كثر الحديث بعد معركة “سيف القدس” التي خاضتها فصائل المقاومة الفلسطينية عام 2021 في مواجهة آلة العدو العسكرية، انتصاراً للقدس والأقصى؛ حيث قصفت فيها المقاومة وعلى مدار عشرة أيام العمق الفلسطيني المحتل بمئات الصواريخ، غير موفرة -الفصائل- حزام مغتصبات غلاف غزة من نصيبها في رشقات نار المدفعية؛ المباشرة منها والقوسية.
كما أن الحركات المعادية لهذا الكيان، والتي ترى فيه مغتصباً محتلاً لفلسطين، والممتدة -الحركات- على طول دول الطوق الفلسطيني وعرضه القريبة من أرضنا المحتلة، أو تلك التي تأتي في الدائرة الثانية من دوائر التهديد المُعرّفة لدى العدو.
كل تلك الحركات من “حزب الله” في لبنان، مروراً بفصائل الحشد الشعبي والعشائري في العراق، وانتهاءً بحركة “أنصار الله” في اليمن؛ كلها تحدثت عن أنها جاهزة للمشاركة في أي جهد تطلبه المقاومة الفلسطينية.
بغض النظر أكان هذا الجهد عسكرياً تعبوياً مباشراً، أو معنوياً داعماً بكل وسائل الدعم المعنوي، بل أكثر من ذلك، فقد وصلت طلائع الحشد العشائري والشعبي العراقي إلى مشارف الحدود الأردنية طالبة من سلطاتها الحاكمة أن تفتح لها الحدود وتخلي بينها وبين هذا العدو، ليؤدوا قسطهم في هذه المعركة التي لم تطُل لأكثر من عشرة أيام.
وهنا لا بد من التذكير بأن كثيراً من فصائل العمل السياسي الممتدة في عالمنا العربي والإسلامي هي أيضاً قد أدلت بدلاءها، وكل حسب قدرته وإمكانياته في تأييد المقاومين في فلسطين؛ كل فلسطين.
بعد هذه المعركة، وذاك الحراك، بدأنا نسمع مصطلح “وحدة الساحات” و “تقاطع نار” المقاومين في سماء فلسطين، الأمر الذي جعل العدو المحتل في هذا الكيان المؤقت يشعل أضواء الإنذار، ويقرع أجراس الخطر، من أن هذا الأمر -وحدة الساحات- إن تحقق فعلاً؛ فإنه سوف يواجه معضلة وجوديةً، وتهديداً ذا مصداقية على أصل وجوده وبقاء كيانه المؤقت، مما رتب ويرتب على قوى المقاومة في داخل فلسطين، وتلك التي تؤيدها وتشاركها زاوية النظر إلى هذا العدو، يرتب عليها مسؤولية تحويل هذه الفكرة -وحدة الساحات- النظرية إلى إجراءات عملية وخطط تنفيذية، يُتطلب قبلها التفاهم على مجموعة من المتطلبات والإجراءات التي يأتي في مقدمتها توحيد الفهم حول هذا المصطلح وما يترتب عليه من اشتقاقات، كون الحكم على الشيء فرعٌ من تصوره، الأمر الذي ستناقشه هذه الورقة بدءاً من تعريف المفهوم، ثم عرض أهم متطلبات تحويله من فكرة إلى إجراء، وانتهاء ببعض التوصيات التي تخدم في هذا السياق، علّنا بذلك نقدم فكرة تنفع في مكان ما، أو نشعل شمعة تبدد ظلمة الاحتلال وتسارع في دفعه إلى الزوال.
في تعريف المفهوم:
وحيث أن الحكم على الشيء فرعٌ من تصوره؛ لذلك فإن قراءة المفهوم بشكل نظري يشي ويشير إلى أن القصد منه أن هناك مجموعة من ساحات العمل، تضم مجموعة من الفاعلين الذين تتقاطع مصالحهم وأهدافهم على العداء لعدو واحد، وأن الإضرار به، ومنعه من تحقيق أهدافه، وإضعافه مادياً ومعنوياً، كلها أمور تصب في المصالح الكلية -الدنيوية والأخروية- لهؤلاء الفاعلون.
الأمر الذي يتطلب منهم جميعاً أن (يتوحدوا) في مواجهة هذا العدو وضربه واستهداف مصالحه، في معركة لكل منهم فيها نصيب.
هذا هو التفسير الكلي لهذا المفهوم الاستراتيجي، دون أن نغرق في تعريف المصطلحات، وسوق الدواعي والمبررات.
فإذا كان هذا التعريف صحيحاً في كله؛ أو صائباً في بعضه؛ فإننا نعتقد أنه سيبقى حبيس العقول، ومن باب الرغائب والتمنيات، ما لم يتم تأمين مجموعة من المتطلبات التي تنقله من عالم العقول إلى حقل المعقول، ومن أهم هذه الضروريات ما يأتي:
توحيد الفهم حول أصل المفهوم وما ينبني عليه:
إن أول متطلب من متطلبات إخراج هذا المصطلح إلى حيز الوجود كإجراءات وخطط عمل هو؛ التفاهم على معنى أو معاني هذا المفهوم، وما ينبني عليه من إجراءات والتزامات، يجب على كل القوى التي ترى أنها تناصب هذا المحتل العداء، وأن في زواله تحقيقاً لأهدافها، ودرباً موصلاً إلى غاياتها.
يجب على هذه القوى أن تتفق على فهم واحد لهذا المصطلح، أو على قاسم مشترك يشتركون فيه فيما يخص هذا المفهوم، فهل هم متفقون الرأي على أن “وحدة الساحات” تعني أن ما يمس فلسطين من ضرر ونصب يمسهم كلهم حيث هم في ساحات إقاماتهم، القريبة منها والبعيد؟
وهل أن فصائل المقاومة في فلسطين؛ كل فلسطين تبادل تلك الفصائل هذا الفهم نفسه؟ ما يعني أن أي ضرر يلحق بتلك الفصائل في بلادها وساحاتها يعني أن ضرراً أصابها -الفصائل الفلسطينية- وعليها أن تهب لنجدتها وتحامي عنها؟
هل أن أي تهديد من أي جهة كانت خارجية أو داخلية يهدد من هم في فلسطين من حركات ومقاومين يعني أنه تهديدٌ وخطرٌ يحيق بتلك التي خارجها؟ وعليه يجب أن تشارك في كبحه؟
وهل العكس – أي خطر من أي جهة ضد من هم في الخارج يعني تهديداً لمن هم في فلسطين – صحيحٌ أيضاً؟
ما هي الحدود الجغرافية والموضوعية التي يشملها هذا المصطلح؟ هل تنطبق مقولة “عدو صديقي عدوي، وصديق صديقي صديقي” على مكونات من ينادون بوحدة الساحات؟ لذلك نقول أنه ما لم يتم التفاهم على هذه المفاهيم والمستتبعات، والتوافق عليها، فإننا سنجد أنفسنا أمام حالة من التخبط والإنكار لاختلاف المعيار، هذه بعض الأسئلة المفصلية التي يجب الإجابة عليها، عند الحديث عن “وحدة الساحات”، ليبنى على الشيء مقتضاه.
التفاهم على شكل وخصائص البيئة الاستراتيجية المطلوب توفرها لتحقق هذا المفهوم:
ثم إن من متطلبات عملية التحويل تلك -من مفهوم إلى إجراءات وخطط- التوافق على شكل وطبيعة البيئة الاستراتيجية -المحلية والإقليمية والدولية- التي يجب توفرها من أجل تحقيق عملية التحول تلك بنجاح، فبقاء البيئة الاستراتيجية الحالية في بعديها الإقليمي والدولي على ما هي عليه؛ أمرٌ يحيل الأمر -التحويل- إلى ضرب من المستحيل.
فالعدو يتمتع بشبكة علاقات -حبل الناس- إقليمية ودولية تؤمن له مظلة أمان يستطيع من خلالها تجييش المنطقة والعالم في وجه حركات المقاومة بمختلف تصانيفها وجغرافياتها، لذلك فخوض معركة تتوحد فيها الساحات ضد هذا المحتل الغاصب تتطلب خوض معركة على وعي شعوب وحكومات المنطقة والعالم، تُنقض فيها رواية هذا العدو وسرديته، وتُقدم فيها رواية المقاومة على أنها هي الحقيقة وما دونها سراب وأوهام.
يجب وضع خطط عمل تنقلنا من بيئة استراتيجية -إقليمية ودولية- تعادي حركات المقاومة وتناصبها العداء، إلى بيئة نكسب ودها، أو على الأقل تقف على الحياد بيننا وبين هذا العدو المحتل الصائل، فإن يتم ذلك -كسب الود أو الوقف على الحياد- فلا أقل من زرع الشك في رواية عدونا وسرديته، فالمعارك تخاض أولاً في العقول وعلى الوعي، ثم في ميدان القتال والنزال.
التفاهم على الأهداف الاستراتيجية المطلوب تحقيقها:
يلي ذلك؛ التفاهم على الأهداف الاستراتيجية المطلوب تحقيقها في سياق معركة “وحدة الساحات”، فبعضنا يريد أن يلقي هذا العدو في البحر! وبعضهم الآخر يريد أن يؤمن له ممرات عبور إلى المطارات والموانئ ليغادر أرضنا المحتلة حاملاً معه ما خف وزنه وغلا ثمنه!
وهناك من يتحدث أن معركة وحدة الساحات يجب ألا تتجاوز أهدافها دحر المحتل عن الضفة الغربية، وفك الحصار عن قطاع غزة، ثم يخلق الله ما لا تعلمون! هل هذا متفق عليه عند الجميع؟
ماذا نقول لمن يقول: إن هذه معركة حاسمة لا تخاض غمارها ضمن مرحلة واحدة، وإنما يجب مرحلتها على مراحل وتقسيمها إلى أجزاء؟ (تمام)؛ ما هي هذه المراحل؟ وما هي أهداف كل مرحلة منها؟ وما هو سقفها الزمني أو الموضوعي؟ يجب المعرفة من الآن حتى لا تختلط الأفهام، وتطيش السهام، عند اللقاء والالتحام.
