بعد ما كان أحد أهم عوامل تطوير العلاقات والروابط بين روسيا وأوروبا، يبدو أن خط “نورد ستريم” سيكون أحد أهم عوامل ليس توتر العلاقات فقط، بل وربما القطعية أيضاً، بعد استخدامه كورقة أو حتى سلاح استراتيجي في الحرب الدائرة في أوكرانيا. فقطع روسيا إمدادات الغاز التي تمر عبر هذا الخط الحيوي إلى أوروبا يعد تطوراً خطراً من وجهة نظر أوروبا ليس لأنه يفقدها (روسيا) المصداقية كشريك تجاري موثوق به فقط، ولكن لأنه قد يؤدي إلى تغيير الخريطة الجيواستراتيجية للغاز في أرواسيا وربما العالم كله أيضاً. ومع تفاقم حدة الصراع ودخوله مرحلة أكثر تعقيداً، وتراجع آفاق الحلول السلمية خاصة بعد ضم روسيا أربعة أقاليم أوكرانية، فإن هناك احتمالاً بالفعل أن تصبح هذه الخطوط التي استثمر بها الكثير في مهب الريح، لا سيما إذا ما التزم الأوروبيون – كما هو واضح الآن – باستراتيجية التخلي عن الغاز الروسي بشكل نهائي. فما أهمية “نورد ستريم” الاقتصادية والجيواستراتيجية؟ وهل ستتمكن أوروبا من الاستغناء فعلاً عن الغاز الروسي؟ وما البدائل الممكنة؟
الإشكاليات الرئيسية
تعتمد أوروبا بشكل كبير على “نورد ستريم 1” لضمان إمدادات الطاقة، فهي تحتاج إلى أكثر من 100 مليار متر مكعب من الوقود النقي سنوياً، يأتي 40% منه من روسيا عبر هذا الخط. وبينما كان يعد أحد أهم مشروعات التقارب بين روسيا وأوروبا، فقد أصبح الخط الآن مثار خلاف وورقة مساومة بعد فرض الغرب عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا رداً على غزوها لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير 2022. فقامت روسيا رداً على العقوبات وموقف الغرب عموماً الداعم جداً لكييف بتخفيض كميات الغاز بنسبة 40% قبل أن تقوم بقطعه عن بعض الدول ولا سيما ألمانيا ما ألحق ضرراً بالصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة وأدى إلى رفع أسعار الغاز ومن ثم دفع أسعار السلع الأساسية إلى الارتفاع بشكل غير مسبوق.
وبالطبع قدمت شركة “غازبروم” الروسية المملوكة للدولة أسباباً غير ذلك لتوقف الإمدادات، حيث عزته إلى حجة صيانة الأنابيب، ولكن هناك اعتقاداً سائداً لدى المراقبين بأن ذلك ما هو إلا محاولة من روسيا لابتزاز أوروبا.
أما فيما يتعلق بخط “نورد ستريم 2” الذي اكتمل تشييده عام 2021، فلم يتم اعتماده من قِبل الحكومة الألمانية، على خلفية التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا؛ لذلك فإن مستقبل هذا الخط ومشروع “نورد ستريم” بأكمله قد يكون في مهب الريح إذا ما استمرت الحرب في أوكرانيا وواصلت روسيا استخدام الغاز كورقة ضغط على أوروبا؛ هذا فضلاً عن موقف الولايات المتحدة التي عارضت الخط من الأساس وفرضت عقوبات على الشركات العاملة فيه.
هذا الوضع يدفع أوروبا لإيجاد حلول جذرية، وفي مقدمتها بالطبع البحث عن بدائل للغاز الروسي، خاصة أن روسيا أصبحت من وجهة نظرهم طرفاً غير موثوق به، ولا يمكن رهن مستقبل القارة وحاجتها الماسة للغاز بروسيا. ولكن تقليل الاعتماد على الوقود الروسي، على الأقل، في المدى المنظور أمر صعب ودونه تحديات، حيث لن يكون تأمين بدائل مستدامة مهمة سهلة. فلا توجد أي بنية تحتية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من المصدِّرين الرئيسيين؛ فالقارة مثلاً ليس لديها موانئ متخصصة ذات سعة كافية أو منشآت لاستيراد الغاز الطبيعي المسال والإنشاء سيحتاج إلى وقت وغير ممكن قبل حلول الشتاء.
