• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
قراءات

وسط موجة الاضطرابات وعدم الاستقرار التي أثارتها الحرب الروسية–الأوكرانية، وما نتج عنها من اختلالات اقتصادية جذرية داخل القارة الأوروبية؛ تبدو الدول الأوروبية أكثر قابليةً للتعرُّض لصدمات مجتمعية جوهرية؛ ما جعل البعض يتحدَّث عن إمكانية مرورها بسيناريو “ربيع أوروبي” مشابه لما شهده العالم العربي خلال السنوات الماضية. هذا وإن كانت مؤشرات الاضطراب السياسي والاقتصادي والمجتمعي في أوروبا آخذة في التزايد بعد سلسلة من الأزمات، أبرزها الأزمة الروسية–الأوكرانية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن انزواء اليمين واليسار التقليديَّين لصالح التيارات المتطرفة، إلا أن ثمة أهمية أن تتزامن هذه المؤشرات الظرفية مع بعض العوامل الهيكلية كي يمكن الحديث عن تغيير ثوري شعبي وإحلال قيمي وأيديولوجي جوهري.

مظاهر التأزُّم

تُواجِه الدول الأوروبية العديد من مظاهر الاضطراب التي ربما تدفع الأوضاع نحو المزيد من عدم الاستقرار، وتتمثل أبرز هذه المظاهر فيما يلي:

1تصاعد مؤشرات الأزمة الاقتصادية: منذ بداية الأزمة الروسية–الأوكرانية على وجه التحديد، شهدت أسعار المواد البترولية والغاز الطبيعي ارتفاعاً ملحوظاً بلغ في بعض الحالات نحو 80% من سعر هذه السلع قبل اندلاع الأزمة، بينما شهدت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً بلغ 60% تقريباً في بعض هذه الدول.

وبحلول فصل الشتاء، ومع توقُّع مزيد من الزيادة في الأسعار، يمكن أن تؤدي هذه الزيادات إلى صعوبات معيشية بالغة، تُحفِّز بدورها على تأجيج الاضطرابات المدنية في جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك الاحتجاجات والتظاهرات في الشوارع. هذا وتُعتبر كل من ألمانيا والنرويج – وفقاً لآخر الإحصائيات ذات الصلة – هما أكثر الاقتصادات المتقدمة التي يمكن أن تعاني من اضطرابات مجتمعية نتيجة موجة الإضرابات النقابية والعمالية المُتوقَّعة، كما شملت قائمة الدول التي لديها أكبر احتمالات المخاطر المجتمعية في أوروبا كلاً من البوسنة والهرسك وسويسرا وهولندا وقبرص وأوكرانيا.

2التغيُّر الجذري في التفضيلات السياسية: خلال الأعوام الخمسة الماضية، وحتى قبل اندلاع الأزمة الروسية–الأوكرانية، بدأت ملامح التغيُّر الجوهري في التفضيلات السياسية الأوروبية في الظهور والتنامي؛ ففي مقابل التنافس التقليدي بين اليمين واليسار الوسطيَّين في الدول الأوروبية الكبرى، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فضلاً عن استقرار نظم الحكم في أوروبا الاسكندنافية في يد التيارات المعتدلة منذ زمن بعيد؛ حققت أحزاب اليمين المتطرف على وجه الخصوص قفزة نوعية فيما يتعلق بارتفاع مستوى شعبيتها، ودخولها كرقم صعب في المعادلات الانتخابية.

فبعدما حقق حزب التجمع الشعبي بقيادة “مارين لوبان” نتائج مبهرة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2017 و2022 دون الوصول إلى الحكم؛ فاز مؤخراً “حزب إخوة إيطاليا” في الانتخابات البرلمانية الإيطالية، لتصبح “جورجيا ميلوني” رئيسة للحكومة الجديدة. هذا ولم يكتسب هذا التحول في إيطاليا الزخم نتيجة فوز حزب يميني متطرف بالأغلبية، ولكن لوصف بعض المحللين حكومة ميلوني بأنها الأكثر يمينيةً منذ عصر “موسوليني”. يُضاف إلى ذلك، نجاح حزب في السويد ذي “جذور نازية جديدة” في استثمار المشاعر المعادية للمهاجرين، وتحقيقه فوزاً بأكثر من 20% من الأصوات في الانتخابات التي جرت في شهر سبتمبر الماضي، وهي كلها عوامل تؤشر على الصعود التدريجي للتغير الجذري في المعادلة السياسية لصالح تفضيلات لم تَحْظَ بالغلبة طوال أكثر من خمسين عاماً ماضية.

