينت نفسه جاء بشعار أنه سيكون أقوى من سلفه نتنياهو أمام المقاومة، وقد كان يتهمه بالضعف. وبرغم ذلك أيضًا؛ فلو كان بينت ولبيد يشعران بأن عمر الائتلاف طويل وبأنه غير مهدد كل أربعاء؛ لذهبوا باتجاه تغيير القرار ولراهنوا على أن ذاكرة الناخبين قصيرة وبقاء الحكومة سيكون الخيار ذا الأولوية.
إلا أن بينت ومعه رؤساء الائتلاف (لبيد وغانتس) لديهم شبه يقين بأن رياح الانتخابات قد هبت ولا شيء يُمكنه وقفها، وأن حكومتهم استنفدت كل ممكنات بقائها؛ وبالتالي فإن القرار الأسلم انتخابيًا وحزبيًا هو الظهور بمظهر القوي والمتمسك بمظاهر السيادة والمنحاز لليمين؛ حتى لو بثمن الحرب. وبالنسبة لهم، فإن التمسك بالقرار والذهاب للحرب ومن ثم الذهاب للانتخابات هو الخيار الأفضل، لمعرفتهم أن الشارع الإسرائيلي يميني بكليته، يتعطش للبطش، ويحب مظاهر القوة والعنجهية.
ثانيًا، المستوى السياسي - وبغض النظر عن رغباته - لا يستطيع أن يفرض قرارًا مغايرًا تمامًا لتوصيات الجهات الأمنية، ومن الواضح أن المنظومة الأمنية بكامل مكوناتها تبنت خطًا صقريًا بدعم ما يسمونه "المعركة على السيادة" والاستعداد لحماية القرار، والجيش في توصياته هذه قال إنه اعتمد فيها على تقدير بأن التمسك بمسار المسيرة لن ينطوي على مخاطر أمنية عالية، وهذا ربما يرجع إلى عامليْن: الأول أن تقديرات الاستخبارات العسكرية و"الشاباك" استخلصت أن المقاومة في القطاع لن تذهب باتجاه حرب، وأن كل ما ستفعله هو التهديد وتحريض سكان القدس والضفة والداخل، وعلى مستوى الداخل فيبدو أن حراك يوم النكبة في الداخل الفلسطيني أعطى "الشاباك" مؤشرات على أن فلسطينيي الداخل لن يتفاعلوا بقوة مع المسيرة مثلما كان عليه الأمر في معركة "سيف القدس". أما العامل الثاني في توصيات الجيش فيستند إلى ما علق في الأذهان إبان معركة "سيف القدس" عن عجز الجيش وفقدانه القدرة وضعف منظوماته عن توفير الأمن وتهرب قادته من الدخول في معركة قوية مع المقاومة، وهو يعتبر في نظر الكثير من المراقبين بمثابة تصدع كبير في قوة الردع ونظرية الأمن القومي؛ منح المقاومة قدرة أكبر على التجرؤ والتحدي، وبالتالي فإن الجيش (وعلى رأسه كوخافي) يعتبر أنه مضطر لرد الاعتبار وتبديد مفهوم وهن بيت العنكبوت.
وعليه، فإن كلًا من المستوى السياسي والأمني التقت دوافعهما ومصالحهما وحساباتهما بالتمسك والتغني بمظاهر السيادة بثمن الحرب، وإن ثمن الحرب سيكون بالنسبة لكليهما أقل من ثمن الظهور بمظهر الضعف، وبمظهر من يتهرب جبنًا من المواجهة، لا سيما أن الشارع والإعلام يهيج ويحفز ويدعم ويشجع كل مظاهر القوة والبطش بتحريض واضح من المعارضة بزعامة نتنياهو.
إن ما سعت إليه القيادة الإسرائيلية بشقيها، السياسي والعسكري/ الأمني، وهو عدم الربط بين غزة والقدس وإزالة آثار "سيف القدس"؛ لن يتحقق مهما كانت نتيجة هذا الحدث الكبير، وذلك ببساطة لأن المسيرة في القدس وكل الأنظار متجهة إلى غزة.
غزة أصبحت حامية القدس، ولو لم تطلق رصاصة.