ملخص:
باتت مخاطر الأمن المائي مصدر قلق جدي لمصر وبعض دول حوض النيل. ورغم عقد من المفاوضات، الا أن فرص الوصول الى اتفاق تتضائل بين مصر واثيوبيا والسدان بالتوازي مع اجراء تقوم به الحكومة الأثيوبية حالياً والمتمثل في قرار أحادي بتنفيذ عملية ملء اضافية بالسد للعام الثالث على التوالي. ويمثل عدم احراز توافق حاسم مصدر تهديد استراتيجي لشريان حياة المصريين والسودانيين.
في الثاني من أبريل عام 2011 أقيم حفل وضع حجر الأساس لمشروع سد النهضة وقد تم إتخاذ قرار تشييد السد من جانب واحد حيث لم يتم إخطار مصر والسودان اللتان تتأثران بمثل هذا المشروع كما لم يتم التشاور معهما؛ وقد سبق الاعلان الرسمي عن وضع حجر الأساس بدء فعلي في بناء سد النهضة وذلك في ديسمبر عام 2010 وكانت اثيوبيا وضعت خطط سابقة لبناء سد على الحدود مع السودان منذ خمسينات القرن الماضي، ويتكون مشروع سد النهضة من خزان ضخم يضم 74 مليار متر مكعب من المياه وتبلغ مساحته 1875 كم مربع ويضم 13 توربين من طراز فرانسيس بقدرة كهربية 5150 ميجاوات.
تم تشكيل لجنة خبراء لتقييم أثر هذا السد على مصر والسودان من عشرة خبراء، تضم اثنان من كل دولة من الدول الثلاث وأربعة خبراء دوليين مستقلين وأصدرت اللجنة تقريرها في 31 مايو 2013، وفي منتصف عام 2014 صدر بيان مشترك بين مصر واثيوبيا في مالابو بغينيا الاستوائية يهدف الى تشكيل لجنة وطنية ثلاثية من اجل إجراء دراسات اضافية أوصت بها لجنة الخبراء ومن اجل القيام بذلك تم الإتفاق على تعيين خبيرا استشاريا دوليا لإجراء تلك الدراسات.
ومن أجل كسر حالة الجمود في المفاوضات تم توقيع إعلان المبادىء بشأن مشروع سد النهضة وذلك في مدينة الخرطوم خلال مارس 2015؛ وبعد أكثر من عام في سبتمبر 2016 تم توقيع عقود دراسات الاستشاري الدولي من أجل إجراء الدراسات التي أوصت بها لجنة الخبراء في خلال 11 شهر ولكن لم يتم إجراء الدراسات وتم عقد إجتماع في يناير 2018 يضم وزراء الخارجية والمياه ومديري الاستخبارات في الدول الثلاث من أجل تجاوز الخلافات بشأن عملية إجراء الدراسات التي أوصت بها لجنة الخبراء وتم عقد إجتماع آخر في مايو 2018 ولكن فشلت الجهود في إنجاز الدراسات التي أوصت بها لجنة الخبراء، وخلال الفترة من يوليو 2018 الى اكتوبر 2019 تم عقد عدة إجتماعات تستهدف تحقيق توافق بين الدول الثلاث إلا أن الفجوة بين الدول الثلاث مازالت كما هي بدون توافق، ليعقبها جهود وساطة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة البنك الدولي، بدأت أولى اجتماعاتها في نوفمبر 2019 وخلال أربعة أشهر من المناقشات تم تحقيق أكثر مما حققته خمس سنوات من المفاوضات منذ اعلان المبادىء لعام 2015 وتم التوصل الى توافقات بشأن الجوانب التقنية إلا انها في النهاية لم تؤدي إلى توقيع إتفاق نهائي بين الدول الثلاث رغم توقيع مصر بالأحرف الأولى على الاتفاق في 28 فبراير 2020.
في مايو 2020 قام رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك في ذلك الوقت بجولة من المحادثات استمرت عدة اسابيع ولكن لم تؤدي هذه العملية الى تحقيق تقدم كبير الى ان بدأت رعاية الإتحاد الأفريقي لمفاوضات سد النهضة عقب إبلاغ مصر والسودان لمجلس الأمن الدولي عن ضرورة عقد جلسة حول سد النهضة وإستجابة مجلس الأمن فى حدث غير مسبوق فى تاريخه يعكس اعتراف المجتمع الدولي بالأخطار المتوقعة فى حال تنفيذ سياسة انفرادية تتعلق بنهر دولي من خلال مشروع سد النهضة وبصفة خاصة فى منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل وهي تعاني بالفعل من أزمات ونزاعات وهو ما يمكن ان يؤدي إلى حالة تهدد السلام والأمن فى المنطقة.