فضلاً عن ذلك، فإن مشكلة أوروبا لن تُحل بإيجاد بدائل مؤقته؛ ذلك أن الدول المرشحة لتعويض النقص والاستغناء عن الغاز الروسي تقع في مناطق فيها تحديات أمنية واستقرارها الدائم غير مضمون ومن ثم فإن تأمين أنابيب الغاز لن يكون أمراً سهلاً. وهو ما يزيد من أهمية “نورد ستريم” ويجعل من الصعب على أوروبا التعويض فعلاً وعملياً؛ وقد تدخل خططه الحالية لإيجاد البدائل في باب الضغوط على روسيا، على أمل أن يتغير الوضع وتتراجع روسيا وهو كما يبدو غير متوقع، أو حتى يتغير الحكم فيها، وهو أمر يبدو بعيد المنال على الأقل في المدى المنظور، ولا يمكن للغرب واقعياً التعويل عليه، لذلك فأوروبا في الحقيقة تواجه معضلة حقيقية فيما يتعلق بالطاقة قد تتطلب منها التراجع، أو إذا ما أصرت على المضي قُدُماً في القطيعة مع روسيا، تغيير النهج العام للتعامل مع المناطق المرشحة كبديل وهي الشرق الأوسط وأفريقيا بحكم قربهما الجغرافي وإمكانية الحصول على الغاز بأسعار معقولة على عكس ما هي الحال بالنسبة إلى الواردات من أمريكا الشمالية التي تكلف كثيراً.
اعتراضات وتحديات أخرى
مشكلة “نورد ستريم” بالنسبة إلى أوروبا لم تكن وليدة الصراع الحالي في أوكرانيا، وقرار روسيا تقليلها إمدادات الغاز إليها أو قطعها عنها؛ له إشكاليات أخرى. فالمشروع في الحقيقة نقطة خلاف جوهرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث اعترضت عليه واشنطن بحجة أنه سيجعل أوروبا تعتمد بشكل كبير على روسيا، ما يزيد من تأثير موسكو سياسياً على الدول الأوروبية. وقد سبق وعبّـرت الولايات المتحدة عن القلق من أن روسيا قد تستخدم الغاز كسلاح جيوسياسي، وهو ما يبدو أن الأوروبيين قد اقتنعوا به مؤخراً. فمنذ بداية الأزمة وحتى قبل اجتياح أوكرانيا، برز “نورد ستريم 2” الذي تبلغ قيمته 11 مليار دولار ليكون في صلب الصراع بين روسيا والغرب، وتحت الضغوط الأمريكية ورداً على تدخل روسيا في أوكرانيا أعلنت ألمانيا تعليق الموافقة عليه بحجة أنه لا يتكيف مع التشريعات الألمانية. كما واجه الخط اعتراضات من دعاة حماية البيئة الذين يجادلون بأنه لا ينسجم مع الجهود الأوروبية لتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري ومواجهة تغير الطقس المحلي.
مشروع “نورد ستريم”: ماهيته وأهميته
ما هو “نورد ستريم”؟
يطلق اسم “نورد ستريم” على شبكة خطوط أنابيب الغاز الطبيعي التي تنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا. ويعد “نورد ستريم” أطول شبكة خطوط أنابيب تحت سطح البحر، وهو مملوك بشكل رئيسي لشركة “غازبروم” الروسية، ويقع مركز التحكم الرئيسي فيه في بلدة زوغ في سويسرا. ويمر مسار “نورد ستريم” عبر المناطق الاقتصادية الحصرية لروسيا وفنلندا والسويد والدنمارك وألمانيا، وكذلك المياه الإقليمية لروسيا والدنمارك وألمانيا. ويشير اسم “نورد ستريم” أحياناً إلى شبكة خطوط أنابيب أوسع، بما في ذلك خط أنابيب التغذية البري في روسيا، ووصلات أخرى في أوروبا الغربية.
