خلال الساعات الأولى من فجر 6 فبراير الجاري، ضرب زلزال مدمر بقوة 7.7 ريختر، كلاً من تركيا وسوريا، وقد امتدت قوته لدرجة أن دول الجوار مثل لبنان والعراق ومصر شعرت به. وتقدر الخسائر في الأرواح والإصابات بالآلاف، ناهيك عن الضربة الموجعة التي تلقتها البنية التحتية في عدد من المدن الواقعة في شمال وجنوب تركيا. وعلى الرغم من كون الكوارث الطبيعية المرتبطة بالزلازل ليست بالأمر غير المعتاد في السياق التاريخي التركي، فقد شهدت البلاد عدداً من الزلازل المدمرة على غرار زلزال الثالث والعشرين من أكتوبر لعام 2011 المدمر، الذي وصلت قوته على مقياس ريختر إلى 7.2 درجة، فإن قوة الزلزال والدمار الناتج عنه، وامتداده على نطاق جغرافي متسع يطرح عدداً من التساؤلات حول أسبابه والسياسات التي يمكن اتباعها للتعامل مع هذا النوع من الكوارث.
محركات متباينة
عانى الشرق الأوسط من زيادة في نسبة الزلازل التي شهدتها دول المنطقة، خلال السنوات الأخيرة، خاصة المناطق المعروفة بكونها بؤراً تقليدية للأنشطة الأرضية غير التقليدية، وتأتي تركيا وإيران على رأس القائمة، إلا أن اللافت في هذه الهزات الأرضية الأخيرة، تعاظم قوتها، وامتدادها لتشمل مناطق ودولاً جغرافية مجاورة، وتسببها في قدر كبير من الدمار، ناهيك عن حدوثها بصورة مفاجئة وتراجع قدرة المتخصصين على رصدها قبيل وقوع الكارثة. ويمكن تناول أبعاد تصاعد تهديدات ظاهرة الزلازل في المنطقة من خلال ما يلي:
1- تأثير التغيرات الهيكلية في جبال زاجروس: يؤدي الجمع فيما بين النشاط الجيولوجي والنشاط الحراري الأرضي إلى معاناة عدد من الدول والمناطق دون غيرها من الزلازل الأرضية. ويعد الشرق الأوسط موطناً لسلسلة جبال “زاجروس” – وتمتد من منطقة كردستان بين تركيا والعراق وإيران شمالاً حتى مضيق هرمز جنوباً – التي تشهد بصورة دورية بعض التغيرات الهيكلية المعقدة، نتيجة حركة الصفيحة الأرضية العربية وتصادمها مع الصفيحة الأرضية الأورو–آسيوية، وهو ما يؤدي في النهاية إلى وقوع موجات متباينة من الزلازل في الدول الواقعة على طول هذه السلسلة الجبلية.
2- احتواء الشرق الأوسط على بؤر للنشاط الزلزالي: حيث يرتبط تصاعد التهديدات المتعلقة بالزلازل في الشرق الأوسط باحتواء المنطقة على بعض بؤر النشاط الزلزالي؛ فعلى سبيل المثال، ثمة كلمة شهيرة تفسر العلاقة بين تركيا والزلازل وهي كلمة “قدر الجغرافيا”؛ حيث تقع تركيا في بؤرة الحزام الزلزالي النشط على طول منطقة هضبة الأناضول. وتعد هذه المنطقة عرضة للكثير من الزلازل المدمرة بفعل البنية الجيولوجية المعقدة لها، وموقعها بين العديد من الصفائح التكتونية الرئيسية؛ حيث تشهد تركيا في المتوسط ما يقارب 1700 زلزال كل عام. بالإضافة إلى ذلك، تقع بعض أهم مدن تركيا بالقرب من بعض خطوط الصدع القارية التي تفصل بين القارتين الآسيوية والأوروبية من ناحية، وبين الجزيرة العربية وتركيا وإيران من ناحية أخرى؛ ما يجعلها أكثر عرضة للاهتزاز بصورة أقوى وأعتى أثناء الزلازل المختلفة، كما تتواجد بؤر أخرى للزلازل بالإقليم، على غرار منطقة جنوب إيران.
3- الانعكاسات الحادة للتغيرات المناخية: لا تنفصل فرص حدوث الزلازل في منطقة الشرق الأوسط عن التغيرات المناخية العالمية؛ فقد يساهم ذوبان الأنهار والبحار الجليدية وارتفاع منسوب المياه في المحيطات من جراء التغيرات المناخية، وارتفاع درجة حرارة الأرض، إلى تصاعد احتمالية تعرض بعض المناطق دون غيرها للزلازل؛ حيث إن ارتفاع منسوب المياه يشير إلى تغير التركيبة الجغرافية للأرض، وزيادة الضغوط على القشرة الأرضية؛ ما يضاعف احتمالية اندلاع الزلازل. يضاف إلى ذلك، مساهمة التغيرات المناخية في ارتفاع منسوب المياه الجوفية في العديد من أماكن العالم؛ ما يمكن أن يترجم إلى زيادة الميل إلى التسييل أثناء الزلازل، وهو ما يعني مضاعفة حجم الخسائر والدمار الناتج عن هذه الزلازل.
