• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
قراءات

لماذا يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز حضوره في أمريكا اللاتينية؟


طوال العقد الماضي، أهمل الاتحاد الأوروبي علاقاته مع أمريكا اللاتينية، ولم تُعقد قمة بين قادة المنطقتين منذ عام 2015؛ حيث كانت الكتلة الأوروبية أكثر تركيزاً على مشاكل الجوار المباشر، مثل ليبيا، وسوريا، وأوكرانيا في الوقت الراهن. ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبح من الواضح أن دول أمريكا اللاتينية، لا تشارك الرؤية الغربية (الأوروبية) للحرب، وهو ما اتضح في امتناع العديد من حكومات دول المنطقة عن إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، إضافة إلى رفضها فرض عقوبات على موسكو، معلنةً التمسك بموقف الحياد في مواجهة طرفي الصراع.

في ضوء ذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تأكيد نفوذه في أمريكا اللاتينية من جديد في مواجهة الحضورين الصيني والروسي المتناميين؛ وذلك عبر طرح بعض المبادرات الدبلوماسية واتخاذ عدد من الإجراءات الاقتصادية وتقديم المساعدات الإنسانية التي يمكن أن تساعد دول المنطقة على التغلب على العواقب الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة للحرب في أوكرانيا.

مؤشرات عدة

شهدت الشهور الأخيرة بروز العديد من المؤشرات الدالة على حرص الاتحاد الأوروبي على تعزيز حضوره في أمريكا اللاتينية، منها:

1- استئناف عقد الاجتماعات والقمم المشتركة: اجتمع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) – وهي كتلة إقليمية تتألف من 36 دولة – في بوينس أيرس خلال أكتوبر الماضي لمناقشة فرص التعاون المتعدد الأطراف بشأن القضايا العالمية الرئيسية، بما في ذلك الطاقة والأمن الغذائي. وخلال الرئاسة الإسبانية لمجلس الاتحاد الأوروبي في عام 2023، ستعمل على وضع أجندة طموحة لتعزيز التعاون بين الجانبين، في ظل الاستعداد لتنظيم قمة قادة الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية خلال العام المقبل، التي لم تُعقد منذ عام 2015. إضافة إلى استعداد الرئيس الفرنسي”إيمانويل ماكرون” لإجراء جولة في أمريكا اللاتينية خلال عام 2023؛ فمنذ وصوله إلى السلطة في عام 2017، لم يقم ماكرون بأي رحلات ثنائية إلى أمريكا اللاتينية، وكان حضوره الوحيد في القارة هو حضور قمة مجموعة العشرين في بوينس أيرس عام 2018.

2- دعم المبادرات الدبلوماسية لحل الأزمات السياسية: مؤخراً، أبدى بعض دول الاتحاد الأوروبي اهتماماً قوياً بتسوية الأزمات السياسية التي تعاني منها بلدان أمريكا اللاتينية، وفي مقدمتها الأزمة الفنزويلية. برز هذا الاهتمام في دعوة الرئيس الفرنسي ممثلين عن الحكومة والمعارضة للمشاركة في منتدى باريس للسلام؛ حيث عقد الطرفان اجتماعاً مشتركاً في 11 نوفمبر الجاري، تناول سبل استئناف المفاوضات المتوفقة بينهما. عقب الاجتماع، أكد الرئيس الفرنسي ضرورة استئناف المفاوضات كخطوة أولى نحو انتخابات حرة في فنزويلا عام 2024. في الوقت نفسه، حث جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية في 16 نوفمبر الجاري، المعارضة والحكومة الفنزويلية على التوصل لحل سياسي تفاوضي للأزمة، وأشار إلى إمكانية عكس العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على فنزويلا “اعتماداً على تطور الوضع”.

3- الاهتمام بإبرام اتفاقية تجارية مع بلدان ميركوسور: يشعر عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية بخيبة أمل من الاتحاد الأوروبي، بسبب تعثر إجراءات إبرام اتفاقيات التجارة الحرة التي تم التفاوض عليها أو إعادة التفاوض بشأنها لسنوات، بما في ذلك الاتفاق مع تجمع ميركوسور (البرازيل، والأرجنتين، وباراجواي، أوروجواي) لعام 2019، كما أن الاتفاقيات التجارية مع المكسيك وتشيلي لا تزال متعثرة بسبب بطء عملية التصديق واعتراضات أعضاء الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا؛ لذلك أكد بعض المسؤولين الأوروبيين، مؤخراً، أهمية بذل جهد مشترك للتغلب على العقبات التي تعرقل إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين تجمع ميركوسور والاتحاد الأوروبي مع نهاية العام الجاري، بالنظر إلى كون هذه الاتفاقية ذات أهمية استراتيجية للجانبين.

