يمر الاقتصاد العالمي بمرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد؛ حيث يواجه مجموعة من التحديات التي نادرًا ما شهد العالم مثلها؛ نتيجة لنقص المدخلات الرئيسية للإنتاج، وتراجع الصناعات التحويلية لدى العديد من البلدان مع نقص الإمدادات، إلى جانب إطلاق الطلب المكبوت وانتعاش أسعار السلع الأولية، مما أدى إلى زيادات غير مسبوقة في معدلات التضخم وتراجع معدلات النمو، وتزايد هشاشة المؤسسات المالية غير المصرفية في ظل ارتفاع الديون إلى مستويات قياسية، ووصولها إلى 226 تريليون دولار نهاية العام الماضي. كما أن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية يؤدي إلى اضطراب الأسواق المالية، وارتفاع تكلفة التمويل، ومن ثم زيادة المخاطر المالية.
هذا فضلاً عن الاختناقات المرورية لحاويات الشحن التي أصبحت غير قادرة على السير عبر الطرق المعتادة، الأمر الذي أثر على مصروفات الشحن بصورة كبيرة.
ومما زاد من تعقيد الموقف الحرب في أوكرانيا، خاصة وإنها تقع بين دولتين غاية في الأهمية من الناحية الاقتصادية؛ حيث إنهما من الدول المهمة في مجال السلع الزراعية عمومًا، والمنتجات الغذائية على وجه الخصوص. إذ تمثلان أكثر من ربع تجارة القمح العالمية وخمس مبيعات الذرة و80 % من صادرات زيت عباد الشمس، فضلاً عما تملكه من معادن وخامات ناهيك عن كون روسيا تعد المورد الأساسي للغاز الطبيعي والطاقة إلى أوروبا.
كل هذه المؤشرات وغيرها تشير إلى أن الأحداث الجارية ستؤجج نار التضخم من جهة، وتؤدي إلى انخفاض معدلات النمو العالمي من جهة أخرى. وقد توقع صندوق النقد الدولي تراجع معدل النمو العالمي من 5.9 % إلى 3.2 % خلال عام 2022، كما توقع أن يصل إلى 2.7 % العام 2023؛ وذلك في ظل ضبابية الموقف الحالي، وآثار الحرب في أوكرانيا والتي يتوقف حجمها، وحدود عمقها على عدة مسائل يأتي في مقدمتها المدى الزمني للعمليات العسكرية، وآليات التعامل معها دوليًا وإقليميًا.
وما يهمنا هنا أن هذه الحرب قد كتبت النهاية لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وتعد بمثابة الإعلان عن انهيار النظام الحالي، والقائم على أساس «توافق واشنطن» بآلياته ومؤسساته، وبدء البحث عن نظام جديد أكثر إنسانية، وأقل وحشية. وهكذا إعادة الاعتبار للدولة القومية، بدلًا من السوق العالمية. ومن ثم أصبح من غير المحتمل العودة مرة أخرى للحديث عن العولمة المفيدة للأطراف، والتي بني على أساسها النظام الاقتصادي الحالي -حيث تم تقويض المبادئ الأساسية للتصنيع العالمي من خلال سلاسل القيمة المرتبطة بعدة دول، ووضعت كل دولة مصلحتها الوطنية أولًا- كما ازدادت درجة عدم اليقين فالتغييرات الجارية والمتلاحقة على الساحة العالمية، لم تعد تدور، كما كانت من قبل، وفقًا لقواعد وأسس محسوبة أو يمكن توقعها.
بل على العكس من ذلك تمامًا، إذ زادت بشدة كمية الأحداث الفجائية، والتي تخرج عن أي توقعات ممكنة. وهكذا تحولت كافة شعارات المرحلة لنقيضها تمامًا، فبدلًا من العولمة أضحت الدولة القومية.
وترتيبًا لما سبق، تحاول هذه المقالة تحليل وتفسير أبرز المؤشرات الدالة على انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة على مصر والإقليم، وكيف يمكن تحفيز عوامل جذب الاستثمارات للمنطقة، وخاصة بالنسبة لمصر؟ وكيف ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية في إعادة الاعتبار مرة أخرى للسياسة المالية، باعتبارها الأداة الأهم في سبيل تحقيق التنمية الاحتوائية، وسبل تلافي الآثار السلبية للنظام الاقتصادي الدولي الراهن.