4- دور الأنشطة البشرية في مضاعفة حدة الزلازل: بالإضافة إلى العوامل الطبيعية، والتفاعلات الجيولوجية داخل القشرة الأرضية، فإن الأنشطة البشرية قد ساهمت بصورة أو بأخرى في زيادة زعزعة استقرار الصفائح الزلزالية. ويعد التنقيب عن النفط وتكسير الغاز ومشاريع الهندسة الجيولوجية الأخرى، من أبرز الأنشطة التي ضاعفت الضغوط المفروضة على باطن الأرض، وهو ما يعزز إجهاد القشرة الأرضية، ويجعلها أكثر عرضة للزلازل والتحركات الأرضية المفاجئة.
وقد رصد تقرير صادر عن “بلومبرج” في أبريل من عام 2022، تأثير أنشطة التنقيب عن الغاز والنفط والتكسير الكربوني في ولاية تكساس الأمريكية على استقرار الولاية جيولوجياً. وقد أكد التقرير أنه توجد العديد من المؤشرات التي تربط بين تحول الولاية إلى موطن للعديد من الزلازل بالولايات المتحدة، وبين تصاعد وتيرة أنشطة التنقيب والتكسير الكربوني عبر أراضيها، خاصة أنها كانت تتمتع بحالة عامة من الاستقرار الأرضي فيما مضى ولا تقع على مقربة من أي صفائح تكتونية زلزالية.
5- التخوف من وقوع الزلازل الواسعة النطاق: تصاعدت خلال السنوات الأخيرة المخاوف من وقوع زلازل واسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط، وهي الزلازل التي لا تقف تأثيرها عند حدود دولة معينة بل تمتد إلى دول أخرى. ولعل النموذج الأبرز على ذلك، الزلازل الذي وقع في تركيا يوم 6 فبراير الجاري، الذي كان له امتداد تدميري في سوريا، كما شعرت به دول غيرهما بالمنطقة مثل مصر ولبنان والعراق.
سياسات الإنقاذ
يحتاج التعاطي مع هذه الكوارث الطبيعية إلى مزيج من السياسات الكلية والجزئية التي تركز في جزء منها على منع الكوارث قبل وقوعها، وتعمل في شقها الآخر على تقديم خطط واستراتيجيات للتعاطي مع الكوارث في حالة وقوعها. وتعد اليابان من أهم وأبرز الأمثلة الدولية التي يتصدر اسمها المؤشرات العالمية في كيفية التعامل الكفء والفعال مع الكوارث الطبيعية والكوارث الصناعية التي يخلقها البشر على حد سواء. وفي هذا الصدد، يمكن تناول أبرز آليات التعامل مع الزلازل على النحو التالي:
1- الحرص على التوعية المجتمعية: تحرص اليابان، على سبيل المثال، على رفع الوعي المجتمعي بكيفية التعامل مع هذه الكوارث منذ نعومة أظافر مواطنيها؛ حيث يتم منذ الصفوف التعليمية التمهيدية (الروضة) إجراء تجارب محاكاة للتعامل مع إنذار الزلازل؛ وذلك على غرار آليات التدريب والإنذار المبكر المطبقة في جميع المدارس العالمية.
وتركز التدريبات على تعريف الأطفال كيفية الحفاظ على سلامتهم الشخصية، من خلال البقاء في أماكن آمنة في حالة الوجود داخل المبنى، خاصةً تحت المكاتب والمنضدات والموائد، والتمسك بأرجلها حتى انتهاء الزلزال. أما في حالة اللعب في الخارج، فيتم توجيه الأطفال أيضاً بضرورة التوجه مباشرة إلى وسط المساحات المفتوحة، والابتعاد عن الأطراف، تجنباً للحطام المتساقط. هناك أيضاً رحلات ميدانية في اليابان، يتم تنظيمها إلى إدارات الإنقاذ والإطفاء المحلية، ليتعرف الأطفال على زي رجال الحماية المدنية، ويهرعوا إلى طلب المساعدة منهم إذا اقتضت الحاجة ذلك، ناهيك عن وجود أجهزة محاكاة للزلازل في هذه الإدارات، تُعرفهم بالشعور بالزلزال منذ سن مبكرة.
2- توفير أدوات الإنقاذ السريع: تعد السويعات الأولى من الكوارث الطبيعية مرحلة حرجة شديدة الخطورة، تفقد السلطات خلالها القدرة على توفير الرعاية والتدخلات اللازمة للحفاظ على الكثير من الأرواح؛ وذلك لصعوبة حصر وتقدير التوزيع الجغرافي للمناطق المنكوبة، ناهيك عن تعرض الأجهزة الحكومية في ذاتها لضربات وخسائر بنيوية قد تجعلها عاجزة عن تقديم المساعدة بأي صورة؛ لذلك تعتمد السلطات اليابانية على مفهوم الحماية والإنقاذ الذاتي؛ حيث يتم تزويد المواطنين بحقيبة للكوارث؛ وذلك على غرار حقيبة الإسعافات الأولية.
