نشر موقع "فورين أفيرز" مقالاً للكاتب ستيفن والت بعنوان "الصديق عند الحاجة: ما كشفته الحرب الأوكرانية عن التحالفات"، وهو المقال الذي أشار الكاتب فيه إلى أن استجابة الناتو للحرب الأوكرانية تقدم أدلة جديدة واقعية على كيفية عمل التحالفات المعاصرة في الممارَسة العملية، موضحاً أن السلوكيات الأخيرة لروسيا والغرب تؤكد أن الدول تشكل تحالفات؛ لا لموازنة القوة، بل لموازنة التهديدات. ورأى الكاتب أنه في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو التعددية القطبية، فإن التحالفات ستكون أكثر أهميةً.
ووفقاً للمقال، فإنه في عصر لا يُوجَد فيه دولة واحدة تقف – دون منازع – على قمة النظام الدولي، سيعتمد النجاح على قدرة القوى المتنافسة على تشكيل مجموعة مُتماسِكة من التحالفات القادرة على ممارَسة القوة بشكل جماعي. ويعتقد “والت” أن الحرب الأوكرانية وتداعياتها تؤكد أن القادة قد يرتكبون كارثة إذا فشلوا في فَهم سبب تشكُّل التحالفات وكيفية عملها. ومن ناحية أخرى، أوضح المقال أن طريقة استجابة الناتو للحرب الأوكرانية قد كشفت الكثير حول فضائل الحلف، وفي الوقت ذاته كشفت عن “أمراضه” المستعصية؛ إذ إنه في الوقت الذي أعطت فيه الحربُ الناتو فرصةً جديدةً للحياة وأظهرت قيمة إجراءاته الراسخة؛ أكدت أيضاً اعتماد أعضائه الأوروبيين على الولايات المتحدة بقدر كبير، وهو ما له آثار سلبية خطيرة، وفق ما ورد في المقال.
توازن ضد التهديدات
يجادل “والت” بأن الدول تُشكِّل تحالفات؛ لا لموازنة القوة، بل لموازنة التهديدات، ويستشهد في إطار ذلك بعدد من الأدلة من الحرب الأوكرانية، وهي:
1– اقتراب روسيا من الصين لقلقها من اقتراب الناتو من حدودها: أوضح المقال أن الدول القوية عادةً ما تكون أكثر إثارةً للقلق لدى جيرانها المُباشِرين، خاصةً عندما تكون هذه الدول على استعداد لاستخدام القوة لتغيير الوضع الراهن. وأشار المقال إلى أن هذا الأمر يُفسِّر سبب اعتبار موسكو أن توسيع الناتو يُعَد تهديداً؛ إذ إن تحالُف قُوى من الديمقراطيات كان يتقدَّم ببطء نحو الحدود الروسية، وفق ما ذكر المقال.
علاوةً على ذلك، كانت الولايات المتحدة ملتزمة علانيةً – بحسب المقال – بنشر الديمقراطية، واستخدمت القوة للقيام بذلك في عدة مناسبات في الآونة الأخيرة. ولشعور موسكو بالتهديد، ردَّت عليه – طبقاً للمقال – بالاقتراب من الصين، ومحاولة منع الناتو من التحرك أبعد شرقاً، لكنها لم تستطع إقناع أوكرانيا بالتخلي عن هدف الانضمام إلى الغرب أو إقناع الناتو بتعليق سياسة “الباب المفتوح”، فلجأت إلى التدخل العسكري في أوكرانيا بعد ذلك.
2– تكاتف الغرب لتقديم دعم لأوكرانيا رداً على التدخل الروسي: نوَّه المقال أن رد فعل روسيا على اقتراب حلف الناتو من حدودها، عزز شعور الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بالتهديد؛ ما دفع الغرب إلى الاقتراب أكثر من أوكرانيا. ولفت المقال إلى أنه عندما استولت روسيا على القرم في عام 2014، فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات جديدة على موسكو وبدأت تُسلِّح وتُدرِّب الجيش الأوكراني.