التفاهم على المسارات الكلية المطلوب سلوكها:
كما يجب توحيد الفهم حول المسارات الكلية التي سيسلكها الفاعلون الحقيقيون في هذه المعركة، ووزن كل مسار من هذه المسارات ودرجة أهميته وترتيبيه بين الأولويات العملية في هذه المعركة المصيرية، هل أن الجهد الرئيسي في مسار هذه المعركة جهدٌ سياسي دبلوماسي يعري هذا المحتل ويفقده مصداقيته، ويبعد عنه حلفاؤه؟ أم أن جهدها الرئيسي جهد خشنٌ تُراكم فيه القدرات القتالية -البشرية والمادية- وتخصص فيها القدرات المالية لتغطية نفقاته الكلية؟
هل نحن متفقون على أنه يجب أن توظف جميع القدرات والإمكانات خدمة لهذا النوع من الإجراءات؟ أين يقع الجهد النفسي والحرب الناعمة بين كل هذه الجهود والمسارات؟ وكيف تدار الحرب النفسية وتوجه ضد هذا المجتمع الذي ما يفرق بينه أكثر مما يجمع؟
ماذا عمن يتحدثون عن استفتاء يُترك فيه لسكان فلسطين المحتلة عربهم ويهودهم حرية التصويت وفق آلية تصويت – One man, one vote- في اختيار طبيعة الحكم ومن يحكم، ثم ينصاع الجميع لنتيجة الصناديق؟ وأسئلة من هذا القبيل من الممكن ان نوجز فيها أو نطيل.
التفاهم على الأدوار الكلية المطلوب أداؤها:
وهنا يجب من الآن التفاهم على دور ومهمة الفاعلين الرئيسيين في هذه الحرب، وفي هذه المسارات المتعددة والمتنوعة؟ يجب أن يوحد الفهم ويتفق على شكل نوع ووزن كل مسار قبل انطلاق صافرة حركة هذا القطار، وإلّا سيطول الانتظار، يجب التفاهم على هذه الأدوار؛ فصائلياً وشعبياً، بحيث يتم تحديد المهام الفصائلية والشعبية، ليتم على ضوء هذا الفهم المتابعة والإشراف، وتحديد المسؤوليات، واستخلاص العبر والدروس، وسد الثغرات، ورفع النواقص وتأمين المتطلبات، وإلّا سيتقاذف الجميع جمر المسؤولية عند أي إخفاق أو قصور في الوصول إلى الأهداف، وغلق الملفات.
التفاهم على ترتيب الأولويات وتخصيص القدرات:
كما يجب تَقبل أن كل مشاركٍ من المشاركين الحقيقيين والفاعلين في هذه المعركة لديه أيضاً خصوصيات وأولويات تخصه في ساحة عمله، يجب رعايتها وعدم إغفالها تحت ذريعة أن هذه المعركة معركة مصيرية وأن لا صوت يعلو فوق صوتها.
حيث أن هذا الفهم والتفهم، من الجميع وللجميع، يعني المساعدة في ترتيب الأولويات، وتنظيم السير والتحركات، كما يساعد في وضع الضوابط والسياسات، وغياب مثل هذا الفهم عن الأذهان يعني عدم القدرة على ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، كما يعني أننا من الممكن أن نفقد دعم حواضننا الشعبية التي تشكل الرافد الرئيسي والدعم الأهم في صوغ الاستراتيجية الكلية لمعركة “وحدة الساحات” ونقطة ارتكازها الأغلى التي ترتكز عليها، كونها -الحواضن- ترى فينا جهات لا تراعي خصوصياتها ولا تتنبه إلى حاجاتها ومتطلباتها.
نختم هذه الورقة التي تعد مساهمة متواضعة في البحث الحقيقي عن تحويل فكرة “وحدة الساحات” إلى مجموعة من الخطط والإجراءات، نختمها ببعض التوصيات والتي من أهمها:
يجب التحول من طريقة التفكير الفردي والفصائلي لحل المشاكل ومواجهة الصعوبات، إلى حالة من التفكير الجمعي الذي يتشارك فيه الجميع، تفكيراً وتدبيراً واجتراحاً للحلول.
بدء عمل اللقاءات وورش العمل التخصصية التي تحول الأهداف السياسية والغايات الكلية لمعركة “وحدة الساحات” إلى مهام تعبوية.
بسط اهتمام الفاعلين الحقيقيين في هذه المعركة ليشمل بعضاً من اهتمامات شركائهم في ساحاتهم، حتى تتم المواكبة الكلية، ويسهل الفهم والتفهم عند اختلاف وجهات النظر أو تباين زوايا التقييم.
سد الثغرات، وتخصيص القدرات، وترتيب الأولويات، يجب أن يتم بناء على الأدوار والمهمات.
هذه بعض الأفكار التي نعتقد أنها بحاجة إلى نقاش أكثر عمقاً وتخصصاً، لتحويل الرؤى والأفكار، إلى إجراءات تبصرها الأنظار.