غيّر التحرك التركي الأخير المتمثل في توقيع مذكرات تفاهم مع حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، في 3 أكتوبر الجاري (2022)، دفة الانطباع الذي تشكل فى الفترة السابقة حول تبني تركيا سياسة متوازنة تجاه الأزمة الليبية، حيث أبدت نوعاً من الحياد المزعوم تجاه أطراف الأزمة، حتى إنها استقطبت بعض الأطراف التي كانت لديها مآخذ على سياستها، لتعود أنقرة مرة أخرى إلى سياسة تغليب المصالح الخاصة على حساب السيادة الوطنية الليبية، وافتعال الأزمات التي تضاعف من حدة الانقسام السياسي الليبي. وعلى المنوال ذاته، فإن تلك الخطوة كاشفة عن عدم واقعية تغير السياسة الخارجية الإقليمية لتركيا.
فقد وقّعت تركيا ثلاث مذكرات تفاهم مع حكومة الوحدة، في مجالات الطاقة والأمن والإعلام. وتستند اتفاقية الطاقة إلى اتفاق سابق لترسيم الحدود البحرية ما بين الجانبين في ظل حكومة الوفاق السابقة عام 2019. أما بالنسبة للمذكرة الأمنية، فعلى الأرجح تتعلق بتأمين خطوة العمل في مجال الطاقة، فقد طور الجانبان العلاقات الأمنية خلال الفترة الانتقالية، بما لا يتصور معه أن هناك حاجة إلى المزيد من الاتفاقيات الأمنية، الخاصة بالتدريب، وربما التسليح، حيث عملت أنقرة على تطوير غرف العمليات الأمنية وتقديم دعم لرئاسة أركان غرب ليبيا تحت عنوان بناء الجيش، وهو ما أكد عليه خلوصي آكار وزير الدفاع التركي في زيارته الأخيرة إلى ليبيا.
دوافع متبادلة
ويرتبط هذا السياق بالدوافع المتبادلة للأطراف الموقعة للمذكرات. إذ من المتصور أن إقدام حكومة الدبيبة على هذه الخطوة يعكس حاجتها إلى الاعتماد على أنقرة لضمان بقائها في طرابلس بقوة السلاح وليس بقوة القانون أو المشروعية التي تفتقر إليها بعد انتهاء المرحلة الانتقالية رسمياً في يوني الماضي، وذلك على غرار ما جرى في معركة 27 أغسطس الماضي، حينما شنت الطائرات من دون طيار التركية هجمات على محاور حركة الفصائل المسلحة الداعمة لحكومة فتحي باشأغا المكلفة من البرلمان وعرقلت وصولها إلى العاصمة طرابلس، وعززت أنقرة وحكومة الوحدة الإجراءات الأمنية الكفيلة بإحباط محاولات مماثلة من خارج طرابلس العاصمة.
فى المقابل، من المتصور أن أنقرة سعت إلى استثمار حالة حكومة الوحدة، في إبرام اتفاقيات جديدة، فوجود حكومة غير متوافقة مع البرلمان يسهل فرصة توقيع اتفاقيات من دون اللجوء إلى المسار الطبيعي الذي تنتهجة كافة الدول، ومن بينها تركيا نفسها، حيث أن الاتفاقيات الأمنية، لاسيما الخاصة بانتشار عسكري تركي في ليبيا، تتطلب موافقة البرلمان التركي أولاً، ومع كل تجديد لهذه التواجد يتعين على الحكومة التركية العودة إلى البرلمان للحصول على موافقته.
على الجانب الآخر، يعتقد أن كل تحرك في شرق المتوسط يتعلق بملف الطاقة يشكل دافعاً لتركيا للتحرك على الساحة الليبية، وربما يمثل توصل لبنان وإسرائيل إلى تفاهم بشأن ترسيم الحدود هذا الدافع.
يضاف إلى الدوافع أيضاً، تصور تركيا بأن القوى الأوروبية والدولية يمكن أن تمرر الاتفاق الخاص بالطاقة في ظل الحاجة إليها من جانب أوروبا بسبب الأزمة الروسية-الأوكرانية. وربما بصيغة أخرى، تسعى تركيا إلى انتهاز فرصة احتياجات سوق الطاقة الأوروبي لتمرير مثل هذه الخطوة، بغض النظر عن ما تشكله من عواقب بالنسبة لكل من اليونان وقبرص، وبالتالي تتمكن بالأساس من تمرير اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا بفعل الأمر الواقع.
كذلك كشفت تقارير عن مسعى تركي آخر للتحول إلى مقاول رئيسي للغاز، من خلال تمرير خط الغاز النيجيري عبر ليبيا إلى شرق المتوسط تحت إشراف تركي، فيما كان مقرراً أن يمر هذا الخط عبر كل من الجزائر والمغرب، وبالتالي انتهزت تركيا التوتر ما بين الجارتين، إضافة إلى أن مرور هذا الخط عبر ليبيا سيوفر نحو ألف كلم تقريباً من أنابيب نقل الغاز وفقاً لوزير النفط في حكومة الوحدة.
