• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
مقالات مترجمة

كيف أضعفت الحرب الأوكرانية استراتيجية المنطقة العازلة الأوروبية؟


ساهمت الحرب الأوكرانية في تصاعد حدة التهديدات الأمنية للدول الأوروبية؛ فخلال الحقبة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت الدول الأوروبية، وخاصةً في غرب أوروبا، تراهن على ضعف روسيا، وكذلك تراهن على تحوُّل مجموعة من الدول في شرق أوروبا إلى مناطق عازلة بين موسكو وأوروبا الغربية. ولكن جاءت الحرب الأوكرانية لتفكك الكثير من هذه المعادلات الأمنية؛ فقد بدا أن روسيا قادرة على توظيف الأداة العسكرية في إدارة علاقاتها مع الدول الغربية. والأمر لم يكن قاصراً على حالة أوكرانيا؛ فمخاوف التدخل العسكري تفاقمت في أغلب المجتمعات الأوروبية، وخاصةً المتاخمة لأوكرانيا. وفي هذا الصدد، نشر موقع "فورين بوليسي" الاميركي، مقالاً بعنوان "حدود أوروبا الجديدة: تحوُّل الدول الأوروبية من المنطقة العازلة إلى الحدودية"، للكاتبة ناتالي توتشي التي تتناول من خلاله تأثيرات الحرب الأوكرانية على الأمن الأوروبي، ودورها في تقويض استراتيجية المنطقة العازلة بينها وبين روسيا.

المنطقة العازلة

على مدار عقود، كانت فكرة المنطقة العازلة مُكوِّناً هاماً في معادلة العلاقات بين الدول الغربية، والأوروبية بالأساس، وبين روسيا؛ إذ استدعت هذه الفكرة عدداً من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1المراهنة على المنطقة الرمادية بين أوروبا وروسيا: في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ الاعتقاد غير المعلن بأنه ستكون هناك منطقة رمادية gray zone – وهي المنطقة الواقعة بين السلام والحرب، وتمثلها الأنشطة التي تقوم بها دولة ما، وتضر بدولة أخرى؛ أي تعتبر ظاهرياً أعمال حرب، لكنها من الناحية القانونية ليست أعمالاً حربية – بين بقية أوروبا وبين روسيا، بالانتشار في الغرب؛ حيث تتكوَّن تلك المنطقة الرمادية من دول أوروبا الشرقية، مثل أوكرانيا ومولدوفا وبيلاروسيا، ودول في جنوب القوقاز؛ وربما دول غرب البلقان وتركيا أيضاً.

2تراجع رغبة الاتحاد الأوروبي في التوسع: تفترض “توتشي” أن الدول العازلة Buffer States” – وهي الدول الواقعة بين خصمَين أو عدد من القوى العظمى، بهدف منع الصراع بين الأطراف المتنازعة – خدمت غرضاً مزدوجاً؛ فمن خلال وقف توسُّع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، سمحت تلك الدول للمنظمتين، وخاصةً الأخيرة، بالتركيز على أنفسهما؛ حيث فقد الاتحاد الأوروبي، بحسب المقال، بعد القلق من التحديات التي تزعج جيرانه، الرغبة في التوسع.

3استرضاء روسيا عبر استراتيجية المنطقة العازلة: اللافت أن اعتماد الدول الأوروبية على استراتيجية المنطقة العازلة كان يرتبط بالتخوف من رد فعل موسكو؛ فقد كان تجميد توسع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو يعني الاجتماع والتفاهم مع روسيا، بالنظر إلى معارضة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للاتحاد، على أساس ما يُزعم من مخاوف موسكو الأمنية.

السياق الجديد

لقد أثبتت حرب أوكرانيا صعوبة المراهنة على استراتيجية المناطق العازلة بين الدول الأوروبية وبين روسيا؛ فقد خلقت الحرب إشكاليات عديدة للدول الأوروبية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- تحطيم الحرب الأوكرانية استراتيجية المناطق العازلة: غالباً ما كان الطامحون للانضمام إلى المنظمات الأوروبية، يتظاهرون بالإصلاح، بينما تتظاهر تلك المنظمات بأنها ستستقبلهم في النهاية. لكن توسُّع الاتحاد الأوروبي تقلَّص مع عملية انضمام معقدة، وسياسة جوار أوروبية باهتة، تهدف نظرياً إلى تقديم كل شيء باستثناء المشاركة في مؤسسات الاتحاد، أما من الناحية العملية فتهدف إلى الوصول إلى اتفاقيات تجارة حرة شاملة مع عدد قليل من الدول فقط.