كما أدَّى تدخُّل روسيا في الانتخابات الأمريكية والأوروبية – وفقاً للمقال – ومحاولاتها تسميم المنفيين الروس، وغيرهم من المعارضين السياسيين، إلى تفاقم المخاوف الغربية؛ ما أدى إلى نشر قوات إضافية في أوروبا، كما زاد الدعم لأوكرانيا في عهد الرئيس الأمريكي “جو بايدن”. وبحسب المقال، أزال التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في فبراير 2022 أي شكوك بشأن أهداف موسكو التعديلية، وأثار رد فعل سريعاً وبعيد المدى من جانب الغرب؛ إذ فرض أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا، ودعموا أوكرانيا بأسلحة متطورة.
3– تزايد التضامن الغربي ضد روسيا باعتبارها قوة نووية قريبة: أكد المقال أن ردود الفعل الغربية على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا كانت طبيعية، مضيفاً أنه على الرغم من أن أداء الجيش الروسي كان سيئاً طوال فترة الحرب، فإن قلق الغرب منها تصاعد، وتضامن دوله ازداد؛ لكونها لا تزال قوة صناعية كبرى تمتلك مخزوناً كبيراً من الأسلحة النووية وجيشاً كبيراً وإمكانات عسكرية كبيرة، كما تقع على حدود العديد من أعضاء الناتو، بما في ذلك دول البلطيق المُعرَّضة للخطر، وفق ما ذكر المقال.
4– محاولة فنلندا والسويد الانضمام إلى الناتو لموازنة تهديد موسكو: استمر المقال في تقديم المزيد من الأدلة على أن الدول تُوازِن التهديدات لا القوة؛ وذلك بتسليط الضوء على سلوك السويد وفنلندا بعد الحرب الأوكرانية؛ إذ تخلت كل منهما عن سياسة الحياد التي عملت بشكل جيد لسنوات عديدة. ووفقاً للمقال، فإنه على الرغم من أن روسيا في عام 2022 كانت أضعف بكثير من الاتحاد السوفييتي السابق، لكن “بوتين” كان أكثر استعداداً لممارسة القوة العسكرية مما كان عليه القادة السوفييت؛ ما جعل روسيا أكثر تهديداً للسويد وفنلندا اللتين اندفعتا نحو السعي إلى الحصول على حماية إضافية من خلال عضوية الناتو.
5– تفضيل بعض الدول البقاء على الحياد بشأن حرب أوكرانيا: يعتقد المقال أن ميل الدول إلى تحقيق توازن التهديدات يفسر أيضاً سبب بقاء بعض الدول على الحياد؛ حيث أكد أنه على الرغم من أن هجوم روسيا على أوكرانيا لا يُشكِّل أي تهديد لإسرائيل أو بعض الأعضاء البارزين في “الجنوب العالمي”، بما في ذلك الهند والسعودية، فإن هذه الدول تُدرِك أن اتخاذ موقف أكثر حزماً ضد روسيا من شأنه أن يُعرِّض مصالحها للخطر.
أخطاء “بوتين”
أكد المقال أن روسيا تصرَّفت بطرق خاطئة ساعدت في زيادة قوة التحالف الغربي ضدها. ودلل المقال على هذه التصرفات بما يلي:
1– التقدير الخاطئ لرد فعل الغرب على التدخل بأوكرانيا: أشار المقال إلى أن فشل “بوتين” في إدراك أن الدول تتحالف لمُوازَنة التهديدات، وأن رد الفعل الغربي سيكون قوياً على التدخل العسكري الروسي؛ كان خطأً فادحاً منه. وبحسب المقال، يبدو أن الرئيس الروسي افترض إما أن كييف ستسقط قبل أن يتمكن الناتو من التصرف، وإما أن أعضاءه سيكتفون بالاحتجاجات اللفظية والعقوبات. ويرى المقال أنه كان مخطئاً في كلتا الحالتين؛ إذ تجد روسيا نفسها الآن تقاتل خصماً يدعمه شركاء بإجمالي ناتج محلي يزيد عن 40 تريليون دولار (مقارنةً بـ1.8 تريليون دولار في روسيا)، وتنتج صناعاتهم الدفاعية أكثر الأسلحة فتكاً في العالم.