أولًا: ارتفاع معدل التضخم
تأتي في مقدمة الآثار المترتبة على الوضع الحالي للاقتصاد العالمي الارتفاع الكبير في معدلات التضخم العالمي والمحلي. ومع تسليمنا الكامل بأن مشكلة التضخم ترجع بالأساس إلى أسباب هيكلية في بنية الاقتصادات القومية للمنطقة، فإن الموجة الحالية تعود بالأساس إلى التضخم المستورد؛ وذلك بسبب تراجع الإنتاج وانخفاض إنتاجية العديد من القطاعات. الأمر الذي أدى إلى تزايد الحاجة للاستيراد لتغطية الاستهلاك المحلي، خاصة من المواد الغذائية ومستلزمات الإنتاج مما ينعكس بدوره على المستوى العام للأسعار، بعد الارتفاع الكبير في أسعار المنتجات الغذائية وعلى رأسها القمح الذي تعتمد عليه دول المنطقة بصورة كبيرة في ضوء انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية؛ حيث تصل إلى 37 % من الحبوب والقمح، وفي السكر إلى 45 %، وفي الزيوت إلى 51 % حتى أصبحت أكبر مستورد للسلع الغذائية حجمًا وقيمة على الصعيد العالمي.
وبالتالي فإن ارتفاع معدلات التضخم ستنعكس بآثارها السلبية على القطاعات الأكثر فقرًا بالمنطقة، مما يؤدي إلى تفاقم أوجه عدم المساواة الحالية، وارتفاع عدد الفقراء. كما يسهم في زيادة أسعار الفائدة مما يقوض من سياسات التعافي الحالية، ويؤدي إلى ارتفاع مستويات الدين العام، مما ينذر بمخاطر وتحديات عديدة أهمها صعوبة الحفاظ على الاستدامة المالية والاستقرار المالي أو الاستثمار في المستقبل. وكلها أمور تدفعنا للعمل على تدارك الآثار السلبية لها عبر آليات محددة. وكما ذكرت «كريستينا جورجييفا» المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي: إن صانعي السياسات على مستوى العالم بحاجة إلى تقدير سياساتهم المالية والنقدية بعناية لضمان أن إنهاء برامج الدعم المالي لآثار كورونا، وارتفاع أسعار الفائدة لن يقوضا الانتعاش الاقتصادي.
ثانيًا- انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر
تشهد حركة الاستثمارات الأجنبية تراجعًا ملحوظًا في التدفقات القادمة إلى بلدان المنطقة بل وعلى الصعيد العالمي وصل إلى 1.3 تريليون دولار في عام 2021، بنسبة انخفاض 13 % عن العام السابق. وذلك بعد أن انسحبت العديد من الشركات الدولية الأمريكية للاستفادة من الإصلاحات الضريبية التي قامت بها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نهاية عام 2017 وتجنب إعادة استثمار الأرباح المحققة من مشاريعها في الاقتصادات الأخرى، خاصة خلال الربعين الأول والثاني من عام 2019. وقد امتد تراجع هذه التدفقات إلى الاقتصادات المتقدمة، إذ هبطت إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2004، وانخفضت بنسبة 27 %.
بينما ظلت معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في الدول النامية مستقرة تقريبًا، فارتفعت بنسب لا تتجاوز %2، وتركز أغلبها في البحث عن المعادن خاصة في جنوب أفريقيا، كما أن الدول الآسيوية خاصة النامية منها جذبت كثيرًا من الاستثمارات المباشرة وزادت نسبة الاستثمار المباشر فيها بنحو 4 % ويبدو أن اتجاه التراجع سوف يستمر خلال الفترة القادمة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية والحروب التجارية التي أدت إلي ازدياد النزاعات الحمائية.