3إعادة ترتيب الأولويات العامة: خلال العقدين الماضيين، طغت على الأجندة السياسية للحكومات الأوروبية أولويات الرفاهية الاقتصادية، والتحول نحو الطاقة النظيفة، على اعتبار أن المتطلبات الأساسية للمجتمعات قد تمت تلبيتها بصورة كبيرة، لكن مع تصاعد موجة العمليات الإرهابية في فرنسا وإنجلترا وبلجيكا والنمسا وغيرها، بالإضافة إلى اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية، ناهيك عن تدفقات اللاجئين إثر الحرب في سوريا، والنزوح من أوكرانيا، بدأت تطغى اعتبارات الأمن والاحتياجات الرئيسية (مثل الغذاء والطاقة) على اهتمامات الرأي العام الأوروبي، ومن ثم على خطط عمل الحكومات. هذا وإن كان التغيُّر المشار إليه له ما يبرره، إلا أنه يعتبر من جهة مؤشراً على اهتزاز الثقة بمشروع التكامل الأوروبي الذي أضحى متعثراً في مواجهة التحديات الجوهرية. ومن جهة أخرى يمكن النظر إليه بوصفه تدهوراً في مستويات هرم الاحتياجات الأوروبية، وهو ما قد يستدعي استفاقة استثنائية لعلاج الوضع الراهن، فضلاً عن إعادة النظر في القدرات الأمنية والدفاعية الوطنية لكل دولة من دول الاتحاد.

4عدم استقرار نظم الحكم: لطالما اتسمت النظم السياسية الغربية بقدر من الاستقرار والاستمرارية ورسوخ قواعد اللعبة الديمقراطية، إلا أن أحد مظاهر الهزة المجتمعية التي تعاني منها الدول الأوروبية حالياً، تتمثل في أيدي الحكومات الرخوة، والتقلبات المتسارعة في المناصب القيادية.

ففي بريطانيا، بعدما استقال بوريس جونسون من منصب رئيس الوزراء لتورطه في فضائح أخلاقية، استقالت خلفه “ليز تراس” بعد أقل من شهرين في المنصب نتيجةَ فشلها في تطبيق خطة إصلاح اقتصادية موعودة، كما أن خسارة حزب الرئيس الفرنسي “الجمهورية للأمام” الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التي عُقدت في شهر يونيو الماضي، قد دفعت ماكرون إلى إجراء تعديلات جوهرية في الحقائب الوزارية ومناصب المستشارين للتناسب مع الواقع السياسي الجديد في البرلمان. هذا وقد لُوحظ أن الانتخابات العامة التي عُقدت خلال العام الجاري في الدول الأوروبية الأخرى (المجر وسلوفينيا والتشيك وإيطاليا وبلغاريا والنمسا)، قد أفرزت إما تغييراً جوهرياً في منصب الرئيس أو رئيس الوزراء، أو على أقل تقدير تغييراً مؤثراً في الحقائب الوزارية الرئيسية. ولا تزال دعوات التغيير مستمرة أو آخذة في الزيادة في دول أخرى مثل اليونان وكرواتيا وفنلندا وغيرها.

العوامل الشرطية

لا يعني تكالب هذه العوامل بزوغ “ربيع أوروبي” على غرار ما عُرف بـ”الربيع العربي” بصورة سببية تلقائية ومباشرة؛ فهناك مجموعة من العوامل الشرطية يلزم أن تتزامن مع ملامح الظرف الراهن حتى يتحول إلى ما يشبه الثورة السياسية والمجتمعية المُعمَّمة، ولعل من أهم هذه العوامل الشرطية:

1البناء السياسي للنظم الحاكمة: على خلاف الدول النامية ومعطياتها السياسية، فإن اتباع معظم أوروبا – ورغم التحولات الجذرية لصالح أحزاب اليمين المتطرف والخطاب القومي الشعبوي – نمط الحكم البرلماني، قد يخلق نوعاً من التوازن بين مختلف الفاعلين – إذ يسمح بتمثيل كافة التيارات في الحكومة بشكل نسبي – بالصورة التي تحول دون استئثار شخص أو جهة أو مجموعة من الأفراد بكافة مفاصل الدولة، ومن ثم تحجيم احتمالات نشوء فراغ سياسي يسمح بإشعال ثورات. هذا وتنطبق القاعدة نفسها على النظم الأوروبية نصف الرئاسية التي تنعم فيها المعارضة إما بأغلبية البرلمان، أو بمساحة معقولة للغاية للتعبير عن الرفض والمناوأة.