2– طرح “بوتين” مطالب غير واقعية على الغرب قبل الحرب: أوضح المقال أنه على عكس المستشار الألماني “أوتوفون بسمارك”، الذي تلاعب بفرنسا بذكاء لمهاجمة بروسيا في عام 1870، وضع “بوتين” مسؤولية ما وصفه المقال بـ”العدوان” على كاهله؛ إذ يرى المقال أنه كان لدى روسيا أسباب مشروعة للقلق بشأن إجراءات دمج أوكرانيا في المؤسسات الاقتصادية والأمنية الغربية، لكن مُطالَبة الناتو قبل الحرب بضمان الحياد الأوكراني بشكل دائم، وإزالة جميع القوات العسكرية من أراضي الأعضاء المُعترَف بهم بعد عام 1997، بدا كأنه ذريعة للتدخل العسكري، وليس موقفاً تفاوضياً جاداً، وفق ما ذكر المقال.
3– استخدام “بوتين” خطابات دبلوماسية متحدية للغرب: جادل المقال بأن خطب وكتابات “بوتين” لم تكن ترفض الاستقلال الأوكراني كما يؤكد منتقدوه، إلا أن إصراره على أن الروس والأوكرانيين “شعب واحد”، وأن أوكرانيا تقع تحت سيطرة القوى الخارجية، عزَّز الشكوك بأن هدفه الحقيقي هو استعادة إمبراطورية روسية جديدة، وربما توسيعها. وبدلاً من بذل جهود كبيرة لإقناع الآخرين بأن أهدافه محدودة ودفاعية – وهو الموقف الذي يعتقد المقال أنه ربما كان سيُقوِّض الوحدة الغربية إلى حد ما – سهَّل خطاب “بوتين” والموقف الدبلوماسي المتحدي لروسيا الحفاظ على وحدة التحالف الغربي.
4– ارتكاب “جرائم حرب وفظائع” خلال الحرب الأوكرانية: أكد المقال أن ما وصفها بـ”جرائم الحرب والفظائع” التي ارتكبتها القوات الروسية خلال الحرب نفسها، عزَّزت التعاطف الخارجي مع أوكرانيا، كما أطلق الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” – وفقاً للمقال – برنامجاً إلكترونياً للعلاقات العامة بارعاً للحفاظ على المساعدات الغربية، مضيفاً أن سلوك روسيا في الحرب سهَّل مهمته كثيراً.
سلبيات الناتو
أشار المقال إلى أن الحرب الأوكرانية أكدت أهمية المؤسسات؛ إذ تساعد القواعد المشتركة وإجراءات صنع القرار الراسخة الحلفاء على الوصول إلى قرارات جماعية وتنفيذها بشكل أسرع وأكثر فاعليةً. ويعتقد المقال أنه إذا لم يكن الناتو موجوداً، وكان على أعضائه ابتكار استجابة جماعية للحرب في أوكرانيا من الصفر، فمن الصعب تخيُّل رد فعلهم بكفاءة كما حدث في الواقع، كما يرى أن قرار الناتو السريع بدعم أوكرانيا وقدرته على تقديم هذا الدعم، يؤكد أن التحالفات ذات المؤسسات الجيدة تعمل بشكل أفضل من التحالفات المُخصَّصة من النوع الذي شكَّلته روسيا مع إيران أو كوريا الشمالية.