يتألف “نورد ستريم” من خطين رئيسيين: الأول يسمى “نورد ستريم 1” (NS1) ويبلغ طوله 1222 كيلومتراً (759 ميلاً)، ويتكون بدوره من خطين فرعيين، الأول تم تدشينه في 8 نوفمبر 2011؛ والثاني في 8 أكتوبر 2012. ويمتد الخط من فيبورغ في شمال غرب روسيا بالقرب من فنلندا، ويصل إلى لوبمين في ولاية مكلنبورغ- فوربومرن شمال شرق ألمانيا.
والخط الثاني هو “نورد ستريم 2” (NS2) ويبلغ طوله 1234 كيلومتراً (767 ميلاً) وهو الأطول في العالم، ويتكون من خطين فرعيين أيضاً: انتهى العمل في الفرع الأول في يونيو 2021 بينما تم إنجاز الثاني في سبتمبر من العام نفسه. ويمتد الخط بين أوست لوغا في شمال غرب روسيا بالقرب من إستونيا، وغرايفسفالد في شمال شرق ألمانيا، ويهدف إلى إيصال الغاز الطبيعي إلى وسط أوروبا عبر بحر البلطيق.
ولدى كل من (نورد ستريم 1 و2) القدرة على التعامل مع 55 مليار متر مكعب من الوقود سنوياً وهذا يكفي لتلبية الطلب على الطاقة لأكثر من 52 مليون أسرة أوروبية. ويمكن للخطين معاً نقل 110 مليارات من الأمتار المكعبة من الوقود في السنة إلى أوروبا لمدة لا تقل عن خمسة عقود، حيث صممت الشركة خطوط الأنابيب لتعمل لمدة 50 عاماً على الأقل.
أهمية “نورد ستريم”
يحظى خط أنابيب “نورد ستريم” بأهمية اقتصادية كبيرة لكل من روسيا وأوروبا على حدٍّ سواء، فهو بالنسبة إلى روسيا يضمن لها سوقاً استهلاكية ضخمة يصعب تعويضها ويوفر لها أموالاً طائلة، حيث ينقل خط “نورد ستريم 1” وحده 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً من روسيا إلى أوروبا. أما بالنسبة إلى أوروبا فهو أساسي لتحقيق أمن الطاقة في القارة، بل ويوصف بـ “حبلها السري” لأنه يرفدها بجزء كبير وأساسي من الطاقة التي تحتاجها. ففي عام 2021، زودت روسيا الاتحاد الأوروبي بـ 40% من احتياجاته من الغاز الطبيعي من خلال “نورد ستريم 1”.
والتفاصيل هنا ضرورية لأنها تعطي صورة أشمل وأدق عن مدى حيوية الخط للأوروبيين. فهناك دول تعتمد بشكل كامل على الغاز الروسي، وهي مقدونيا والبوسنة والهرسك ومولدوفا، بينما تجاوزت نسبة الاعتماد على إمدادات الغاز الروسي، لدول أخرى مثل فنلندا ولاتفيا الـ 90%، في حين وصلت إلى 89% بالنسبة إلى صربيا. أما بلجيكا فبلغت نسبة تبعيتها للغاز الروسي 77%، وألمانيا 49%، وإيطاليا 46%، وبولندا 40%، وأما فرنسا فوصلت النسبة إلى 24%. ويعد اعتماد هولندا ورومانيا قليلاً نسبياً مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، حيث يعتمد كل منها على 11% و10% على التوالي، بينما بلغت نسبة اعتماد جورجيا على الغاز الروسي 6% فقط. وهناك دول لا تعتمد مطلقاً على الإمدادات الروسية وهي آيرلندا وأوكرانيا التي تحصل على الغاز الطبيعي من الاتحاد الأوروبي منذ عام 2015 وذلك بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.
ويتسم مسار الاعتماد بالصعود، حيث ارتفع حجم الغاز الطبيعي الذي استوردته دول الاتحاد الأوروبي من روسيا منذ عام 2015 من 124.3 مليار متر مكعب إلى 152.6 مليار متر مكعب في عام 2020، استحوذت ألمانيا على ثلثها تقريباً، ولهذا فإن وقف الغاز الروسي وتعطيل الأنابيب يمثل تحدياً حقيقياً لأمن الطاقة في أكبر اقتصاد أوروبي ورابع أكبر اقتصاد عالمي. أما “نورد ستريم 2” (NS2) الذي يتبع مساراً مشابهاً لخط أنابيب “نورد ستريم 1″، فإذا ما تم تشغيله فسوف يضاعف الحجم الإجمالي إلى 110 مليارات من الأمتار المكعبة في السنة، لذا فقد وُصف بأنه حيوي لتعزيز أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي أيضاً.
