يرى الكاتب في صحيفة التايمز البريطانية، جيمس ماريوت، أن هناك هوة ثقافية وخيارات سياسية آخذة في الاتساع بين أوروبا والولايات المتحدة، وهي تنطلق من اللغة لتطال مفاهيم الحياة وخيارات اليمين واليسار. ويذهب الكاتب إلى القول إن الشباب الناطقين بالإنكليزية يتبنون أفكارا تقدمية غير مفهومة لبقية العالم.
ويقول ماريوت "إذا كنت شابا ومثاليا ومتشوقا لمعرفة ما إذا كان نقاء مبادئك اليسارية سينجو من خيبات منتصف العمر، فانتبه إلى اللغة التي يتحدث بها من حولك، فإذا كنت تستطيع سماع اللغة الإنكليزية، فهناك فرصة أفضل أن تظل اشتراكيتك الشابة على حالها. ففي بريطانيا وأمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا، يتحدى جيل الألفية القوانين السياسية القديمة ويفشل في أن يصبح أكثر يمينية مع تقدمه في السن. لكن في بقية أوروبا، ولا سيما فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، لا يزال الشباب يتبعون الطرق القديمة في تبني الخيارات السياسية، ويصوتون لمزيد من الأحزاب اليمينية مع تقدمهم في السن".
ويضيف الكاتب أنه في بريطانيا، عادة ما يُعزى اليسار إلى الحرمان الاقتصادي وأسعار المساكن، وقروض الطلاب، وانخفاض مستويات المعيشة. لكن هذا التحليل لا ينطبق بشكل متساو في أوروبا. فقد يكون الشباب الألمان أفضل في السكن، ويعملون بشكل أفضل، ويصبحون أكثر تعليما بتكلفة أقل من أقرانهم البريطانيين، لكن الشباب الإيطاليين – الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاما ويعيشون مع أهلهم – فإنهم بالكاد يتطلعون إلى مستقبل ينعمون فيه بالحرية المالية الصافية.
ويتحدث الكاتب عن عوامل عديدة مؤثرة ويذكر منها أن جيل الألفية الأوروبي الراغب في التصويت لإعادة التوزيع الاقتصادي، غالبا ما يكون لديه خيارات بين اليمين واليسار. لكن ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو الطريقة التي أصبحت بها اللغة وليس الجغرافيا – في عالم متصل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي – تشكل فجوة ثقافية نقدية.
ويرى أن الغرب، الذي اعتدنا على التفكير فيه على أنه وحدة متراصة، بات منقسما بين تلك الدول الناطقة بالإنكليزية التي تشارك الإنترنت مع أمريكا وتلك التي لا تشارك الإنترنت معها. فمثلا سيكون أي شخص لديه حساب تويتر على دراية بالقرب المستمر من الحروب الثقافية الأمريكية. لذلك فمن الناحية النفسية، يعيش العديد من البريطانيين الآن في عالم أمريكي، وهم مهووسون بالسياسة الأمريكية، والظلم الأمريكي، وأحكام المحكمة العليا الأمريكية. وهو أمر يألفه أيضا الكنديون والأستراليون والنيوزيلنديون. ويتابع الكاتب: لقد انتشرت الأفكار التقدمية الأمريكية عبر الإنترنت باللغة الإنكليزية كما ينتشر الخوف من اليمين الأمريكي المتآمر والمعادي للديمقراطية. ولكن عندما يتم التحدث بلغات أخرى على الإنترنت، يكون الارتباط بالأخلاق الأمريكية والمخاوف الأمريكية أكثر مرونة. هذا الواقع يساعد في تفسير سبب افتقار معظم الدول الأوروبية إلى إجماع بين الناخبين الشباب تجاه التقدم على النمط الأمريكي. ففي فرنسا، يدعم جيل الألفية الأحزاب اليمينية المتطرفة بأعداد لا يمكن تصورها في بريطانيا أو أمريكا. ويعيد الكاتب إلى الأذهان ما حصل في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، العام الماضي، حيث صوت 49 في المئة من الناخبين، الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و35 عاما، لمارين لوبان.
وكذلك ما حصل في انتخابات جرت في ولاية سكسونيا في ألمانيا، العام الماضي، حيث كان أداء حزب البديل المناهض للهجرة من أجل ألمانيا أقوى مع جيل الألفية مقارنة بالناخبين الأكبر سنا.
ويرى جيمس ماريوت أن فرنسا لديها صدامات بين الثقافة والحرب، ويبدو أن الشخص الوسطي مثل الرئيس إيمانويل ماكرون كما لو أنه ينتمي إلى اليمين عندما ينتقد الأيديولوجيات اليسارية التي تؤدي إلى “عنصرية” المجتمع الفرنسي.
وفي كتابه "بدأ التاريخ"، ذهب الدبلوماسي والمفكر البرتغالي برونو ماكيس إلى حد الإشارة إلى أن الحضارة الأمريكية والأوروبية تتباعدان. وهو يطرح جدلية مفادها بأن أمريكا، التي كانت في الأساس مجتمعا أوروبيا، باتت تتحرك بعيدا لخلق نوع جديد من الثقافة غير مفهومة لكثير من الأوروبيين. وفي حين أن الليبرالية، بإدعائها للمبادئ الأخلاقية العالمية، يمكن تطبيقها في جميع أنحاء العالم، فإن الأفكار المتجذرة في الفظائع العنصرية المحددة في تاريخ الولايات المتحدة، يصعب تصديرها بسهولة. وينقل الكاتب عن ماكيس قوله إن الاختلافات الثقافية بين أوروبا وأمريكا قد نمت على نطاق واسع لدرجة أنه لم يعد من الممكن للمفكرين الأوروبيين تكوين تأثير كبير كمثقفين عموميين في العالم الناطق باللغة الإنكليزية. فلا يوجد مثقف فرنسي معاصر له تأثير سارتر أو دي بوفوار أو فوكو.
كذلك، فإن ميشيل ويلبيك، الروائي الفرنسي الأكثر شهرة، هو شخصية رئيسية في الداخل الفرنسي، لكن كتبه المثيرة للجدل – بشأن تصوره حصول استيلاء إسلامي على الدولة الفرنسية – تجعل من المستحيل تصور تحقيقه لمكانة مماثلة في بريطانيا أو أمريكا. ويضيف الكاتب أنه في البلدان الناطقة بالإنكليزية، تنبع مكانة النخبة بشكل متزايد من القدرة على التحدث عن التقاطعات والالتقاء بدلاً من الحديث عن الثقافة الأوروبية. فهناك أعداد متناقصة من البريطانيين يتحدثون لغة أجنبية، ولقد ولت الأيام التي كانت فيها الأفلام الأوروبية – مثل غودار، وفليني، وبرغمان – تحظى بمشاهدة إلزامية من المثقفين المتحدثين بالإنكليزية. وفي الواقع، فإن الإحساس الأمريكي القديم بالدونية الثقافية، للثقافة الأوروبية القديمة يتحول إلى عداء.
فلقد كانت الدورات التدريبية عن الحضارة الغربية، التي تتبع الثقافة الأوروبية من الإغريق القدماء إلى الحاضر الأمريكي، ذات يوم، الدعامة الأساسية للجامعات الأمريكية، أما الآن فأصبحت عبارة “الحضارة الغربية” موضع شك.
ويورد الكاتب مقولة أطلقها الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي ذات مرة ومفادها أن “كل ما يفعلونه في أمريكا هو إعادة تشكيل الثقافة الأوروبية القديمة”. ويضيف: لم يعد من المستحيل الآن التصديق أن الثقافة الأمريكية هي مجرد منتج مبهرج وغير كفؤ لموضوعات العالم القديم. ومن منظور قاري، فإنه يتحول إلى شيء غريب تماما، وأكثر غرابة وأصعب في الفهم.