تمت جلسة مجلس الأمن الدولي بالفعل فى 29 يونيو 2020 وكان قد سبقها اجتماع استثنائي لمكتب الاتحاد الأفريقي ضم رؤساء الدول والحكومات بشأن سد النهضة فى 26 يونيو 2020 بعد دعوة من رئيس جنوب افريقيا سيريل رامافوسا رئيس الاتحاد الأفريقي في ذلك الوقت وانتهى الإجتماع الى دعوة الأطراف على العمل للتوصل إلى تسوية سلمية لمسألة السد وأن تكون مقبولة لجميع الأطراف بما يحقق النفع مع دعم للمفاوضات الثلاثية للمساعدة فى معالجة المسائل الخلافية المتبقية فى ضوء توافق الأطراف الثلاثة على أكثر من 90 % من القضايا المطروحة مع إحاطة مجلس الأمن الدولي ان المسألة الآن أصبحت قيد نظر الاتحاد الأفريقي.
انعقد الاجتماع الاستثنائي الثاني مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي حول سد النهضة فى 21 يوليو 2020 لإستعراض ما تم فى الملف منذ الاجتماع الاستثنائي الأول وتم التأكيد مجددا على الإلتزام بالتوصل الى اتفاق متبادل المنفعة بخصوص قضية السد وأهمية التعاون كأساس للتكامل والتنمية المستدامة والازدهار للبلدان الثلاثة، تضمن أيضا على مناقشات مستفيضة بشأن القضايا العالقة فى المسألة التفاوضية وضرورة التعجيل بوضع الصيغة النهائية لاتفاق ملزم وشامل حول ملء وتشغيل سد النهضة.
بعد عقد عدة جلسات برعاية الاتحاد الأفريقي عادت العملية التفاوضية مرة اخرى إلى الجمود، عقب جلسة كينشاسا التي شهدت الاجتماع الوزاري يومي 4 و5 ابريل 2021 والتى كان الغرض منها هو استئناف العملية التفاوضية من خلال الاتفاق على طريقة أكثر فعالية لإدارة المفاوضات وخلال تلك الجلسة، أقترح السودان إنشاء لجنة رباعية دولية بقيادة الكونغو الديموقراطية الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة مع تأكيد على قيادة الكونغو لتلك الآلية، وأقترحت مصر تيسير مهمة التفاوض بالسماح للخبراء المؤهلين من خلال الشركاء الدوليين بالمساعدة في وضع حلول للمسائل التقنية والقانونية المعلقة.
الا أن اثيوبيا رفضت تلك المقترحات وأعتبرتها محاولة لإخراج العملية من نطاق البلدان الثلاثة وإضرار بالعملية التي يقودها الاتحاد الأفريقي بعد إستبعاد جنوب افريقيا من دورها كمراقب.
وعلى الرغم من مرور عام على دخول الاتحاد الأفريقي فى رعاية العملية التفاوضية الا أن الجمود جعلها تعود مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي فى 8 يوليو 2021 حيث لم يتمكن الأطراف الثلاثة من الاتفاق على إطار عمل لتسوية الخلافات العالقة فى المسألة التفاوضية وكان المطلب السوداني فى تلك الجلسة ضرورة التوصل الى اتفاق قانوني ملزم وشامل لعملية ملء وتشغيل السد، وضرورة إعادة الأطراف إلى طاولة التفاوض مع تعزيز واستكمال المسار الأفريقي وإعطاء دور أكبر للشركاء الدوليين فى إطار تقوية الشراكة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وفي 15 سبتمبر أصدر مجلس الأمن الدولي بيان شجع خلاله على ضرورة استئناف المفاوضات بناء على دعوة رئيس الاتحاد الافريقي لوضع الصيغة النهائية سريعا لنص اتفاق مقبول وملزم للأطراف بشأن ملء السد وتشغيله وذلك في غضون زمني معقول وان تمضي الدول الثلاث قدما بطريقة بناءة وتعاونية في عملية التفاوض مع تأكيد على ان بيان المجلس لا يرسي أي مبادىء ولا أي سابقة في أية منازعات أخرى بشأن المياه. وأستمر الجمود في المفاوضات الى ان قامت اثيوبيا في 20 فبراير 2022 بإعلان منفرد عن بدء تشغيل اول توربين في سد النهضة في خطوة من جانب واحد تضاف الى ما سبقها من عمليات ملء السد في عامي 2020 و2021.
وجهة النظر المصرية:
تمثل رؤية مصر في الوصول الى اتفاق عادل يلبي مصالح الأطراف الثلاثة وحقوقها الى مبدأ تبادلي بسيط وهو أن مصر مستعدة لتحمل قدر من الضرر لضمان تحقيق إثيوبيا لأهدافها التنموية من خلال توليد الطاقة من السد وفي المقابل ينبغي ان تكون مستعدة لإتخاذ تدابير التخفيف خلال فترات الجفاف، حيث تستند رؤية مصر للقواعد التي تنظم ملء وتشغيل السد من اجل تحقيق هدفين، الأول هو التعاون مع إثيوبيا لضمان تحقيق أهدافها التنموية من خلال البدء في تشغيل السد وإنتاج الطاقة الكهربائية، والثاني هو ان تكون القواعد الخاصة بملء السد وتشغيله لا تؤثر على الظروف الهيدرولوجية للنيل الأزرق بما يعني انه ينبغي تعديل الملء في ظل ظروف معينة بحيث يتكيف مع التدفق السنوي للنيل الأزرق من خلال طرق من بينها تسريع الملء خلال السنوات الرطبة وتبطئته خلال سنوات الجفاف التي تضع ضغوطا على استخدامات المياه في دولتي المصب.
وجهة النظر السودانية:
خلال بيان لوزارة الري السودانية يوم 29 يوليو 2021 نشر على الموقع الرسمي للوزارة تم التأكيد على ضرورة التوصل لتبادل المعلومات للحفاظ على أمان منظومة السدود السودانية من الروصيرص وحتى الخرطوم وعطبرة وأن لسد النهضة فوائد للسودان في التوليد الكهربائى وتقليل الفيضانات والاطماء وتشغيل سد الروصيرص لكن تحقيق تلك الفوائد مشروط بأن يكون هنالك اتفاق ملزم قانوني وتبادل للمعلومات والبيانات حيث ان عدم الاتفاق بشان الملء والتشغيل لسد النهضة يهدد نصف تعداد سكان السودان مع تأكيد على انه تم الوصول سابقا الى 90% من البنود الفنية وتبقت 10% تمثل المسائل القانونية ولم يتم التوقيع عليها وان ما يحدث من اثيوبيا هو انها تريد فرض الامر الواقع في عمليات الملء بشكل احادي دون التوصل الى اتفاق، إضافة على ذلك أكد السودان ان اهمية الوصول الى اتفاق تكمن في ان عدم الاتفاق قد يؤدي الى أن يتسبب سد النهضة في تأثير كبير على النظام الهيدرولوجي بالكامل للنيل الأزرق ومن الممكن ان يسبب آثار سلبية كبيرة في السودان اذا تم الملء بدون اتفاق وان تلك الاضرار سوف تمتد الى قطاع الزراعية الفيضية التي تعتمد على الفيضان
وجهة النظر الإثيوبية:
ترى إثيوبيا ان التفاوض بشأن سد النهضة لا يبطل حقها السيادي في بناء السد وتشغيله أو إقامة أي مشروع آخر لتنمية الموارد المائية وأن حق إثيوبيا في ملء سد النهضة وتشغيله لا يتوقف على موافقة مصر والسودان، كما تطالب دولتي المصب بالتوقيع والتصديق على اتفاق الإطار التعاوني الخاص بحوض النيل وان نطاق الحوض لا يضم أي معاهدة تنظم العلاقات بين دول نهر النيل وبالتالي لا يوجد أي إلتزام نابع من القانون يأمر بالتفاوض بشأن سد النهصة او أي مشروع اخر، وفيما يتعلق بمسائل الجفاف ترفض حيث تعتبر ذلك إلقاء عبء التخفيف من آثار الجفاف على كاهلها وسوف يؤدي الى طول المدة اللازمة للملء الاول للسد.
