اتهمت وزارة العدل الأمريكية، يوم 24 أكتوبر الماضي، الحكومة الصينية بمحاولة تنفيذ عملية تجسس كبرى عبر 13 شخصاً، بينهم 10 يعملون مباشرة لمصلحة المخابرات الصينية، وتتضمن تهريب أشخاص ومعدات من مؤسسات أمريكية، وهو الاتهام الذي عكس الجدل المتزايد في الآونة الأخيرة حول أبعاد الحضور الصيني في الدول الغربية، وباتت العديد من الدول الغربية تنظر إلى الصين باعتبارها تهديداً لها؛ فعلى حد تعبير مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي (FBI) كريستوفر راي، خلال مؤتمر علني نادر عقده مع مدير جهاز الاستخبارات الداخلية البريطانية (MI5) كين مالكوم في شهر يوليو الماضي، تشكل الصين خطراً معقداً ومستمراً على الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، وقد حذر المسؤولان في المؤتمر جميع المسؤولين ورجال الأعمال، من تزايد أنشطة التجسس التجاري الصيني في الغرب، محذرين من اتباع أجهزة الاستخبارات الصينية نهجاً متأنياً في سعيها لتطوير وتنويع مصادرها من أجل الحصول على المعلومات التي تحقق أهدافها بالخارج، معتبرين أن الحزب الشيوعي الصيني مهتم بالأنظمة الديمقراطية والإعلامية والقضائية، ليس لتقليدها بل لاستخدامها لمصالحه الخاصة.
هواجس غربية
تسيطر على الدول الغربية هواجس عديدة بشأن أنشطة التجسس الصينية. وبحسب الخطاب الغربي الشائع ترتبط أنشطة التجسس الصينية الموجهة ضد الدول الغربية بعدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- تتبع الأجهزة ومستخدميها عبر وسائل التواصل الاجتماعي: خلال السنوات الأخيرة، وسعت الصين، بحسب التقارير الغربي، بشكل كبير من قدراتها على التنقيب عن وسائل التواصل الاجتماعي الغربية، بما في ذلك فيسبوك وتويتر، بهدف البحث عن الأهداف الأجنبية المحتملة، وهو ما يعد امتداداً مثيراً للقلق حول مدى ذكاء الصين في تتبع العديد من الأجهزة ومستخدميها؛ فعلى سبيل المثال، عرضت شركة هواوي الصينية على طلاب جامعة أكسفورد 15 ألف جنيه إسترليني، في ديسمبر الماضي، كجائزة مالية إذا تمكنوا من حل التحديات المتعلقة بمراقبة وتتبع الأجهزة ومستخدميها، مبررةً بأنه سيتم استخدام هذه التكنولوجيا في الخدمات الأمنية وبيئة الأعمال الذكية، وهو ما يعد خطوة جريئة من شركة لها صلات وثيقة بالحزب الشيوعي الصيني، وتم منعها من شبكات اتصالات “5G” البريطانية لأسباب أمنية، ولكنها لا تزال تسعى إلى البحث عن المعلومات والتكنولوجيا في بريطانيا من أجل تحقيق أهداف الحزب الحاكم في الخارج.
2- التخوفات الغربية من الاختراق الاقتصادي: تتهم الدول الغربية الصين بتجنيد عناصر تقوم باختراق حواسيب الشركات الغربية، بما يتوافق بشكل وثيق مع أهداف التقنيات المتقدمة التي حددها الحزب الشيوعي الصيني بوصفها أداة لقيادة العالم؛ حيث وصف المكتب التنفيذي للاستخبارات الوطنية الأمريكية الجهات الفاعلة الصينية بأنها أكثر مرتكبي جرائم التجسس الاقتصادي نشاطاً واستمراراً في العالم، كما وصف رئيس القيادة الإلكترونية الأمريكية الجنرال كيث ألكسندر، بأن خسارة الولايات المتحدة للملكية الفكرية والمعلومات الصناعية الأخرى من خلال التجسس الإلكتروني تعد أكبر عمليات تحويل للثروة في التاريخ.