تأثير قطع الإمدادات على أوروبا
بالنظر إلى الأرقام السابقة التي تشير إلى مدى درجة الاعتماد الأوروبي الواسع على الغاز الروسي، لا شك أن قطع إمدادات الغاز المفاجئ سيؤثر بشكل كبير على أوروبا ولا سيما الدول التي تعتمد بشكل وازن على الغاز الروسي. فمن المقرر أن تنخفض واردات الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب الروسية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 45% في عام 2022. وهذا التراجع الكبير له تداعيات خطرة على الأوروبيين، فهو يرفع كلفة فاتورة الطاقة بشكل قياسي، ويعرض الكثير من الصناعات والشركات لخطر التوقف أو تخفيف إنتاجها، ويفاقم التضخم بل ويرفعه لمستويات قياسية، وقد يؤدي بالنتيجة إلى حالة ركود عام في أوروبا. ومن المحتمل أن تخسر المجر وسلوفاكيا والتشيك وإيطاليا وألمانيا ما يزيد على ما بين 2% – 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي العام المقبل. وإذا ما تمكّن الاتحاد الأوروبي من التوصل إلى استجابة متزامنة لإيجاد إمدادات بديلة وإتاحتها للدول الأعضاء جميعها، فيمكن التخفيف من حدة الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي إلى ما بين 0.5% – 1%.
بدائل أوروبا المتاحة للغاز الروسي
لطالما كانت مسألة الطاقة أمراً يؤرق أوروبا لأنها تفتقد الموارد الحيوية فيها وهي النفط والغاز؛ وقد مثل البحث عن مصادر ثابتة أمراً حيوياً، وربما كانت روسيا ذلك المصدر الذي يُعدُّ الأقرب والأقل كلفة وربما كان يعتبر الأكثر ديمومة خاصة أن خطوط الغاز من أوروبا وإليها جاءت في سياق تطور العلاقات بين الجانبين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. كما كانت هناك شكوك حول هذا التوجه لأوروبا من داخل أوروبا نفسها أيضاً. أما فيما يتعلق بالموقف الأمريكي الرافض دائماً لاستيراد الغاز من روسيا فهو كما يبدو مرتبطاً بخوف واشنطن من أن يسهم ذلك في تقليل الاعتماد عليها أكثر من كونها تخشى من ارتهان أوروبا لروسيا، الحجة التي دائماً ما يسوقها الأمريكيون لتبرير موقفهم من خط “نورد ستريم 2” وفرض عقوبات على الشركات العاملة فيه.
وبغض النظر عن هذه الحجج كلها فلا شك أن اعتماد أوروبا على مصدر واحد رئيسي للغاز أمر محفوف بالمخاطر ولا حاجة لحجج كثيرة لتأكيد ذلك. فما حدث بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما قامت به روسيا من قطع إمدادات الغاز إلى أوروبا حتى إن كانت الأسباب الرسمية تقنية أو فنية، فهو أكبر دليل على ذلك. ومن هنا لا عجب أن يسارع الأوروبيون إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي. بل وربما تعد هذه فرصة تاريخية لأوروبا ليس للتخلي عن الغاز الروسي فقط، ولكن للبحث عن بدائل مستدامة أيضاً. وفي هذا السياق فقد تبنّـت المفوضية الأوروبية منذ بداية الأزمة خطة إلى خفض الاعتماد على الغاز الروسي عن طريق زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال من دول أخرى والتشغيل التدريجي للغازات البديلة مثل الهيدروجين والميثان الحيوي. وتعمل أوروبا الآن على مسارين: القريب والبعيد.
البدائل الممكنة على المدى القصير
تسابق أوروبا الزمن من أجل توفير بدائل للغاز الروسي في المدى القريب وقبل حلول فصل الشتاء. وفي هذا السياق هناك مساعٍ متواصلة للحصول على الغاز من بعض الدول الأفريقية ودول الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية.
