منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعتمد أوروبا بشكل كبير على قوات البحرية الأمريكية لحماية أمنها البحري، لكن في السنوات الأخيرة، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى بناء قوة بحرية خاصة به لحماية مصالحه البحرية، خاصةً في ظل تصاعد الاحتكاكات البحرية في بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وبحر الصين الجنوبي، وفي ضوء هذا نشر موقع "فورين بوليسي" الاميركي مقالاً للكاتب ديفيد بوسكو الأستاذ بكلية هاميلتون لوجار للدراسات العالمية والدولية بجامعة إنديانا، بعنوان: "أوروبا تريد أن تكون قوة بحرية"، ويمكن تناول أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:
تحركات أوروبية
تعتمد أوروبا بشكل كبير على القوات البحرية الأمريكية لحماية أمنها البحري، ومع ذلك تدرك الدول الأوروبية بشكل متزايد أن لديها مصالح بحرية متميزة تحتاج إلى تعاون، ومن أهم مؤشرات ذلك بحسب المقال ما يلي:
1. انطلاق عملية أتلانتا لمكافحة القرصنة في الصومال: بدأت عملية أتلانتا في عام 2008 كواحدة من عدة مبادرات متعددة الأطراف لمكافحة القرصنة المتفشية على سواحل الصومال. وكانت حماية السفن التي تحمل الإمدادات إلى الصومال لبرنامج الغذاء العالمي مهمة رئيسية منذ إنشائها. وإجمالاً، قامت سفن أتلاتنا الحربية برعاية أكثر من 3 ملايين طن من المواد الغذائية والمساعدات للصومال وشاركت في القبض على أكثر من 150 قرصاناً. وتحت قيادة أميرال إسباني، تمتلك أتلاتنا عادة سفينتين أو ثلاث سفن حربية، بالإضافة إلى طائرات دورية متمركزة في جيبوتي. وعادةً ما توفر فرنسا وإيطاليا وإسبانيا السفن الحربية للعملية، لكن الدول الأوروبية الأخرى تشارك في بعض الأحيان حسب المقال.
2. نقل مقر العملية عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: أشار المقال إلى أن مقر عملية أتلانتا كان في الأصل في نورثوود بإنجلترا، ثم انتقلت العملية إلى قاعدة روتا في عام 2019؛ وذلك استجابةً لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وفي إطار ذلك، أرسل معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي موظفين للعمل في مقر روتا في وقت أو آخر. وطبقاً للمقال، يتألف الموظفون الحاليون من موظفين ومدنيين من 16 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، كما قدم بعض الأعضاء من خارج الكتلة، بما في ذلك كولومبيا وكوريا الجنوبية، يد المساعدة.
3. توسع مهام عملية أتلانتا في مراقبة السفن بانتظام: بحسب المقال، يركز الموظفون والمحللون في مركز العمليات على تدفق السفن، ويتحرك معظمهم من قناة السويس والمحيط الهندي وإليهما. وتُظهر الشاشات كبيرة الحجم موقع كل سفينة وسرعتها وعنوانها، وتقوم خوارزمية بتعيين مستوى مخاطر بالألوان لكل سفينة استناداً إلى عوامل تشمل شحنتها وتدابير الأمن على متنها. كما يراقب مركز العمليات موقع السفن الحربية الأخرى، بما في ذلك العديد من السفن الصينية المتمركزة بانتظام في المنطقة، وذلك وفقاً للمقال.
4. نجاحات مهمة في ملفَّي مكافحة القرصنة والمخدرات: يشير المقال إلى أن أتلاتنا حققت نجاحاً باهراً في التصدي للقرصنة؛ إذ انخفض عدد هجمات القراصنة في المنطقة بشكل كبير، من أكثر من 200 في عام 2011 إلى عدد بسيط في السنوات الأخيرة. كما يروج الاتحاد الأوروبي الآن لنجاحاته؛ ليس فقط في قمع القرصنة ولكن أيضاً في مكافحة تدفق المخدرات عبر أجزاء من المحيط الهندي.
5. برنامج أوروبي لمنع وصول الأسلحة إلى داخل ليبيا: يشير المقال إلى أن أتلاتنا ليست العملية البحرية الأوروبية الوحيدة؛ ففي البحر الأبيض المتوسط، يدير الاتحاد الأوروبي برنامج توعية بحرياً مصمماً لمنع وصول الأسلحة إلى ليبيا في انتهاك لقرارات الأمم المتحدة.
6. بدء مهام “الوجود البحري المنسق” للاتحاد الأوروبي: علاوة على ما سبق، افتتح الاتحاد الأوروبي العديد من مهام “الوجود البحري المنسق” لضمان وجود بعض السفن الأوروبية (وإن كانت تحت القيادة الوطنية) دائماً في مناطق الاهتمام المحددة. ومن هذه المناطق – حسب المقال –خليج غينيا، وهو نقطة محورية للقرصنة في السنوات الأخيرة.