من هنا أصبح التساؤل هو كيف يمكن إعادة البريق الاستثماري للمنطقة كسوق جاذب للاستثمارات، وخاصة بالنسبة لمصر؟ وتأتي أهمية هذا التساؤل في ضوء الدور الذي تلعبه الاستثمارات (العامة والخاصة والأجنبية) في العملية الإنتاجية؛ نظرًا لأنها المحدد الأساسي للنمو. إذ أجمعت كافة الدراسات العلمية على أن العملية التنموية المطلوبة لامتصاص البطالة والحد من الفقر، تتطلب تحقيق معدل نمو لا يقل عن 8 % سنويًا، وهو بدوره يحتاج لمعدل استثمار يتراوح ما بين 25 % و30 %. ونظرًا لضعف معدل الادخار المحلي، والذي لا يتجاوز10 %، لذا تظل هناك فجوة موارد كبيرة، تقدر بنحو 22 مليار دولار خلال العام المالي 2019/2020، ترتفع إلى 24 مليار و26 مليار للعامين التاليين، لا يمكن سدها، إلا عن طريق الاستثمار الأجنبي المباشر. من هنا تأتي أهمية وضرورة العمل على جذب هذه الاستثمارات وتشجيعها وتنميتها؛ وذلك للحد من التحركات السلبية في البيئة الدولية؛ وذلك عن طريق ضمان اتساق السياسات الاقتصادية، فالمستثمر الجاد يعتمد بالأساس على قدرته في تقدير العوائد والمخاطر المتوقعة.
في هذا السياق تأتي أهمية العمل على استكمال تحسين المناخ الاستثماري، وإرساء مبدأ الشفافية والعمل على توفير البيانات عن النشاط الاقتصادي والمتغيرات الكلية القومية ونشرها، والإعلان عن توجهات الحكومة وسياساتها بشكل واضح. جنبًا إلى جنب مع حصر التشريعات المعوقة للاستثمار وإعداد التشريعات اللازمة لتعديلها وسرعة حسم المنازعات الاستثمارية. فضلاً عن ضرورة توحيد المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في هذا المجال، وفقًا للمتبع عالميًا. وكلها أمور تهدف إلى تهيئة البيئة للاستثمار الجاد، ومراعاة المساواة بين الاستثمار المحلي والأجنبي بما يضمن إرساء مبدأ سيادة القانون وحماية حقوق الملكية وتنفيذ العقود والأحكام، وكذلك الالتزام بالاتفاقيات الدولية. مما يساعد على إزالة المعوقات التي تحد وتعيق من قدرة بعض المؤسسات على الاضطلاع بمهامها.
ثالثًا - التغير المناخي والاقتصاد الأخضر
احتل الحديث عن التغير المناخي وآثاره المدمرة مكان الصدارة خلال العاميين الماضيين، وذلك مع ازدياد القلق بشأن الظواهر الطبيعية المرتبطة بالتغير المناخي، وما ينتج عنها من ارتفاع كبير في درجات الحرارة؛ حيث صُنف شهر يوليو الماضي بأنه الأكثر ارتفاعًا على كوكب الأرض، الأمر الذي ترتب عليه انتشار العديد من الحرائق التي التهمت مساحات شاسعة من بعض المناطق، ووفاة المئات من الأشخاص في العديد من البلدان مثل تركيا وإسبانيا واليونان وإيطاليا ولبنان والبرازيل والساحل الغربي في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرهم. وهو ما حذر منه التقرير الصادر مؤخرًا عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، والذي اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة بأنه إنذار أحمر للبشرية ككل وأن أجراس الإنذار تصم الآذان، ووصفه خبراء البيئة بأنه يخيف أي شخص يقرأه. وهو ما دفع تقرير التنمية البشرية الصادر مؤخرًا عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة للقول "نحن نمعن في زعزعة الاستقرار للنظام الأرضي رغم إننا لا يمكن أن نحيى بدونه".
ويجمع الخبراء على أن السبب الأساسي لما يحدث يرجع إلى الاحتباس الحراري الناجم عن الانبعاثات الكربونية، وحرق الوقود الإحفوري، فضلاً عن التوسع الحضري وحرق الغابات، والتي ترجع بالأساس إلى أنماط التنمية المعمول بها، خاصة لدى البلدان المتقدمة والتي ركزت على تحقيق نموها الاقتصادي بأي ثمن، والتي أهملت تمامًا القيمة الاجتماعية للبيئة، وكذلك قيام الحكومات بتشجيع النمو الملوث للبيئة، وتدمير الغابات، وسوء استخدام الأراضي العامة.
كلها أمور أدت إلى تغيير النظرة لاستراتيجية التعامل مع الطاقة، والتي بدونها لن تحدث أي عملية تنموية في أي مجال زراعي أو صناعي أو خدمي، وبالتالي أصبحت السيطرة السيادية على الطاقة النظيفة قليلة التكلفة شرطًا أساسيًا للأمن القومي للدولة، وليس فقط مسألة اقتصادية وتنموية. وتتضح هذه المسألة بشدة من تتبع ما يحدث في البحر المتوسط من أحداث، خاصة بعد اكتشاف حقل ظهر وتوقيع مصر على العديد من الاتفاقات المهمة مع بعض بلدان المنطقة، خاصة اليونان وقبرص، وهما من اللاعبين الإقليمين الرئيسيين في المنطقة.
ومن المنظور التنموي فإن البحث أصبح يتمثل في التوليفة المثلى لتشكيلة الطاقة المناسبة للمجتمع بما يضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة. والعمل على تطوير ما يسمى «بالاقتصاد الأخضر»، وهو اقتصاد يقوم على الحد من الانبعاثات الكربونية والتخلص منها أو إعادة استخدامها بهدف إعادة التوازن بين الإنسان والأرض، وتحقيق التناغم في دورة الكربون بما يضمن الحد من المخاطر البيئية. على أن يتم ذلك كله مع حماية البيئة حتى يمكن الحفاظ على نوعية الحياة للأجيال القادمة.
وبعبارة أخرى فإن التنمية المستدامة والإدارة السليمة للبيئة يُعدان جانبان متكاملان، فبدون حماية البيئة ستنهار العملية التنموية وبدون التنمية ستفشل حماية البيئة، وهو ما يتطلب تعديل الأوضاع، وإعلاء القيم المجتمعية على تعظيم الربحية.
رابعًا- إعادة الاعتبار للسياسة المالية
جدير بالذكر أن الأزمة الاقتصادية العالمية قد أعادت الاعتبار مرة أخرى للسياسة المالية؛ حيث كان التركيز قبل الأزمة الحالية، يتجه إلى السياسة النقدية باعتبارها القادرة على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي. بينما أثبتت التغيرات الحالية أن السياسة المالية هي الأداة الأهم في سبيل تحقيق التنمية الاحتوائية الشاملة. الأمر الذي يتطلب زيادة الإنفاق العام على الجوانب الاجتماعية حتى لو أفضت إلى تحريك العجز في الموازنة مؤقتًا.
وتكتسب السياسة المالية خصوصيتها من كونها أحد أدوات السياسة الاقتصادية التي تمكن الدولة من تنفيذ سياساتها الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى رفع مستوى معيشة ورفاهة المواطنين. كما أنها تعكس الموارد المالية المتاحة والتي يمكن استخدامها في تمويل الخدمات التي عادة لا يقبل على توفيرها القطاع الخاص. ولذلك فقد أعيد النظر في دور السياسة المالية العامة في العقد الأخير على إثر الأحداث والظروف التي مر بها الاقتصاد العالمى، وأبرزها الأزمة المالية العالمية 2008، جائحة كوفيد 19. وأصبح يُنظَر إلى الىسياسة المالية العامة عمومًا باعتبارها أداة فعالة لتشجيع النمو الاحتوائي والمساهمة في استقرار الاقتصاد الكلي، ولاسيما أثناء فترات الركود، وحين تصبح السياسة النقدية أقل فعالية. وفي نفس الوقت، تزداد أهمية الإدارة المالية العامة السليمة مع ارتفاع مستويات الدين ووجود تحديات ديمجرافية طويلة الأجل وزيادة المخاطر.