وعلى الرغم من ذلك، أكد المقال أن حلف الناتو يُعانِي من بعض أوجه القصور، ومن أبرزها ما يلي:
1– مواجهة الحلف مشكلات نتيجة قيود قاعدة الإجماع: أوضح المقال أن إجراءات حلف الناتو القائمة على الإجماع، يمكن أن تخلق مشاكل بداخله؛ وذلك بالنظر إلى حالة تركيا التي سعت إلى انتزاع التنازلات من السويد أو منع دخولها إلى الناتو.
2– وجود سلبيات لقيادة واشنطن للحلف على باقي الدول: نوه المقال أن الولايات المتحدة بذلت جهوداً أكثر من أي عضو آخر في الناتو في الحرب الأوكرانية، مضيفاً أن واشنطن حددت، إلى حد كبير، استراتيجية الناتو الشاملة تجاه الصراع. ويعتقد المقال أن جعل دولة واحدة في مقعد القيادة يسهل تنظيم استجابة سريعة، لكن الدور البارز للولايات المتحدة في حلف الناتو له أيضاً جانب سلبي خطير.
ووفقاً للمقال، فإنه في ضوء أن واشنطن ضمنت منذ فترة طويلة أمن حلفائها “الأثرياء”، ترك الحلفاء قواته المسلحة تتآكل وتصبح معتمدة بشكل خطير على الحماية الأمريكية. ويرى المقال أنه لو لم تَستجِب واشنطن للتدخل العسكري الروسي – كما كان من الممكن أن تفعل في عهد رئيس مختلف – لم يكن بإمكان أعضاء الناتو الأوروبيين فعل الكثير لمساعدة أوكرانيا، وكان من الممكن أن تكون احتمالات فوز روسيا أكبر.
3– غياب تقسيم العمل بين واشنطن والأعضاء الأوروبيين: وفقاً للمقال، يرى البعض أن الحرب الأوكرانية أكدت أن القيادة الأمريكية لا تزال لا غنى عنها، لكنَّه يعتقد أن الدرس الحقيقي لهذه الحرب هو أن تقسيم العمل بين الولايات المتحدة وأوروبا أمر ممكن وقد طال انتظاره. وبحسب المقال، فإنه بينما تبدو روسيا مهددة الآن، ومن المتوقع أن تكون أضعف في المستقبل، ففي المقابل فإن لدى أعضاء الناتو الأوروبيين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الأشخاص في روسيا، وأكثر من عشرة أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي، كما ينفقون ثلاثة إلى أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على الدفاع كل عام.
وأضاف المقال أنه إذا تم تنظيم ذلك وقيادته بشكل صحيح، فإنه يمكن للدول الأوروبية الدفاع عن نفسها ضد روسيا بمفردها. وأكد المقال أن ذلك يتطلَّب من الدول الأوروبية إعادة بناء قواتها، وتولِّي المسؤولية الأساسية للدفاع عن نفسها تدريجياً، بينما تتحول الولايات المتحدة من كونها المستجيب الأول لأوروبا إلى كونها حليفها وملاذها الأخير. وشدد المقال على أن تقاسم الأعباء داخل الناتو سيسمح للولايات المتحدة بالتركيز على تحقيق التوازن مع الصين في آسيا، وهي مهمة لا ترغب الدول الأوروبية في القيام بها، بل لا تستطيع ذلك.
وختاماً، أكد المقال أنه في عالم ناشئ متعدد الأقطاب، من المرجح أن تنجح الدول التي يمكنها جذب الحلفاء والاحتفاظ بهم أكثر من الدول التي تتسبب أفعالها في توحيد القوى ضدها؛ فإذا كان أي من القادة يفكرون إذا ما كانوا سيشنون حرباً لتغيير الوضع الراهن، فإن المقال يعتقد أن أخذ هذا الدرس على محمل الجد سوف يُجنِّبهم قدراً كبيراً من المتاعب، ويؤدي إلى عالم أكثر سلاماً وازدهاراً.