فرص التوافق:
من واقع الخلافات الفنية بين الدول الثلاث تحديدا بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة اخرى يتضح ان الخلاف يندرج في ثلاثة امور هامة:
الأول وهو الجانب التقني المتعلق بعملية ملء وتشغيل السد خلال سنوات الجفاف حيث تطالب مصر والسودان بتمرير كميات من المياه تقوم بتعويض ما تم حجز جزء منه في السنوات السابقة للجفاف دون المساس بقدرات السد كهربيا أي ان المسألة لا تؤثر على التوليد الكهربي للسد ، حيث تطالب مصر بوضع حد للملء عند منسوب 603 م فوق مستوى سطح البحر بسعة تبلغ 24.7 مليار متر مكعب من المياه في خزان سد النهضة خلال سنوات الجفاف المطول وهي تلك السعة التي تم التوافق عليها خلال مفاوضات الولايات المتحدة الأمريكية أي أن تشغيل التوربينات سوف يتم بنسبة 80 % بالفعل دون ضرر ملموس على اغراض التنمية الإثيوبية مع ملاحظة ان الحد الذي تطالب به مصر والسودان نسبة حدوث الجفاف المطول خلاله قليلة جدا تاريخيا، وفي المقابل تطلب اثيوبيا أن يكون الحد عند منسوب 610 م فوق مستوى سطح البحر بسعة تبلغ 30.8 مليار متر مكعب، من الممكن أن يحدث توافق في تلك النقطة ان كانت هناك رغبة من اثيوبيا خصوصا أن تلك الفرضية التي تم طرحها فرص حدوثها ضعيفة جدا لكن طرحها ضرورة لضمان عدم حدوث ضرر كبير على دولتي المصب في ضوء تأكيد إثيوبيا على أن إستخدام المياه في السد لأغراض كهربية فقط.
الثاني وهو الجانب القانوني المتعلق ببنود الإتفاق النهائي لملء وتشغيل السد حيث تطالب مصر والسودان بضرورة إلزامية الإتفاق والوصول الى حل نهائي لأي قضية عالقة خلال تفسير البنود او حدوث ضرر يتسبب فيه السد في حال عدم إلتزام إثيوبيا بالتنسيق وتبادل البيانات، في المقابل إثيوبيا ترفض إلزامية في الإتفاق وترغب في أن تستمر المناقشات في حال حدوث ازمة وأن يصدر القرار النهائي لحل الأزمة بضرورة توافق جميع الاراء من الدول الثلاث دون صدور ما يدين الطرف المتسبب في ضرر أو تعويض الطرف المتضرر، وهنا تتسع فجوة الخلافات بين الدول الثلاث.
الثالث وهو اشتراط اثيوبيا وضع بند في الإتفاق يتطلب ربط اتفاق سد النهضة بإتفاق مع دول حوض النيل على أن يتم إلغاء اتفاق سد النهضة في حال عدم إلتزام مصر والسودان بتوقيع إتفاق حصص مع دول الحوض وهو ما ترفضه مصر والسودان لأن القضية الخلافية تتعلق بسد على النيل الازرق يتشارك فيه ثلاث دول فقط من دول حوض النيل، وهنا أيضا تتسع فجوة الخلافات.
استنتاج:
فرص التوافق بين الدول الثلاث تستلزم تقديم خطوات من جانب اثيوبيا في ضوء إقدامها المستمر على خطوات انفرادية دون الرجوع الى دولتي المصب وقد ظهر ذلك منذ الاعلان عن مشروع سد النهضة في ابريل 2011 وما تلاه من اعلانات عن تغيير مجرى النهر في مايو 2013 وإعادة مجرى النهر في ديسمبر 2015 وبدء الملء الأول 2020 وبدء الملء الثاني 2021 وتشغيل أول توربين بالسد فبراير 2022.
خلال السنوات الماضية قامت مصر والسودان بالإنخراط في جلسات المفاوضات سواء بين الدول الثلاث أو من خلال الوساطة الأمريكية والبنك الدولي وما تلاها من رعاية الاتحاد الافريقي مع تقديم الملف أيضاً الى مجلس الأمن الدولي ورغم ذلك لم تصل تلك المفاوضات الى نقطة يمكن من خلالها أن نقول أن هناك توافق قد يحدث في القريب العاجل، خصوصا وأن إثيوبيا مازالت تنتهج الخطوات الأحادية. لذلك تتضائل فرص الوصول الى اتفاق بين الدول الثلاث بالتوازي مع اجراء اثيوبيا الحالي بتنفيذ عملية ملء اضافية بالسد للعام الثالث على التوالي بدون توافق.
*هاني إبراهيم - الباحث في الشأن الأفريقي وحوض النيل