ويقدر صندوق النقد الدولي، مؤخراً، أن المصادر البديلة يمكن أن تحل محل ما يصل إلى 70% من الغاز الطبيعي الروسي على المدى القصير، لمدة ستة أشهر تقريباً. ويشمل الاستبدال واردات أعلى من الغاز الطبيعي المسال، لا سيما من الولايات المتحدة، التي أرسلت 64% من إجمالي صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة خلال النصف الأول من عام 2022 (مقارنة بنسبة 30% في نصف عام 2021). وهناك مساعٍ لتوفير الغاز من دول أوروبية مثل النرويج، ويجري التفاوض مع دول أخرى من خارج أوروبا لسد النقص في المدى القريب، حيث تتواصل الجهود الأوروبية والألمانية على وجه الخصوص للحصول على الغاز من الشرق الأوسط ودول أفريقية. وقد وقّعت ألمانيا بالفعل اتفاقيات للحصول على الغاز المسال من دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر.
وتُبذل جهود كبيرة لملء مخزون الغاز الطبيعي قبل أكتوبر، حيث حدد الاتحاد الأوروبي كهدف 80% من سعة التخزين بحلول 1 نوفمبر المقبل. ويبلغ الاتحاد الأوروبي حالياً 67% من طاقته، على الرغم من اختلاف الأرقام بشكل كبير من دولة إلى أخرى، فبلغاريا مثلاً وصلت نسبة التخزين فيها إلى 46%، وألمانيا إلى 68%، وبولندا إلى 99%.
ولكن بالطبع هناك تحديات وصعوبات في هذا السياق، فالدول المنتجة ليس لديها احتياطات كبيرة يمكن تحويلها إلى أوروبا بسهولة؛ فضلاً عن ضعف البنية التحتية في العديد من الدول الأوروبية التي لا يوجد لديها موانئ وإمكانيات جاهزة للتعامل مع الغاز المسال الذي تحتاج إليه سريعاً.
وهناك بالطبع بدائل أخرى غير استيراد الغاز الطبيعي المسال على المدى القصير، ربما يكون أبسط خيار على المدى القصير منها على سبيل المثال تشغيل محطات الطاقة النووية، ولكنها ليست حلاً نهائياً أيضاً، لأنها تتطلب اليورانيوم، الذي يأتي جزئياً من روسيا كذلك، أو محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، والتي لدى ألمانيا عدد منها؛ هذا فضلاً عن إجراءات لترشيد الاستهلاك.
البدائل المستدامة على المدى البعيد
من الواضح أن أوروبا لا تريد سد النقص أو تقليل الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة فقط، ولكنها تسعى إلى التخلي نهائياً عن الغاز الروسي. وقد تحدث الاتحاد الأوروبي بالفعل عن خطط للتخلي تدريجياً عن الغاز الروسي بحلول عام 2030. وهناك دول بالفعل خفضت من اعتمادها عليه حتى قبل الأزمة، مثل المجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا وإسبانيا واليونان وبلغاريا. فقد اشترت البرتغال عام 2020، على سبيل المثال، 56% من غازها المسال من نيجيريا، و17% من الولايات المتحدة، بينما اشترت إسبانيا أكثر من 35% من موارد الغاز من الولايات المتحدة. كما حصلت إيطاليا واليونان على موارد من الغاز من الولايات المتحدة وقطر في عام 2020. وفي السياق ذاته، بدأ تشغيل محطة الغاز الطبيعي المسال في ليتوانيا ليس لتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة فقط، ولكن للتصدير إلى دول قريبة مثل فنلندا والسويد وبولندا أيضاً.
لكن المشكلة الأساسية لن تحل بمثل هذه الصفقات؛ وإنما تحتاج إلى حلول مستدامة وهي بدائل دائمة للغاز الروسي؛ وهذا ما تسعى إليه أوروبا. وهناك في الحقيقة بدائل كثيرة سواء من أفريقيا أو الشرق الأوسط وكذلك شرق المتوسط؛ وهذا التوجه الأوروبي سيزيد من حدة المنافسة العالمية على الغاز، وسيجعله على المدى البعيد أكثر وفرة وسيمكّن أوروبا من الحصول على إمدادات غاز من مصادر متنوعة.