لذلك فإنه بعد اعتقاد العديد من الخبراء بأن استراتيجية المنطقة العازلة بين روسيا وبين بقية دول أوروبا كانت جيدة بما يكفي، حطَّم التدخل الروسي في أوكرانيا هذا الاعتقاد؛ فوفقاً للزعم الروسي، أصبحت الحرب حتميةً بسبب توسع الناتو. لكن، روسيا تدخلت في أوكرانيا دون أن يكون للأخيرة أيُّ احتمال واقعي لدخول الاتحاد الأوروبي. ومن الصعب معرفة إذا ما كانت الحرب ستندلع، لو كانت أوكرانيا عضواً في إحدى المنظمتين أو كلتيهما.

2تكريس الحرب فكرة الدول الحدودية بين أوروبا وروسيا: هناك حقيقة باتت واضحة، وهي أنه لا يوجد مناطق عازلة بين بقية أوروبا وبين روسيا، وإنما دول حدودية frontier states، وهي الدول التي توجد بالقرب من الحدود السياسية، وتخضع لقيود خاصة في الحركة؛ فعلى جانب واحد من الحدود، يمكن تحقيق الازدهار والأمن والديمقراطية – وإن لم يكن ذلك مضموناً، كما هو الحال في المجر وبولندا – أما على الجانب الآخر، وبحسب التقارير الغربية، فإن الاستبداد والحرب ورأسمالية الدولة، هي القاعدة وليست الاستثناء.

يعيد ذلك، وبقوة، مسألة توسع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؛ فبعد أقل من أسبوع من بدء التدخل العسكري الروسي، تقدَّمت أوكرانيا بطلب للحصول على عضوية الاتحاد. وفي سبتمبر عام 2022، تقدَّمت كييف أيضاً بطلب للحصول على عضوية الناتو. ولكن في خضم الحرب، قد تبدو تلك التحركات رمزية بحتة. ومع ذلك، فإن الحماسة التي اتبعتها حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تحقيق هذه الأهداف، حقيقية فعلاً. وبالرغم من ذلك، فإن الحرب أثبتت، بصورة عامة، أنه لا توجد منطقة عازلة مستقرة بين بقية أوروبا وبين روسيا.

3إحباط استراتيجية المنطقة العازلة طموحات شرق أوروبا: من الواضح أن استراتيجية المنطقة العازلة كانت دون المستوى الأمثل؛ إذ أحبطت طموحات دول أوروبا الشرقية، بحسب الكاتبة، في الازدهار والديمقراطية والأمن؛ فلم تنجح تلك الاستراتيجية في استرضاء روسيا، كما يتضح من حرب عام 2008 في جورجيا، والحرب في أوكرانيا في عام 2014، وتفاقم النزاعات التي لم تُحَل في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وترانسنيستريا. بدلاً من ذلك، أثبتت الاستراتيجية أن الاتحاد الأوروبي، غير المثقل بالتوسع، سوف يُعمِّق التكامل ويُصلح مؤسساته؛ لأنه بالكاد اجتاز أزماته المتتالية.

4زيادة الضغوط على الاتحاد الأوروبي لقبول أعضاء جدد: لقد مُنحت أوكرانيا ومولدوفا ترشيح الاتحاد الأوروبي، بينما تم الاعتراف بجورجيا مرشحاً محتملاً. ولكن أدى القلق من ترك غرب البلقان خلف الركب، جزئياً، إلى إعادة إشعال عملية الانضمام الخاملة نحو تلك المنطقة، مع بدء محادثات الانضمام مع مقدونيا الشمالية وألبانيا، فضلاً عن الاعتراف بترشيح البوسنة والهرسك العام الماضي.

في حين أن دول أوروبا الشمالية والشرقية، التي تدرك تماماً التهديد الروسي، كانت – تقليدياً – أكثر تعاطفاً مع المزيد من التوسعات في الشرق، إلا أن دول أوروبا الغربية لم تكن لتقر بذلك أبداً لو لم تبدأ الحرب. ومع ذلك، عندما سافر المستشار الألماني أولاف شولز، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي آنذاك ماريو دراجي معاً، إلى كييف في العام الماضي، أصبح من الواضح إذن أن من المستحيل سياسياً رفض مطالب زيلينسكي.