2التكلفة الاقتصادية للثورات العامة: كان من أهم دوافع الحركات الثورية في الشرق الأوسط، تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور. وبعد نحو 12 عاماً من اندلاع أول حركة ثورية في تونس، أدركت المجتمعات العربية والغربية على حد سواء، أن كلفة الإصلاح الاقتصادي عن طريق نسف الآليات الحاكمة للمجتمعات من جذورها، قد تكون كلفتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكبر بكثير من قدرتها على الصمود والتحمُّل. ولعل الوضع الاقتصادي المتأزم لأغلب الدول العربية التي شهدت حراكاً سياسياً ذا طبيعة ثورية، قد يكون من أهم العوامل الرادعة لقيام الشعوب الأوروبية بحركات ثورية شبيهة، خاصةً أن التدهور الاقتصادي في أوروبا ليس مرجعه فساد النخب الحاكمة في الأساس، بل عوامل داخلية ودولية قد لا تؤدي الثورات العامة إلى تحسينها أو تغييرها، ومن ضمنها الحرب الروسية–الأوكرانية.

3الدعم الخارجي المتوقع للحكومات: في حالات الاضطراب السياسي، تحتاج الحكومات القائمة إلى نوع من الدعم الخارجي السياسي والاقتصادي باعتباره عنصراً محدداً لمدى قابلية هذه الحكومات على الاستمرار أو الانزواء. بشكل عام وفي خضم الحراك الثوري في العالم العربي، ظهرت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية باعتبارها مساندة لبعض الحركات المناهضة لأنظمة الحكم، بل بذلت بعض الجهود لدفع الحكومات القائمة لقبول التغير الجذري أو الرحيل. أما في الحالة الأوروبية، فإن الارتباط الجيوسياسي الوثيق بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح القارة الأوروبية قد يجعل الأولى غير داعمة لأي حركات تهدف للتغيير في حد ذاته، ما دامت النظم الحاكمة ذات طبيعة ديمقراطية بالفعل، وما دام هذا الحراك الثوري المزمع ستكون له عواقب وخيمة على تفكك الاتحاد وربما حلف الناتو في مواجهة الضغوط والمخاطر المتصاعدة من كل من روسيا والصين.

4بقاء مساحة معقولة للتغيير: من ضمن أهم دوافع الثورات هو غياب الأفق السياسي لأي تغيير محتمل على المدى المنظور؛ حيث تندفع حينها الحركات الثورية لقلب موازين المشهد السياسي أملاً في أن يحدث هذا التغير المأمول. في أوروبا، وعلى الرغم من تعقيدات المشهد الحالي على النحو السابق عرضه، لا تزال هناك مساحة معقولة لحدوث التغير المأمول، فإن كان التغير السريع للحكومات والقادة في أوروبا يعد مظهراً غير مألوف في الحياة السياسية الأوروبية، إلا أنه يعد في الوقت نفسه متنفساً ملائماً للتعبير عن التغيرات الجوهرية التي تشهدها هذه المجتمعات.

الخلاصة: رغم وجود ملامح متعددة للاضطراب السياسي والمجتمعي في أوروبا، فإن احتمالات وقوع سيناريو “ربيع أوروبي” لا تزال غير متبلورة في ظل قراءة الوضع الراهن على ضوء العوامل الشرطية الداعمة لهذه الفرضية. هذا وجانب العوامل الشرطية السالفة الذكر، لا يجب إغفال طبيعة التكوين الثقافي والمجتمعي للشعوب الأوروبية، وهو ما يستدعي أخذ الأيديولوجيا الفردية الليبرالية، والتنوع العرقي والثقافي، كعوامل مؤثرة في مدى قابلية هذه المجتمعات على تحفيز أو تثبيط الحركات الثورية.