7. الإعلان عن الاستراتيجية الأوروبية للأمن البحري: يؤكد المقال أن كل هذه المبادرات جزء من جهد الاتحاد الأوروبي الأوسع لتطوير “سياسة أمنية ودفاعية مشتركة”. وقد برزت الجوانب البحرية لذلك المشروع بشكل متزايد في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2014، أعلنت بروكسل استراتيجيتها الأمنية البحرية الأولى، التي أشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي لديه “مصالح استراتيجية، عبر المجال البحري العالمي، في تحديد ومعالجة التحديات الأمنية المرتبطة بالبحر”. وفي العام الماضي، أصدر الاتحاد الأوروبي ورقة استراتيجية لمنطقة الهندو-باسيفيك، وقام بتحديث استراتيجيته الخاصة بالقطب الشمالي. ومن المتوقع – حسب الكاتب – إصدار نسخة جديدة تماماً من استراتيجية الأمن البحري قريباً.
8. امتلاك الأوربيين قدرات كبيرة لتعزيز الأمن البحري: يشير المقال إلى أن دول الاتحاد الأوروبي لديها ما يكفي من التمويل للعمليات العالمية المنتظمة؛ إذ تمتلك فرنسا وإيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا قوات بحرية قادرة، وتقاليد بحرية مهمة، كما تمتلك فرنسا حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية. وتمتلك إيطاليا ناقلتين تقليديتين، وإسبانيا نفسها تمتلك سفينة خوان كارلوس الأول، وهي سفينة هجومية برمائية تم تكليفها في عام 2010 ومقرها في روتا.
وفي أماكن أخرى من أوروبا، تمتلك ألمانيا وهولندا والدنمارك قوات بحرية أصغر، لكنها لا تزال قادرة. وبالنظر إلى ذلك، يعتقد المقال أنه يمكن لبعض القوى البحرية التقليدية في الاتحاد الأوروبي أن تتخيل فرق عمل أوروبية تعمل بانتظام في المحيط الهندي والقطب الشمالي وحتى في بحر الصين الجنوبي؛ فمثلما تساعد أتلاتنا في تأمين التجارة من المحيط الهندي وإليه، يمكن لبعض أساطيل الاتحاد الأوروبي في المستقبل أن تتولى مهام الأمن البحري في مناطق أخرى. ويؤكد المقال أن فرنسا، بممتلكاتها العديدة في المحيط الهادئ، هي الأكثر دفعاً للاتحاد الأوروبي للعمل في المياه البعيدة.
تحديات قائمة
رغم هذه التحركات والقدرات البحرية للاتحاد الأوروبي، يشير المقال إلى أن هناك عدداً من العقبات التي قد تقف أمام أوروبا لبناء قوة بحرية موحدة، ومن أهمها ما يلي:
1. عدم تكامل القدرات البحرية الأوروبية: بحسب المقال، فإن القدرات البحرية الأوروبية – في معظمها – ليست مصممة لتكمل بعضها بعضاً. وهناك العديد من حالات التكرار والفجوات الحرجة في القدرات؛ إذ إن عدداً قليلاً نسبياً من القوات البحرية الأوروبية لديها سفن قادرة على العمل بعيداً عن الوطن لفترات طويلة.
2. تراجع بعض الدول عن دعم العمليات البحرية: تظل عملية أتلاتنا نفسها مهمة متواضعة، وقد تصبح أكثر محدودية قريباً بحسب المقال؛ إذ تراجعت ألمانيا عن العملية في وقت سابق من هذا العام، مشيرة إلى تراجع القرصنة على سواحل الصومال. في هذا السياق قال متحدث باسم البحرية الألمانية إن “آخر هجوم للقراصنة كان في عام 2019، وآخر هجوم ناجح في عام 2017”. ومن ثم "تم تحقيق هدف المهمة".
3. افتقاد أوروبا سياسة بحرية لتأمين المصالح الحيوية: يعتقد بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي أن هناك أكثر من عمل كافٍ للقيام به في المياه الداخلية. وقد أثار تخريب خط أنابيب نورد ستريم أسئلة مقلقة حول إذا ما كانت القدرات البحرية لأوروبا تتطابق حتى مع التهديدات المحلية التي قد تواجهها. في هذا السياق، قال المحلل كريستيان بويجر: “ليس لدى أوروبا سياسة معمول بها من شأنها توفير المراقبة والحماية لهذه البنية التحتية تحت الماء”.
وختاماً، يشير المقال إلى أنه من خلال العمل الفردي، فإن بعض القوات البحرية الأوروبية على استعداد للمغامرة في مجال أبعد من ذلك؛ فالسفن الحربية الفرنسية سفن نظامية في المحيط الهادئ، وعبرت إحدى غواصاتها النووية بحر الصين الجنوبي العام الماضي، كما سعت باريس إلى تعزيز مكانتها في القطب الشمالي أيضاً. ومن ناحية أخرى، انضمت فرقاطة هولندية إلى عدة سفن غربية أخرى تعمل بالقرب من بحر الصين الجنوبي. وفي ديسمبر الماضي، أرسلت ألمانيا فرقاطة إلى المنطقة، وهي أول رحلة من هذا النوع منذ عدة عقود.