وعلى وجه الخصوص، ينبغي أن ترتكز السياسات على إطار موثوق للمدى المتوسط يضمن بقاء الدين في حدود يمكن تحملها، وإدارة المخاطر بكفاءة، وبناء هوامش أمان أثناء فترات الصعود الدوري وعلى وجه الإجمال. وبعبارة أخرى فإن السياسة المالية ينبغي أن تكون مواتية للنمو، وذلك باستخدام الإجراءات الضريبية والإنفاق العام كأدوات هيكلية لدعم محركات النمو طويل الأجل، ولاتزال هنا كدواع قوية لزيادة الاستثمار العام نظرا لمواطن الضعف الكبيرة في البنية التحتية، وان كانت دقة اختيار المشروعات والإدارة والتقييم من المفترض أن تضمن كفاءة الاستثمار أيضًا.
من هذا المنطلق فإن حسن إدارة المالية العامة يتوقف على مدى فعاليتها في تحقيق الأهداف الرئيسية لها، كما أن تحديد خطورة العجز من عدمه ترتبط بالأساس بالحالة الاقتصادية للبلاد، سواء في الآجل القصير والمتوسط أو الطويل. أي أن هدف التنمية يحظى بالأولوية في السياسة الاقتصادية حتى، ولو جاء على حساب التوازن المالي. إذ إن زيادة الإنفاق العام مع ما يترتب عليه من زيادة للقوى الشرائية للمجتمع كوسيلة للانتعاش الاقتصادي تصبح أمرًا مطلوبًا. من هنا تناقش فكرة تحديد الحجم الأمثل للإنفاق العام الذي يحقق الأهداف المنوطة به. وهو ما يتوقف على طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة. الأمر الذي يتيح للمجتمع تحديد كيفية إنفاق الموارد المحدودة بأكبر قدر من الكفاءة والفاعلية في المجالات التي تحتاج إلى التدخل العام. من هذا فإن تحسين كفاءة وفعالية الإنفاق العام، يتطلب تحديدًا دقيقًا للمجالات التي يجب أن يكون للحكومة دور واسع فيها، وتلك التي لا ينبغي أن يكون لها فيها دور على الإطلاق.
خامسًا: البحث عن نموذج تنموي جديد
يتطلب ذلك ضرورة إجراء تغييرات في مجموعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين والدولة والبحث عن نموذج تنموي يتلاءم مع الواقع الجديد، ويبني على الثقة والاحتواء والشفافية والمساءلة. ويتعامل بصورة أفضل مع المرحلة الجديدة القائمة على الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا ويشجع الإبداع والابتكار ويساعد على توفير فرص عمل جيدة للداخلين إلى سوق العمل، ويجعل النمو أكثر احتواء لكل الشرائح الاجتماعية، وقادرًا على الاستدامة. وهي بعبارة أخري صياغة عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والحكومة يقوم على الشرعية والعدالة والنفع للجميع ومضمون بالقوة العامة والسلطة العليا، كما ذكر جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي. وتأتي أهمية هذه المسألة في ضوء ما أشار إليه المفكر الاقتصادي الهندي والحائز على جائزة نوبل «أمارتيا صن» في كتابه المعنون بـ «التنمية حرية» إلى أن التنمية هي عملية توسيع في الحريات الحقيقية للناس وبالتالي فهي ليست فقط نموًا في الناتج أو زيادة في الدخول، ولكنها بالأساس توسيع نطاق الحريات التي يتمتع بها الأفراد جنبًا إلى جنب مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ولذلك ينبغي أن يقوم العقد الاجتماعي الجديد على دور أكبر للدولة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز النمو وتحقيق العدالة الاجتماعية، باستخدام أدوات السياسة المالية، وذلك لكونها القادرة على إحداث فروق كبيرة في معالجة عدم المساواة. وأصبح الإنفاق العام يلعب دورًا أكبر عن ذي قبل في تعزيز النمو الاحتوائي والمستدام وأصبح ينظَر إليه باعتباره أداة فعالة لتشجيع النمو الاحتوائي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. كما أن الإنفاق العام على الصحة والتعليم يسهم مباشرة في تحسين نوعية الحياة ويؤدي إلى جودة النمو، ويزيد من رأس المال البشري، وبالتالي يعد بمثابة استثمار قومي جيد يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول.
