صوت البريطانيون، في الرابع من مايو الجاري، بالانتخابات “المحلية أو الفرعية” في بريطانيا؛ حيث تم التنافس على 230 مجلساً محلياً مسؤولاً عن تقديم الخدمات العامة وإدارتها في بعض أجزاء إنجلترا. ووُصفت تلك الانتخابات المحلية بأنها بمنزلة اختبار انتخابي حقيقي لأول مرة لرئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك؛ حيث عندما تولى المنصب من ليز تراس زعيماً للمحافظين، في نهاية أكتوبر الماضي، كان الحزب متأخراً بمقدار 30 نقطة عن حزب العمال في استطلاعات الرأي، وهو ما أعطى مؤشراً عن الخسائر الفادحة في المجالس المحلية التي قد يتكبدها الحزب؛ وذلك فيما كان يأمل حزب العمال المعارض الاستفادة من عام من الفوضى التي يعيشها حزب المحافظين الحاكم من أجل جذب أكبر قدر من الاستقطاب الشعبي له قبل الانتخابات الوطنية المزمع عقدها خلال عام 2024.
نتائج صادمة
وفقاً للنتائج شبه الكاملة، حقق المحافظون خسائر فادحة تقدر بنحو 1061 مقعداً بالمجالس المحلية، ليصل إجمالي أعداد مقاعدهم إلى 2296 مقعداً (28.5% من إجمالي المقاعد). على الجانب الآخر، استفادت أحزاب العمال والديمقراطيين الأحرار والخُضر من هذا التراجع؛ إذ استطاع حزب العمال تحقيق مكاسب صافية تقدر بـ536 مقعداً، ليسيطر بذلك على 2674 مقعداً (33.3% من إجمالي المقاعد). كما سيطر الديمقراطيون الليبراليون على 407 مقاعد إضافية، ليصل إجمالي أعداد مقاعدهم إلى 1628 مقعداً (20.2% من إجمالي المقاعد)، وكذلك الخُضر الذين استطاعوا الفوز بـ241 مقعداً إضافياً، ليصل بذلك إلى 481 مقعداً (6% من إجمالي المقاعد).
وبالنسبة إلى عدد المجالس التي يسيطر عليها الأحزاب بأغلبية، استطاع حزب العمال السيطرة على 71 مجلساً (31% من إجمالي المجالس)، يليه حزب المحافظين بإجمالي 33 مجلساً فقط (14.4%)، يليه بفارق طفيف الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي استطاع السيطرة على الأغلبية في 29 مجلساً (12.7%)، بينما كان هناك 91 مجلساً لا يسيطر أيٌّ من الأحزاب البريطانية على الأغلبية بها.
أهمية الانتخابات
تتجلى أهمية الانتخابات المحلية الحالية في العديد من الملفات والقضايا التي تهم الشارع البريطاني، إضافة إلى اعتبارها مرحلة تمهيدية للانتخابات العامة المقبلة. ويمكن إيجاز تلك الأهمية في النقاط التالية:
1– تعزيز النفوذ في إدارة الخدمات العامة: تكتسب هذه الانتخابات أهمية لكونها تمنح القوى السياسية المزيد من النفوذ في إدارة ملفات الخدمات العامة، على غرار الطرق، والوصول إلى المستشفيات والمدارس والمكتبات المحلية، وهي القضايا التي تؤثر على اتجاهات تصويت الأفراد، على عكس قضايا مثل الاقتصاد والهجرة التي تهيمن على المنافسات أثناء الانتخابات العامة؛ ولذلك يركز المرشحون في الانتخابات المحلية بشكل كبير على المشاكل اليومية التي تؤثر على المجتمع المحلي.
ومن ثم، فإن النتائج التي ستترتب على هذه الانتخابات تمنح القوى السياسية المختلفة، وخصوصاً حزب العمال الذي حقق مكاسب كبيرة في الانتخابات، نفوذاً أكبر في إدارة ملف الخدمات التي تقدمها المجالس المحلية، وهي الخدمات التي شهدت إشكاليات وتعطلاً كبيراً نتيجة الإضرابات الأخيرة التي شهدتها المملكة خلال الفترة الماضية، كما ترتبط نتائج الانتخابات بصلاحيات في الإنفاق على هذه الخدمات؛ فعلى سبيل المثال، فإن 14% من الإنفاق على الخدمات العامة في إنجلترا – غير شاملة التحويلات المالية للحماية الاجتماعية – يقع تحت مسؤولية ومظلة المجالس المحلية، وهو ما قُدِّر بنحو 47 مليار يورو في العام المالي 2020/2021.