وتتضمن هذه الحقيبة عدداً من المواد الطبية اللازمة للإسعافات الأولية، بالإضافة إلى تضمنها ملابس مصنعة من مواد خاصة، لحماية البشرة من المواد الضارة والحرارة، مرتفعة كانت أم منخفضة، ناهيك عن تضمنها مواد غذائية سريعة التحضير، تشبه كثيراً في مكوناتها وعناصرها الغذائية وآلية تحضيرها المواد الغذائية التي تستخدمها الجيوش المختلفة لتوفير حصة غذائية سريعة ومتوازنة لجنودها، التي عادةً ما يُشار إليها بالاختصار الإنجليزي “MRE”. وتحتوي هذه الحقائب أيضاً على قفازات وأقنعة وأدوات تساعد على الاستمرار في التواصل مع العالم الخارجي، على غرار المشاعل حتى أجهزة الراديو التي تبث تحديثات منتظمة للمواطنين.
3- ضمان مرونة شبكات المواصلات: الحفاظ على الاتصال بين أجزاء البلاد هو إجراء أصيل في استراتيجية التعامل مع الكوارث المختلفة؛ فعدم القدرة على إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة قد يضاعف حجم الخسائر البشرية والمادية التي قد تتكبدها أي دولة تتعرض لكوارث مختلفة، وفي مقدمتها الزلازل. وتحافظ الدول على هذا الاتصال بالاعتماد على وسائل النقل الأسرع التي تتناسب مع طبيعتها الجغرافية.
وفي هذا الإطار، تلجأ بعض الدول، مثل اليابان، نتيجة للطبيعة الطبوغرافية المعقدة، إلى الاعتماد المكثف على الطائرات بدون طيار، وشبكات القطارات الفائقة السرعة “شينكانسن”. وتربط هذه الشبكات بين المناطق الريفية والحضرية اليابانية المختلفة، كما تمتلك أجهزة استشعار عالية الحساسية للزلازل والتغيرات في البيئة المحيطة، ويتم تشغيل هذه الأجهزة في حالة استشعار الخطر.
ففي عام 2011 – على سبيل المثال – عندما ضرب زلزال بقوة 9 ريختر البلاد، توقفت جميع القطارات السريعة السبعة والعشرون التي كانت داخل نطاق الخدمة بالتزامن مع حدوث الزلزال، وهو ما أدى إلى عدم وقوع قتلى أو حتى إصابات، كما لم تدخل البلاد في حالة من الشلل التام نتيجة تضرر وتوقف العمل في شبكات مواصلاتها الرئيسية، كما هو معتاد في حالة وقوع كوارث من هذا النوع.
4- تطوير تصميمات إنشائية مرنة: دفعت الكوارث الطبيعية الدول إلى تطوير تصميمات مرنة resilient design؛ حيث يعبر مفهوم التصميم المرن عن الاقترابات والمداخل المختلفة التي يمكن أن تزيد الأمن من خلال تصميمات للمباني تقلل حدة الأضرار وتدعم إمكانية التعافي السريع وصولاً إلى مستويات التشغيل العادي. فالتصميمات وفقاً لهذا الطرح يجب أن يتم بناؤها – على سبيل المثال – بمواد صلبة مقاومة للزلازل، كما يجب تصميم المباني بطريقة تسهل عملية الخروج منها بسرعة، وكذلك تحديد مسارات وإرشادات الإخلاء للمبنى في حالة الطوارئ.
5- أهمية التعاون والتضامن الدولي: رُصدت الملايين من الدولارات وعُقدت الكثير من المؤتمرات الدولية للتعامل مع التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، إلا أن كثيراً من هذه الجهود الدولية لم يتم تفعيلها على أرض الواقع بصورة فعالة وبناءة للتعاطي مع حجم الخطر الذي يحيق بالكرة الأرضية. وتأتي الكوارث الطبيعية – على غرار أزمة زلزال تركيا وسوريا الأخير – لتسلط الضوء على أهمية التضامن الدولي لتطوير آليات متقدمة للتعاطي مع هذه الكوارث المختلفة، وخاصة أن الكثير من الدول عرضت تقديم المساعدة لأنقرة والمساهمة في جهود الإغاثة.
أخيراً، فإن التهديدات غير التقليدية، مثل الزلازل، ستظل واحدة من القضايا الجوهرية. ويبدو أن الكوارث الطبيعية ستحجز لها مقعداً على قائمة الموضوعات ذات الأولوية القصوى في عام 2023، بجانب الأزمة الاقتصادية، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وهو الأمر الذي يفرض على الدول تطوير سياسات التعافي الخاصة بها لمجابهة التهديدات التي تمثلها الكوارث الطبيعية.