وفي العام الماضي، انضمت بريطانيا إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا وحلفاء آخرين في اتهام بكين بالعمل مع الجماعات الإجرامية لخرق أنظمة البريد الإلكتروني لشركة مايكروسوفت؛ الأمر الذي قد أثر على عشرات الآلاف من الشركات الخاصة والعامة في جميع أنحاء العالم. كما حذر التقرير السنوي الصادر عن المركز الوطني للأمن السيبراني في بريطانيا لعام 2021 من أن الحوادث السيبرانية لمؤسساتها الاقتصادية قد سجلت مستويات قياسية، وأن الصين ظلت لاعباً متطوراً للغاية في الفضاء الإلكتروني في ضوء طموحها المتزايد لإبراز نفوذها خارج حدودها واهتمامها المؤكد بالأسرار التجارية لبريطانيا.
3- الاعتماد الصيني على العملاء القوميين: تعد وزارة أمن الدولة هي المسؤولة عن الاستخبارات الأجنبية ومكافحة التجسس في الصين، وهي من أكبر وكالات الاستخبارات في العالم، ويتم تنسيق عمل الاستخبارات بشكل وثيق مع إدارة عمل الجبهة المتحدة (UFWD) التي تركز على عمليات التأثير، والتي تم توسيعها بشكل كبير في عهد الرئيس شي جين بينج. وقد اتُّهمت هذه الوكالة من قبل المسؤولين الغربيين باستخدامها منصة LinkedIn من أجل البحث عن عملاء محتملين بالخارج من العملاء القوميين التقليديين؛ وذلك في محاولة لجذبهم إلى الصين لعقد اجتماعات حول فرص استقطابهم بأجور مجزية قبل عملية تجنيدهم للعمل لصالح وكالة الاستخبارات الصينية. كما تتبنى السلطات الصينية نهجاً فريداً عالمياً، وهو اعتبارها أن العمل في مجال الاستخبارات أمر إلزامي للصينيين بموجب قانون الأمن القومي الصيني، بالتعاون مع جيش التحرير الشعبي؛ لمساعدة السلطات الصينية في الكشف عن أي معلومات أو تطورات تمس أمن الدولة أو سلطات الحزب الشيوعي الحاكم.
4- الشكوك حول دور مراكز الأبحاث والمنظمات الثقافية: أثارت المنظمات الثقافية الصينية شكوك العديد من الدول الغربية؛ حيث تتهم هذه الدول الصين بإقامة الصين شبكة من المنظمات الثقافية والصداقة ذات الاستخدام المزدوج في إطار منظومة التعليم العالي؛ حيث تقوم معاهد كونفوشيوس بتدريس اللغة الصينية ظاهرياً، وفي ذات الوقت تُتهم تلك المعاهد بالتجسس على الطلاب وترهيب النقاد، كما تعتمد بكين في جمع معلوماتها الاستخبارية على مراكز البحوث المشتركة أو تمويل المشاريع البحثية في الدول الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، ارتفع معدل التعاون البحثي بين الصين والمملكة المتحدة بنسبة 115.6% بين عامي 2013 و2019، وكان هناك نحو 15.6 ألف تعاون بحثي في عام 2019؛ ما يجعل الصين والمملكة المتحدة أكبر شريكين بحثيين بعد الولايات المتحدة وألمانيا؛ وذلك بالرغم من إظهار الجامعات البريطانية بعض الفضول أو الشفافية حول مصادر التمويل الغامضة في كثير من الأحيان، فقد سبق أن قبلت جامعة كامبريدج الملايين من الجنيهات الإسترلينية من الحكومة الصينية لإنشاء مركز أبحاث “المدن الذكية” في مدينة نانجينج، الذي تصفه بأنه التعاون الصيني الأكثر طموحاً حتى الآن بين الجانبين.
5- اتهامات للصين بانتهاك حقوق الملكية الفكرية: بالرغم من نفي بكين المستمر تلك المزاعم فإن التقديرات الأمريكية تشير إلى أن عمليات التجسس التجاري الصيني تسرق ما يتراوح بين 500 و600 مليار دولار من حقوق الملكية الفكرية الأمريكية كل عام. ويقدر الاتحاد الأوروبي أن إجمالي تكلفة سرقة بروتوكولات الإنترنت تكلف نحو 50 مليار يورو في المبيعات، مع فقدان أكثر من 670 ألف وظيفة سنوياً، كما سبق أن أصدر رئيسا مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي وجهاز الاستخبارات الداخلية البريطانية تحذيرات شديدة اللهجة لقادة الأعمال بشأن التهديدات التي يشكلها التجسس الصيني، وخاصة التجسس الذي يهدف إلى سرقة الملكية الفكرية لشركات التكنولوجيا الغربية من أجل تعزيز مصالحها والسيطرة على الصناعات الرئيسية.