من هنا يجب العمل على إعطاء أهمية كبرى والتركيز على تعديل الهيكل الحالي، وإزالة المعوقات التي تحد من فعالية وقدرة المؤسسات على الاضطلاع بمهامها. وتسهيل بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن من خلال التوسع المنظم والفعال في بناء القواعد الإنتاجية وتطبيق سياسات عاجلة لتحفيز الاستثمار الصناعي (الخاص والعام). وبعبارة أخرى وضع استراتيجية تنموية للصناعة تضمن التنسيق التام والكامل بين القطاعات المختلفة للاقتصاد القومي.
من هذا المنطلق تأتي أهمية العمل على إعادة تعزيز العمل العربي المشترك بغية تقليص الاعتماد على الخارج لصالح المزيد من التعاون العربي. خاصة وإن المنطقة تملك الإمكانيات المؤهلة لذلك، فعلى الرغم أن عدد السكان يزيد عن 431 مليون نسمة، ويمثلون 5.5 % من سكان العالم، إلا إن التجارة البينية العربية مازالت في حدود 12 % من إجمالي التجارة العربية، حيث يحتل النفط حصة ملموسة فيها. مع ملاحظة أنها تتركز في دول الجوار الجغرافي، فعلى سبيل المثال فإن 88 % من صادرات البحرين تذهب إلى الإمارات والسعودية والكويت، وبالمثل فإن 62 % من صادرات الإمارات تذهب إلى السعودية وعمان، و79 % من صادرات تونس تذهب إلى الجزائر والمغرب وليبيا.
ختامًا، إن ضرورة إعادة النظر كلية في المبادئ الأساسية التي يعتمد عليها النظام الاقتصادي الحالي، خاصة في ظل الجغرافية السياسية الحالية إلى جانب التحولات الهيكلية المرتبطة بها. وعلى الرغم من أهمية العمل على زيادة حجم التجارة البينية، وتكثيف المعاملات والمبادلات بين هذه الأطراف وبعضها البعض، إلا أن المشكلة تكمن في التركيب السلعي للتجارة العربية، والخصائص الهيكلية التي تتميز بها، والمقصود بها تحديدًا طبيعة الإنتاج ومدى تطوره وتنوعه، والتماثل والتشابه في القواعد الإنتاجية. هذا فضلاً عن كون كل المحاولات الهادفة إلى تشجيع التبادل التجاري العربي قد تمت انطلاقًا من إزالة المعوقات الإدارية والبيروقراطية، ولم تهتم على الإطلاق بالقضية الأساسية وهي تطوير الهياكل الإنتاجية مع العمل على زيادتها وتنويعها.
وهكذا أصبح من الضروري العمل على تلافي الآثار السلبية للنظام الاقتصادي الدولي الراهن، وهو ما لن يتأتى، إلا عن طريق تبني مفهوم تنموي جديد، ووضع استراتيجية شاملة وعامة للعمل العربي المشترك، مع تحديد أهدافها وأسسها واتجاهاتها ووسائلها وآلياتها، على نحو يحقق التكامل والترابط داخل كل قطاع من القطاعات الإنتاجية، وفيما بين جميع هذه القطاعات، وذلك على ثلاثة محاور للعمل: أولها، الدولي، ويركز على علاقة البلدان العربية، فرادى أو مجتمعة، بباقي بلدان العالم خاصة في صورة تجمعات اقتصادية، ثانيها، القومي، حيث يركز على علاقات الدول العربية وبعضها البعض، وثالثها، القطري، والذي يركز على طبيعة التوجه التنموي داخل كل قطر عربي. فإذا ما تم ترجمة هذه الأهداف عمليًا فإن المنطقة العربية ينبغي أن تعمل على الصعيد الدولي بكل ضراوة، وإصرار من أجل الحصول على حقوقها التجارية في مواجهة طغيان منظمة التجارة العالمية، هذا مع ضرورة البحث عن آليات جديدة، وسبل محددة للتعامل الإيجابي مع التطورات الجارية على الساحة الدولية.
وعلى الصعيد الإقليمي فإنه ينبغي تطوير منطقة التجارة الحرة العربية مع التطبيق الكامل لبنود الاتفاقية، وإزالة العوائق التي تحول دون انتقال السلع ورؤوس الأموال والأشخاص وحل مشكلات قاعدة المنشأ، ووضع سياسة تجارية مشتركة لمواجهة حالات الإغراق والوقاية وغيرها وتطوير التعاون الجمركي.