هذا وتعمل المجالس المحلية كمنظمين؛ حيث قد يتم تعيين أعضاء المجالس في لجنة التخطيط والتنظيم، التي تتعامل مع قضايا مثل تخطيط الطلبات والتراخيص للمطاعم، وتضمن امتثال الشركات للقانون. في هذه الأدوار، يميل أعضاء المجالس إلى أن يكونوا مدربين تدريباً خاصاً، ومطلوباً منهم التصرف بشكل مستقل؛ لذلك لا يخضعون للجماعة أو سوط الحزب.
2– تزايد الضغوط على “ريشي سوناك”: تُعتبر الانتخابات المحلية لهذا العام، هي أول اختبار انتخابي حقيقي لريشي سوناك، في منصبَي رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب المحافظين. ومن الزاويتين، فإن حكومة وحزب سوناك يواجهان سخطاً وغضباً شعبياً، ولا يمكن إغفال أن النتائج شبه النهائية للانتخابات والخسائر التي مني بها حزب المحافظين ستفرض ضغوطاً عديدة على “سوناك”، لا سيما أنه كان يسعى إلى تحقيق الاستقرار في حزبه بعد استقالة بوريس جونسون وليز تراس، وعليه سيتحتم على “سوناك” اتخاذ سلسلة من القرارات من شأنها تعزيز موقف حزبه خلال الانتخابات المقبلة وتجاوز تداعيات الانتخابات المحلية الراهنة.
3– الكشف عن الفجوات في السياسات العامة على المستوى الوطني: بالرغم من تركيز الانتخابات المحلية على القضايا المحلية في الأساس كما سبق التوضيح، فإن معظم البريطانيين لا يصوتون على هذه القضايا تحديداً، بل تعد هذه الانتخابات هي أهم اختبار للكشف عن الفجوات في السياسات على المستويات الوطنية الأكبر؛ ففي استطلاع للرأي قامت به إيبسوس، في أبريل الماضي، عن دوافع القرار التصويتي للمواطنين في الانتخابات المحلية في مايو 2023؛ كشف الاستطلاع عن أن تفضيلات التصويت تدور حول قضايا لا علاقة لها بالانتخابات المحلية، أو بمعنى أدق، تدور حول قضايا تتصل بسياسات ليست في سلطات مستشاري المحليات ولا مجالسهم. وجاء على قمة هذه التفضيلات، قضايا (ارتفاع تكلفة المعيشة، والخدمات الصحية، وإصلاحات الطرق، والجريمة، والإسكان، والأجور والتوظيف)، وهي مادة تُعد الأكثر ثراءً في إعداد الأحزاب حملاتها في الانتخابات العامة لعام 2024.
4– مؤشر على شعبية الأحزاب في الانتخابات العامة المقبلة: من أبرز التداعيات وأكثرها تأثيراً التي تكشف عنها نتائج الانتخابات المحلية الجارية، هي مدى شعبية الحكومة الحالية قبل الانتخابات العامة في عام 2024، وإذا ما كان لدى حزب العمال – على سبيل المثال – فرصة أكبر لحصد مقاعد أكثر على حساب بقية الأحزاب، وتحديداً حزب المحافظين الذي يعاني من مجموعة من التحديات، سواء داخل حزبه أو لدى شعبيته في الشارع البريطاني نفسه. ومن ثم، فإن تحقيق حزب العمال مكاسب أكبر خلال هذه الانتخابات على حساب حزب المحافظين، قد ينم عن قدرته على العودة إلى السلطة مرة أخرى في الانتخابات العامة المنتظرة العام المقبل، حتى إن لم يستطع تحقيق الأغلبية وحده خلال تلك الانتخابات.
دلالات رئيسية
تكشف نتائج هذه الانتخابات عن مجموعة من الرسائل السياسية التي يجب على الأحزاب البريطانية أن تضعها في حساباتها تمهيداً لاستعداداتها للانتخابات العامة لعام 2024، ومنها:
1– عودة قوية لحزب العمال: بالنسبة إلى حزب العمال، كانت نتيجة هذه الانتخابات قوية للغاية؛ حيث استطاع حزب العمال تحقيق مكاسب صافية تقدر بـ536 مقعداً، ليسيطر بذلك على 2674 مقعداً (33.3% من إجمالي المقاعد)، وهو ما يعتبر أكبر تقدم للحزب على المحافظين منذ أن فقد الحزب السلطة في عام 2010، كما تعد أفضل نتيجة انتخابات محلية له منذ عام 1997.
على الجانب الآخر، هناك نقاش يدور حول حقيقة أنه إذا تم تكرار هذا التقدم في الانتخابات العامة، فإن نصيبه المتوقع في التصويت قد يؤدي إلى أن يكون حزب العمال له تمثيل أكبر عن بقية الأحزاب، وتحديداً المحافظين، بيد أنه لن يكون ذات أغلبية شاملة. إضافة إلى ذلك، لا يزال هناك أكثر من عام للذهاب إلى الانتخابات العامة؛ فمن المرجح جداً أن تنتقل بعض الأصوات إلى حزبي الديمقراطيين الأحرار والخُضر؛ الأمر الذي سيتطلب من حزب العمال الاستمرار في حملاته الانتخابية، واستغلال القضايا الداخلية لصالحه.
2– صعود “ستارمر” مقابل تراجع “سوناك”: وفرت نتائج الانتخابات المحلية الجارية فرصة ذهبية لاستعراض القوة لصالح كير ستارمر زعيم حزب العمال، في مقابل “ريشي سوناك”؛ فمع خسائر المحافظين، بجانب اكتساح العمال المقاعد في المجالس المحلية، فضلاً عن النكسات التي شهدها المحافظون باستقالات بوريس جونسون وليز تراس وفضيحة “بارتي جيت” المحسوبة على الحزب؛ ليس على ستارمر سوى شحن العديد من الأصوات المتشككة في الحزب الحاكم، والمتأرجحة في توجيه دعمها بين الحزبين، ودفع توقعاتهم في اتجاه أنه هو وحزب العمال في طريقهما بكل جدية لاستعادة رئاسة الحكومة البريطانية القادمة، وخاصةً مع اكتساحه في استطلاعات الرأي حول الشخصية السياسية الأبرز.
والجدير ذكره أنه في آخر مواجهة في البرلمان قبل الانتخابات، هاجم زعيم المعارضة كير ستارمر المحافظين – الذين يتولون السلطة منذ 13 عاماً – وتحدث عن نحو مليوني بريطاني سيكون عليهم دفع مبالغ أعلى لقاء قروضهم؛ لأن حزب سوناك قد استخدم أموالهم “مثل الكازينو”، في إشارة إلى عواقب القرارات المالية لرئيسة الوزراء السابقة ليز تراس التي أدت إلى ارتفاع معدلات الفائدة بالبلاد، لا سيما قيام سوناك بفرض المزيد من الضرائب المحلية، وهو ما قد يعطي حزب العمال ميزة نسبية في حال تلويحه بنوايا إقدامه على إعادة النظر في هذه القرارات مرة أخرى عند وصوله إلى السلطة العام المقبل.
3– تحقيق مكاسب أكبر للديمقراطيين الليبراليين والخضر: حصل الديمقراطيون الليبراليون على ما وصفه زعيمهم السير إد ديفي، بأنه أفضل نتيجة لهم منذ عقود؛ حيث سيطروا على 12 مجلساً، معظمها في قلب المحافظين، كما حصل الحزب على 407 مقاعد جديدة، مقارنةً بمكاسب حزب الخُضر البالغ عددها 241 مقعداً، وهي ما تعد أفضل نتيجة للحزب الديمقراطي الليبرالي على الإطلاق في الانتخابات المحلية.
4– تغير مناطق النفوذ الحزبي: استطاع حزب العمال تحقيق مكاسب عديدة في المراكز والبلدات الحضرية التي كان الحزب قد سبق أن خسرها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الانتخابات العامة لعام 2019، بل استطاع الحزب السيطرة على المجالس في المناطق التي من المتوقع أن تكون ساحات معارك حاسمة في الانتخابات العامة، بما في ذلك ميدواي، وسويندون، وبليموث، وستوك أون ترينت، وإيست ستافوردشاير، التي كان يسيطر عليها المحافظون.
من ناحية أخرى، فقد المحافظون السيطرة على 40 مجلساً، بيد أن “سوناك” قد أصر على التلميح في تصريحاته بأن حزبه لا يزال قادراً على تحقيق المزيد من المكاسب مستقبلاً؛ حيث أوضح أن حزبه يحرز تقدماً في ساحات القتال الانتخابية الرئيسية، مثل بيتربورو وساندويل وباسيتلو معاقل المحافظين السابقة، لكن مع ذلك تبين أن الحزب يواجه تحديات هائلة؛ فعلى سبيل المثال، حقق العمال مكسباً هائلاً في “باسيتلو”، وحصلوا على 38 مقعداً من إجمالي 48 مقعداً؛ وذلك فيما حصل حزب المحافظين على 8 مقاعد فقط. وفي ساندويل حصل العمال على 22 مقعداً من إجمالي 24، بينما حصل المحافظون على مقعدين فقط.
5– ضعف واتهامات متبادلة بين المحافظين: بعد الهزيمة الكبيرة التي تعرض لها الحزب، تبادل المحافظون فيما بينهم التهم التي تسببت في هذه النتائج المخيبة للآمال – على حد تعبيرهم – ففي سويندون؛ حيث سيطر حزب العمال على مجلس البلدة لأول مرة منذ 20 عاماً، ألقى زعيم المجلس المحافظ المهزوم ديفيد رينارد، اللوم على تكلفة المعيشة وأداء الحكومة في الأشهر الـ12 الماضية في مشاكل حزبه محلياً. هذا وقد أوضح رئيس بلدية تيز فالي المحافظ “بن حوشين”، الذي سيخوض الانتخابات العام المقبل، أن الأداء السيئ لحزب المحافظين كان جزئياً نتيجة الاضطرابات التي حدثت في الأشهر الـ12 الماضية، منوهاً بنجاح حزب العمال في جعل هذه الانتخابات استفتاءً على أداء الحكومة.
6– الاتساق مع توقعات استطلاعات الرأي: تأتي نتائج هذه الانتخابات انعكاساً لتوقعات استطلاعات الرأي التي سبق أن أُجريت قبلها؛ حيث كشفت متوسطات نتائج سبعة استطلاعات للرأي قامت بها سبع مؤسسات مختلفة (Deltapoll، more in common، Omnisis، Redfield & Wilton، Savanta، Techne UK، YouGov)، عن الاتجاهات الحالية في تأييد المواطنين البريطانيين للأحزاب المتنافسة في الانتخابات المحلية، ومدى الاختلاف أيضاً في تأييد البريطانيين لهذه الأحزاب، عبر مقارنتها بنتائج استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات المحلية في عام 2019، وقد أظهرت تلك الاستطلاعات وجود سيطرة أكبر بالفعل لحزب العمال.
فوفقاً لمتوسطات نتائج استطلاعات الرأي، ارتفعت شعبية حزب العمال بين الأحزاب الأخرى، مستحوذاً على 44% من تأييد الآراء، ومتقدماً كذلك على نتائج استطلاعات ما قبل انتخابات عام 2019 بمقدار 12 نقطة مئوية في المتوسط. وما لفتت إليه نتائج هذه الاستطلاعات أيضاً، هو أن حزب العمال تجاوز المحافظين بفارق 15 نقطة مئوية في المتوسط في مجموع استطلاعات الرأي، بينما تشير المقارنة مع استطلاعات ما قبل انتخابات عام 2019 إلى أن هذا الفارق الحالي يُعد أكثر اتساعاً أيضاً من الفارق بينهما قبل 4 سنوات؛ إذ بلغ وقتها 6% فقط.
خلاصة القول: على الرغم من أن هذه الانتخابات تركز على القضايا المحلية، فإنها لا تزال اختباراً تمهيدياً لقياس توجهات الرأي العام الداخلي قبل الانتخابات العامة المقبلة، وخاصةً إزاء سياسات الأحزاب البريطانية، وتحديداً بالنسبة إلى الحزبين الكبيرين: العمال والمحافظين، بجانب الأحزاب الصغيرة الأخرى التي تسعى إلى توسيع قاعدة نفوذها في هذه المجالس؛ لكسب شعبية أكبر فيما بعد في مجلس العموم؛ وذلك على الرغم من اختلاف نوعية القضايا التي تهتم بها طبيعة المنافسات الدائرة بينهم في العمليتين الانتخابيتين.
بيد أنه مما لا شك فيه، أن هذه الانتخابات قد منحت حزب العمال دفعة قوية أكبر للتجهيز للانتخابات العامة المقبلة؛ إذ أضحت لديه فرصة أكبر للعودة إلى رأس الحكومة في العام المقبل، بقيادة كير ستارمر، مستغلاً في ذلك التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها حزب المحافظين، بقيادة ريشي سوناك، التي تسببت في خسارته نحو ثلث مقاعده في نتائج الانتخابات المحلية.