أهداف رئيسية
بقدر ما تستبطن الاتهامات الغربية للصين بممارسة أنشطة تجسس محاولة من الدول الغربية لإضعاف النفوذ الصيني عالمياً، والتأثير على تحركاتها الدولية، فإن السياسات الصينية في هذا الصدد تستدعي عدداً من الأهداف الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- دعم مكانة بكين الاقتصادية عالمياً: يعتقد البعض أن الصين ستصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، بعد إطاحة الولايات المتحدة عن قمة هذا النظام الاقتصادي العالمي، ولكن الأوضاع الاقتصادية العالمية التي نتجت عن تفشي وباء كورونا واندلاع الحرب الأوكرانية قد يكون لها تبعات سلبية على الحلم الصيني. وأضحت الصين حالياً تهدف إلى تحقيق حلمها بحلول عام 2049، وفقاً لما أوضحته أجهزة الاستخبارات الألمانية، محذرةً من محاولات حصول بكين على المهارات الاقتصادية والعلمية الألمانية، من أجل الوصول إلى المعارف الألمانية عن طريق هجماتها الإلكترونية والسيبرانية ضد الشركات الألمانية، والتي عن طريقها تستهدف الملكية الفكرية للمشروعات الغربية لخدمة طموحاتها الاقتصادية.
2- تأمين الداخل الصيني من شبكات التجسس الغربية: تسعى قوة بكين الاستخباراتية إلى تفكيك عناصر التجسس الغربية على أراضيها؛ إذ سبق أن نجحت شبكات التجسس والمراقبة الوطنية الصينية ومكتب مكافحة التجسس الخارجي الصيني في تفكيك شبكات التجسس الأمريكية في الأراضي الصينية، بل حاصرت بعض ضباط ومخبري وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الذين كانوا في طريقهم لمقابلة عملائهم داخل الصين، وشبكة الجواسيس الأمريكيين في الصين التي تبين فيما بعد أنها كانت تحت سيطرة المخابرات الصينية.
3- إنتاج بيئة دولية مواتية للمصالح الصينية: لا تنفصل سياسات الصين تجاه الدول الغربية عن مساعي بكين لإنتاج بيئة دولية مواتية ومتسامحة Permissive environment مع المصالح والرؤية الصينية. ويظهر ذلك من خلال الدور الذي باتت تلعبه المؤسسات الثقافية الصينية في العديد من الدول الغربية، وكذلك العلاقة مع المجتمعات الأكاديمية الغربية. ولعل نموذج ذلك العرض الذي قدمته شركة هواوي الصينية لطلاب جامعة أكسفورد (15 ألف جنيه إسترليني)، في ديسمبر الماضي، كجائزة مالية إذا تمكنوا من حل التحديات المتعلقة بمراقبة وتتبع الأجهزة ومستخدميها.
تداعيات محتملة
مما لا شك فيه أن الصين باتت تمثل التهديد الرئيسي للغرب، وحلت محل روسيا ومكافحة الإرهاب كمحور لاهتمام أنشطة الاستخبارات الغربية، ومن المتوقع أن تستمر على هذا الوضع خلال العقود المقبلة؛ فبينما يركز المجتمع الدولي على تداعيات الحرب في أوكرانيا، فإن الدول الغربية تتهم الصين بشن هجمات اقتصادية وسياسية واسعة وسرية، تستنزف من خلالها القدرات الاقتصادية والتكنولوجيا المتقدمة لدى تلك الدول؛ الأمر الذي سيعقد مسار العلاقات الصينية – الغربية، قد تصل إلى حد تحجيم مجالات التعاون المختلفة بينهما، خاصة تلك المتعلقة بتدفق الاستثمارات المتبادلة.
بيد أن التحدي الرئيسي الذي لا يزال ماثلاً أمام الغرب، ويصعب إيجاد حل سريع له، هو عدم وجود بديل مماثل ومكافئ للعملاق الصيني وما يقدمه من منتجات أساسية للصناعات الغربية؛ ما قد يعرقل الجهود الغربية على مواجهة التهديدات الصينية الاستخباراتية، ويعزز قدرات بكين لتحقيق حلمها بأن تصبح أكبر قوة اقتصادية عالمياً.