5استمرار حالة عدم السلام في أوروبا: سوف يتضح بشكل متزايد، أن تكاليف مغادرة أوكرانيا إلى الجانب الآخر من الحدود، ستكون باهظة للغاية بالنسبة إلى أوروبا؛ هذا بسبب الروابط الوثيقة بين الديمقراطية والازدهار والأمن في القارة. حتى في أفضل الظروف – أي إذا حرَّرت أوكرانيا معظم أراضيها وكانت على استعداد للتفاوض مع روسيا – فإن السلام المستقر غير مُرجَّح، ما دام الرئيس “بوتين” في السلطة، بل يمكن أن يظل مستحيلاً حتى بعد ذلك، إلى أن تتخلى روسيا عن طموحاتها الإمبريالية. قد يستغرق هذا وقتا طويلاً جداً؛ لذا فإنه حتى لو انتهت الحرب في وقت ما، فمن المحتمل أن تتبعها حالة مطولة من عدم السلام.

سيظل الأمن في أوروبا غير مستقر، ومن المحتمل أن تصبح أوكرانيا دولة “مفرطة التسلح hypermilitarized state” للدفاع عن نفسها. ومن ثم، فإنه مع انعدام الأمن العميق الذي يصاحبها، من الصعب تخيل أن كييف ستشهد الكثير من إعادة البناء الاقتصادي وتوطيد الديمقراطية.

6معضلة إعادة إعمار أوكرانيا: سوف تكلف عملية إعادة إعمار أوكرانيا عشرات المليارات من الدولارات، وسترتفع الفاتورة مع كل يوم من الدمار؛ لذا تطالب الدول الغربية بضرورة تحمُّل روسيا فاتورة الحرب. لكن من غير المرجح أن يحدث هذا، ما دام النظام الحالي – أو نظام مثله – في السلطة في موسكو.

لذلك يستكشف الغرب، ولا سيما مؤسسات الاتحاد الأوروبي، السبل القانونية لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لإعادة إعمار أوكرانيا، إلا أنه من غير المرجح أن ينجح بطريقة مجدية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والدول الأخرى ذات التفكير المماثل ستُساهم، فإن نصيب الأسد من إعادة الإعمار سوف يقع على عاتق الأوروبيين. لن يكون القيام بذلك واجباً أخلاقياً فحسب، بل سيصبُّ أيضاً في المصالح الاستراتيجية لأوروبا.

7بحث أوروبا عن آليات جديدة لدفع تكاليف إعادة الإعمار: لقد أنفقت الدول الأوروبية بالفعل مئات المليارات من الدولارات على الوباء وأزمة الطاقة، بالإضافة إلى مساعدة أوكرانيا واستضافة اللاجئين الأوكرانيين، وسوف يحتاجون إلى مواصلة إنفاق مليارات الدولارات أيضاً؛ لتسريع انتقال الطاقة وتطوير سياسة صناعية لا تترك الاتحاد الأوروبي في حالة فراغ بسبب المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وبناءً عليه، فمن الصعب دفع تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا من الميزانيات العامة فقط، ما لم ترتفع الديون الأوروبية بشدة.

الطريقة الوحيدة للخروج من ذلك المأزق، بحسب توتشي، هو تطوير إطار عمل يُحفِّز القطاع الخاص على تحمل جزء كبير من الفاتورة. ولكن في ظروف انعدام الأمن الشديد، يتطلَّب ذلك ضمانات الحوكمة وسيادة القانون التي تأتي مع عضوية الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الضمانات الأمنية المصاحبة لعضوية الناتو. ومن ثم، سيصبح هذا ضرورة اقتصادية لدول أوروبا الغربية والجنوبية، بقدر ما هو ضرورة أمنية لدول الشمال والشرق.

خلاصة القول أن الحرب الأوكرانية أضعفت استراتيجية المنطقة العازلة التي اعتمدت عليها الدول الأوروبية خلال السنوات الماضية. علاوةً على ذلك، فقد أكسبت الحرب مسألة توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي المزيد من الزخم. صحيح أنه تم تجاهل مسألة التوسيع والانضمام إلى المنظمات الأوروبية لسنوات؛ حيث اعتقد العديد من الخبراء أن أوروبا يمكن أن تعيش بدونها، ولكن سوف يدرك الأوروبيون، بمن فيهم البعيدون عن الحدود، أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها.