على غير المتوقع، فإن بنيامين نتنياهو وهو الذي كان في عجلةٍ من أمره بتشكيل حكومة في وقت قياسي، نظرًا لتجانس أحزاب الائتلاف والقاعدة البرلمانية المريحة؛ لم ينجح حتى اليوم في تشكيل حكومته، ومن المُتوقع أن يطلب مهلة جديدة من الرئيس لأن المُهلة المضافة تنتهي يوم الأربعاء القادم، ويتوقع الكثير من المراقبين أن تتقدم الحكومة لنيل ثقتها من الكنيست بالقرب من نهاية ديسمبر الجاري.
الأحزاب الأصولية واليمين الفاشي تعتبر الائتلاف الحالي ائتلاف الأحلام بالنسبة لها، والذي يمنحها لأول مرة الفرصة في تحقيق أقصى ما يُمكن من أجندتها ومطالب ناخبيها، سواء على المستوى المالي أو التشريعي أو الأيديولوجي (دينيًا وسياسيًا)؛ ممّا جعل شهيتها المطلبية (الابتزازية) تصل إلى ذروة غير مسبوقة في المفاوضات الائتلافية السابقة، وجعل نتنياهو في موقع لا يستطيع فيه إلا أن يقبل ويستجيب للضغوط بعد أن فقد قدرته على المناورة؛ بل وتحوّل إلى ما يشبه موظف علاقات عامة يشرح للغرب كيف أن بن غفير تحوّل وأصبح إنسانًا مسؤولًا، وأنه (أي نتنياهو) هو الضابط والناظم لحكومته، محاولًا تبديد المخاوف الخارجية على وجه الخصوص.
أما المخاوف الداخلية فهي لا تعنيه إلا بقدر قدرتها على خلق أجواء قوية تحرض على التمرد والمسّ بمشروعية قرارات حكومته، مثل محاولته تهدئة الجمهور القلِق من تولي ماعوز قسم التعليم الخارجي. نتنياهو المنتشي بانتصار اليمين وتحطم ما يسمى باليسار وتشرذم المعارضة وغياب أيّ خطاب محدد وواضح للمعارضة، وتبنيها خطاب نتنياهو في غالبية المواضيع المحورية؛ لم يعد يشعر بوزنها ولا حتى بوجودها؛ لذلك نراه يستخف بكل التحذيرات التي تصدر ليس فقط من السياسيين، بل ومن النخب والمهنيين، الذين يحذرون من مخاطر ما ستترجمه الاتفاقات الائتلافية على أمن الدولة ومستقبلها، وعلى توازناتها الديمقراطية وعلى علمانيتها، تحذيرات بالكارثة جراء ما يصفونه بالخضوع للأصوليين والفاشيين، وما يصفونه بأنه في سبيل الحكم يبيع الجيش والدولة ومؤسساتها لجهات أيديولوجية.
منذ أن شكّل شارون حزب "كاديما" وانضم إليه بيرس وقيادات من حزب "العمل" وشكّلت شخصية شارون وكاريزمته تيارًا مركزيًا جارفًا؛ تحطمت المعارضة ولم يعد لها هوية، لا في القضايا الخارجية ولا الداخلية، وهو ما عزز ظاهرة تكاثر الأحزاب الشخصية والمزاجية، التي تتشابه جميعها في كل شيء باستثناء اختلاف مَن يقودها، وتنافست مع "الليكود" على مَن يشبه "الليكود" أكثر ومَن يمثل جمهور "الليكود"، وحده ظل "الليكود" حزبًا قويًا، لكنه مع الوقت ومع التنافس على الصوت الشعبوي، فقد الكثير من هويته العلمانية، وصولًا إلى أنه في سبيل تثبيت حكمه لم يعد يبالي بتعزيز حكم الشريعة التوراتية وثقافتها على حساب الديموقراطية وثقافة العلمانية، رغم أنه يصف نفسه بالحزب العلماني.
المجتمع الصهيوني الذي يجمع على الاحتلال وعلى فوقية اليهود، وكان يعيش بأريحية مطمئنًا على نمط حياته الديموقراطي العلماني؛ لم يكن يلقي بالًا كبيرًا لمن يحكمه، وهذا جعل من وجود معارضة حزبية قوية أمرًا لا حاجة له، فتحولت المعارضة إلى ما أصبحت عليه من معارضة صورية ديكورية، تتمحور على الصراع الشخصي دون هوية حقيقية.
لكن ومع ما يجري من سطو على الموازنات وعلى نمط الحياة العلماني، الذي لم يعد أمرًا مضمونًا ومسلمًا بهِ؛ فإن الخوف على مستقبل صورة الدولة والخوف من انحسار الديموقراطية وتغول النفوذ الديني، والخوف من أن نتائج الانتخابات الأخيرة تشكل فقط البداية لمسيرة صعود اليمين الفاشي الديني؛ قد يعزز فكرة تشكيل معارضة فاعلة ذات هوية منسجمة، تتمايز بموقف واضح ومنسجم على مستوى القضايا الخارجية والداخلية، فالجمع بين الاستيطان والتهويد - اللذيْن يستندان إلى مرجعيات دينية واحتلالية وعنصرية وبين الديموقراطية والعلمانية - هي أمر أدى عمليًا إلى مسار ديني فاشي، ولم يعد من المُمكن عزل ما يمثله الاحتلال عن المجتمع الصهيوني ونمط حياته.
كلما تغول اليمين الديني الفاشي على الحياة الداخلية للمجتمع الصهيوني، فإن هذا المسار ربما يعزز مسارًا مغايرًا لنهوض معارضة قوية، ويعزز مسار الصدام بين الديني الفاشي والديموقراطي العلماني.