ولكن هذا الأمر ليس سهلاً. فمسألة إيجاد بدائل دائمة تتطلب شراكات قوية وتشييد خطوط أو أنابيب لنقل الغاز من مصادره إلى أوروبا؛ وهو أمر قد يكون ممكناً من الناحية الاقتصادية، حيث توجد فرص كبيرة للاستثمار في هذا المجال المربح. ولكن المشكلة الرئيسية تكمن في السبب الذي دفع الأوروبيين إلى البحث عن بدائل وهو الموثوقية وضمان تدفق الغاز بشكل دائم ودون أن يتأثر بالظروف السياسية أو الأمنية؛ وهو أمر على ما يبدو أنه غير ممكن أيضاً بالنظر الى حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المناطق التي يوجد فيها دول رئيسية منتجة ومصدرة للغاز سواء في الشرق الأوسط أو شرق المتوسط أو أفريقيا. فحالات الاستقرار متقلبة في هذه المناطق وذلك بسبب الأزمات الداخلية التي تعانيها بعض دولها، والخلافات الثنائية لأسباب مختلفة، فضلاً عن استمرار بؤر النزاعات التاريخية. ولكن هل هذا يعني أن تتخلى أوروبا عن هذه الخطط؟
الجواب كلا. فوجود بدائل أخرى للغاز الروسي أصبح أمراً استراتيجياً لأوروبا إذا ما أرادت أن تحقق أمن الطاقة بشكل مستدام. ولكن عليها أن تنظر في أسباب التوترات وحالات عدم الاستقرار التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا أيضاً؛ والبحث عن حلول حقيقية لها عبر التعاون مع هذه الدول في مشروعات التنمية المستدامة ودعمها بشكل سخي حتى تتمكن من تحقيق استقرار مستدام؛ وليس الاستمرار في النهج القديم في التعامل معها كتابع أو كمصدِّر للموارد ومستهلك للصادرات؛ وإلا فإنه لا يمكن ضمان ألا تتعرض أوروبا للأمر نفسه وتكون عرضة لنقص إمدادات الطاقة مرة أخرى.
ولا شك أن أوروبا لن تكتفي بتوفير الطاقة من الغاز عبر بدائل محتملة كثيرة لروسيا، ولكنها ستولي اهتماماً متزايداً بتنويع مصادر الطاقة ولا سيما البديلة؛ حيث ستضطر إلى مضاعفة الاستثمار في إيجاد بدائل طاقة نظيفة؛ وهناك بالطبع خيارات عدة من بينها على سبيل المثال الهدروجين الأخضر المستخرج من الطاقة المستدامة حيث يعد بديلاً واعداً، بينما يعد الغاز الأخضر أو الغاز الحيوي من البدائل المحتملة. ولكن هذه المصادر كلها ستحتاج بالطبع إلى وقت حتى تصبح واقعية وبديلاً عملياً للطاقة الأحفورية.
الخلاصة:
خط “نورد ستريم” حيوي لأمن الطاقة في أوروبا؛ ويمثل أفضل خيار لها من حيث الكلفة بحكم قربه ومروره بأرض ومياه إقليمية أوروبية؛ ولكنه يبدو في ظل التوتر بين روسيا وأوروبا على خلفية الحرب في أوكرانيا وقيام موسكو بوقف الإمدادات سيكون عاملاً حاسماً في تغيير مسار العلاقات الروسية – الأوروبية، حيث يبحث الأوروبيون عن بدائل دائمة للغاز الروسي من دول أخرى في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية ولا سيما الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن ضمان بدائل مستدامة للغاز الروسي لن يكون أمراً سهلاً؛ حيث سيتطلب تغييراً في الاستراتيجيات وبناء شراكات جديدة على أسس عادلة مع المناطق التي يمكن أن تكون بديلاً حقيقياً سواء في الشرق الأوسط أو أفريقيا وذلك من خلال التنمية ومشروعات حقيقية مستدامة. وفيما يتعلق بالمصادر الأخرى من الطاقة البديلة فلا شك أنها حيوية وسيزداد اهتمام -الأوروبيين وغيرهم- بها، ولكنها حلول ممكنة على المدى البعيد جداً وستحتاج إلى عقود طويلة قبل أن تصبح مصادر بديلة للطاقة الأحفورية.