ارتدادات عكسية
لكن هل يمكن ترجمة تلك الدوافع والرغبات من جانب تركيا وحكومة الدبيبة إلى أمر واقع؟
ثمة سياقات عديدة طرحت حول عدم مشروعية الاتفاقيات مع حكومة الوحدة بشكل عام، وقدم مجلس النواب الليبي في مراسلاته إلى الأمم المتحدة والجامعة العربية حججاً قانونية واضحة في هذا الصدد. لكن من الناحية الفعلية، قد تكون هناك ارتدادات عكسية لهذا المسار.
فبالنسبة لحكومة الوحدة، فإن الإجراء الذي أقدمت عليه أعاد إلى الأذهان سياسات حكومة الوفاق التي كانت محلاً لمعارضة شريحة كبيرة من الليبيين بسبب إفساح المجال للتدخل التركي في الشأن الليبي، لاسيما ما يتعلق بمسألة السيادة الوطنية، وهو ما يهدر محاولة حكومة الوحدة استقطاب قطاع من الجماهير عبر بعض الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها مثل مِنح الزواج وقروض الشباب وزيادة معاشات المتقاعدين إلخ، مع الأخذ في الاعتبار أنها تعرضت لضربة أخرى تتمثل في اتهامها بالفساد المالي وفقاً لتقرير ديون المحاسبة.
من زواية أخرى، ربما سبقت الإشارة إلى أن تركيا تعزز الانقسام في الداخل الليبي. لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى طبيعة الانقسام الحالى بشأن هذا الموقف، وهو نمط مختلف عن سياق الانقسام السياسي الجهوي التقليدي فى إطار الخبرة والتجربة الليبية. فقد أصبحت الحكومة في جهة وباقي الأطراف الأخرى في جهة أخرى، حيث عارض المجلس الرئاسي الاتفاق بدعوى أنه كان يتعين على حكومة الوحدة مشاورته في الأمر، وربما تجاهل تركيا للمجلس الرئاسي رغم لقاء الوفد التركي مع المجلس سيعزز هذا الخلاف ما بين حكومة الوحدة والرئاسي، وهو الانقسام في المواقف الذي سيكون له تداعيات سلبية على الأولى، وهو السياق ذاته بالنسبة للمجلس الأعلى للدولة، إذ غالباً ما كانت المعارضة لحكومة طرابلس تأتي من مجلس النواب، وهو ما حدث بالفعل برفض أكثر من 90 نائباً للاتفاق، لكن أن يقوم أكثر من 70 نائباً من مجلس الدولة بإعلان رفضم للاتفاقيات هو معطى جديد كاشف عن حجم المعارضة السياسية لسلوك حكومة الوحدة وتركيا على حد سواء.
ويمكن التطرق إلى زاوية أخرى في سياق الترجمة العملية للاتفاقيات، تتعلق بحجم المعارضة الدولية والإقليمية للاتفاقيات الجديدة، مع الأخذ في الاعتبار نقطة جوهرية وهى إقدام تركيا وليبيا في السابق على الإعلان عن ترسيم الحدود–بغض النظر عن التفاصيل الخاصة بأن حكومة السراج لم يتجاوز دورها حيز التوقيع على الاتفاق المعد سلفاً من الجانب التركي وهو ما يشير إليه نص المذكرة التي عرضتها إدارة الاتصال في رئاسة الجمهورية التركية عام 2020 والتي تبرر إقدام تركيا على تلك الخطوة بزعم وجود بيئة إقليمية معادية لها، دون أن تسلط الضوء على عوائد هذا الأمر بالنسبة لليبيا سوى من خلال عبارات إنشائية-. إذ ستشكل هذه المعارضة عائقاً أمام إمكانية تحول تركيا إلى مقاول للغاز في أوروبا رغم الأزمة الحالية، بالإضافة إلى أن خطوة تعديل المسار النيجيري لا تزال فى حيز الأقاويل، ولا يمكن لأنقرة القفز إلى هذه الخطوة وتجاهل الاتفاق مع الجزائر، أو أن تتم صفقة من هذا النوع على حسابها.
في الأخير، من المتصور أنه لا يمكن بناء خطوة الاتفاق على أرضية هشة تفتقر للمشروعية. كما أنه على الرغم من هشاشة الحالة السياسية، لكن في الوقت ذاته كشفت الاصطفافات الجديدة عن ترجيح كفة القوى المعارضة للاتفاق في الداخل الليبي، وعلى الصعيد الإقليمي. لكن ربما تكون الخطوة الأهم هي الإسراع في التوصل إلى خطة عمل سياسية جديدة تغير الواقع السياسي الراهن في ليبيا، خاصة وأن أزمة القاعدة الدستورية عالقة في مواد محدودة، بعد أن صوت المجلس الأعلى للدولة لصالح المواد التوافقية مع مجلس النواب، بالإضافة إلى الدور المرتقب الذي ينتظر أن تلعبه البعثة الأممية بحيث يشكل الخطان إنتاج عملية سياسية تقود إلى انتخابات واختيار حكومة تنهي حالة الانقسام السياسي، كما تخضع الحكومة للمسئولية والمحاسبة أمام البرلمان والجهات الرقابية وتحول دون انفراد طرف بقرار سيادي من دون اللجوء إلى القنوات الطبيعية لاتخاذ مثل هذا القرار، فالأزمة الحقيقية في ليبيا تتمثل فى فشل عملية الانتقال السياسي التي تُغرِق بدورها ليبيا في مستنقع الأزمات.