4- ضخ الاستثمارات وتقديم المساعدات الإنسانية: خصصت ميزانية المفوضية الأوروبية 3.4 مليار يورو لتعزيز التعاون مع أمريكا اللاتينية خلال الفترة 2017-2021. ويستهدف الاتحاد الأوروبي استثمار هذه الأموال بشكل استراتيجي. ولتحقيق أقصى قدر من التأثير، تدرس بروكسل أيضاً حزمة استثمارية يمكن، باستخدام رأس المال العام والخاص والائتمان، أن تصل إلى 8 مليارات يورو لاستثمارها في أمريكا اللاتينية. وفي أكتوبر الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم 153 مليون يورو مساعدات إنسانية للمنطقة لعام 2022، كما أطلق أول مخزون إنساني إقليمي يموله الاتحاد ويكون مقره في مدينة بنما، ويستهدف التخزين المسبق للمعدات مثل مواد المأوى وحقائب الإسعافات الأولية والمواد الغذائية والصرف الصحي لتسليمها مباشرة من المنطقة عند حدوث أزمات مثل الكوارث الطبيعية.

محفزات قوية

هناك بعض العوامل الدافعة للاتحاد الأوروبي لتوثيق علاقاته مع بلدان أمريكا اللاتينية:

1- معالجة أزمة الطاقة: في مواجهة أزمة الطاقة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي، بسبب العقوبات الغربية على روسيا ووقف الأخيرة إمداداتها من الغاز لبلدانه، يسعى التكتل إلى إيجاد مصادر بديلة للطاقة، ومنها أمريكا اللاتينية؛ إذ تمتلك فنزويلا والأرجنتين والبرازيل احتياطيات مهمة من النفط والغاز. وفي هذا الصدد، شدد جوزيب بوريل، قبيل مشاركته في اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية، على أنه “في ضوء الحرب في أوكرانيا وموجات الصدمة على أسعار الغذاء والطاقة، يمكن لأمريكا اللاتينية توفير الطاقة، ويمكننا تزويدها بالتكنولوجيا”.

2- موازنة النفوذ الصيني المتزايد: لدى الاتحاد الأوروبي مخاوف جدية من تنامي نفوذ الصين في بلدان أمريكا اللاتينية، وهي منطقة مرتبطة تقليدياً من الناحية السياسية والاقتصادية بالغرب. وضاعفت بكين استثماراتها في المنطقة بنحو 26 مرة بين عامي 2000 و2020، وأصبحت الشريك التجاري الأول أو الثاني الأكثر أهمية لدول أمريكا اللاتينية؛ ما أدى إلى إزاحة الاتحاد الأوروبي وتجاوز الولايات المتحدة. لقد تجاوزت الصين بالفعل الاتحاد كشريك تجاري لكل من الأرجنتين والمكسيك وتشيلي وفنزويلا، كما انضمت 21 دولة من أصل 33 في أمريكا اللاتينية إلى مبادرة “طريق الحرير الجديد” الصينية.

3- ضمان الحصول على دعم الحلفاء: كشفت الحرب في أوكرانيا أن أوروبا خسرت الكثير من النفوذ لصالح الصين، وليس ذلك فقط، بل أن العديد من دول أمريكا اللاتينية لا تشارك الرد الأوروبي على الحرب التي شنتها روسيا. في القمة الأخيرة لبرلمانات أوروبا وأمريكا اللاتينية، التي عقدت في الربيع في بوينس أيرس بالأرجنتين، فشل الوفد الأوروبي في تمرير بيان يدين موسكو، أو حتى طرحه بالشروط التي وافقت عليها الأمم المتحدة؛ لذلك يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز مشاركته المتعددة الأطراف بشكل منهجي مع دول أمريكا اللاتينية في ضوء المنافسة المتزايدة من الصين وروسيا ودول أخرى على كسب الأصوات في المنتديات الدولية المتعددة الأطراف.

4- الاستثمار في طاقة المستقبل: تهدف الاستراتيجية الأوروبية إلى تجنب وضع مشابه لما حدث مع روسيا فيما يتعلق باستخدام الغاز الطبيعي لدوافع سياسية، وتستهدف تقليل اعتمادها على الصين كمورد رئيسي للمعادن الأرضية النادرة. وفي ظل حاجة أوروبا إلى تأمين احتياجاتها المستقبلية من هذه المعادن، التي تعتمد عليها في جهودها للتحول إلى الطاقة النظيفة؛ تتطلع إلى دول أمريكا اللاتينية لتوسيع إمدادات الليثيوم، وهو معدن مهم لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية وغيرها. لدى ثلاث دول في المنطقة – وهي بوليفيا والأرجنتين وشيلي – 60% من احتياطيات الليثيوم على مستوى العالم.

وختاماً، يمكن القول إن موقف دول أمريكا اللاتينية من الحرب في أوكرانيا جنباً إلى جنب مع ضخامة الآثار الاقتصادية السلبية للحرب، حفز الاتحاد الأوروبي على كسب المزيد من النفوذ في المنطقة. مع ذلك، فإن قدرته على تحقيق هذا الهدف تتوقف بشكل أساسي على مدى نجاحه في صياغة استراتيجية متماسكة ومستدامة تستجيب للاحتياجات الحقيقية لبلدان المنطقة، ولا تكون مجرد استجابة “آنية ومؤقتة” لتداعيات الحرب الأوكرانية.