أولاً: الموقف:
كثر الحديث، ويكثر بعد تولي “حكومة نتنياهو” زمام السلطة في كيان العدو المؤقت، ودخوله في نفق الاضطرابات الداخلية نتيجة لما يحاول أن يقوم به هو وحلفاؤه من تغيير في منظومة “القضاء الإسرائيلي”، وفرض قانون التغلب الذي يحد من سلطات المحكمة العليا؛ في إجراء الهدف الرئيسي منه.
تمكن “نتنياهو” من التخلص مما يهدده من ملفات فساد وإساءة استخدام السلطة، الأمر الذي قد يفضي به السجن، ما دفع الكثيرين لتقدير إمكانية محاولة هذه الحكومة الخروج من مأزقها الحالي عبر (خلق) أزمة خارجية، تُحوّل الأنظار عن الأزمات الداخلية لتسلطها على تلك الخارجية.
وقد ذهبت التقديرات للقول بأن فتح معركة مع جهة أو جهات خارجية تناصب هذا العدو العداء، وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كونها واسطة عقد كل أعداء هذا الكيان المؤقت، قد تكون -المعركة الخارجية- هي خشبة خلاص “نتنياهو” وحكومته، مما يواجهون من أزمات داخلية تكاد تعصف بهم وبكيانهم المؤقت، الأمر – شن حرب على إيران – الذي تأتي ورقة التقدير هذه لتناقشه، آخذين بعين الاعتبار أن الذهاب في التقدير نحو ملاحقة المعطيات الجزئية، والأخبار والتحاليل اليومية التي تتحدث عن الحرب وإمكانية شنها؛ سوف تدخل المُقدر في متاهة، ولن توصله إلى مبتغاه، ما جعلنا نناقش هذا الأمر عبر العناوين الكلية والإستراتيجية التالية، والتي تدخل في المعادلة النهائية عند قصد شن أي حرب، عنينا بها معادلة الجدوى والأكلاف -الداخلية والخارجية- أما عن عناوين هذا التقدير فهي على النحو الآتي:
ثانياً: البيئة الاستراتيجية:
لن ندخل في تفاصيل البيئة الاستراتيجية التي يمر بها العالم والمنطقة وكذا الساحة الداخلية للعدو؛ وإنما سنكتفي بذكر أهم ملامحها وسماتها التي تتسم بها والتي من أهمها:
دولياً:
الأزمة الأوكرانية وما أرخته من ظلال على الوضع الاقتصادي للعالم عموماً وللدول الأوروبية القريبة من ساحة الصراع خصوصاً.
ارتفاع وتيرة الأزمة بين الصين وأمريكا على خلفية ملف تايوان، وملف الغواصات الأمريكية لأستراليا، ومحاولة أمريكا وحلفائها مضايقة الصين في مجالها الآسيوي الحيوي.
خلل في سلاسل التوريد الغذائية والطاقة في مختلف بلدان العالم.
حالة التضخم المالي، وبوادر الانهيارات المالية التي بدأت تشهدها المصارف الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، كأحد نتائج الحرب الأوكرانية، وما يمكن أن تتركه حالة التضخم هذه من أثر على أولويات الدول والحكومات.
زيادة توثيق الصداقة بين روسيا والصين وإيران، وما يمكن أن يعكسه ذلك من أثر على القرارات والتوجهات الدولية المعنية بإيران، وملفاتها.
تراجع النفوذ الأمريكي العالمي وتجرؤ حلفائها وأصدقائها على التغريد خارج سربها.
علاقة إيران مع المنظمات الدولية والإقليمية القائمة على التعاون ومد جسور الحوار فيما بين الطرفين، خاصة منظمة الطاقة النووية الدولية.
تضارب في ترتيب الأولويات بين الكيان الغاصب، وباقي أعضاء المجتمع الدولي خاصة أمريكا فيما يخص إيران وملفها النووي.
إقليماً:
علاقات إيران الجيدة جداً مع أهم دول المنطقة – تركيا، المصالحة مع السعودية، حالة مستقرة مع مصر، علاقة ممتازة مع سوريا والعراق وشعوبها.
شبكة علاقات إيران الرسمية وغير الرسمية مع فاعلين ومؤثرين في المنطقة – أنصار الله في اليمن، حزب الله في لبنان، فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، فصائل الحشد الشعبي والعشائري في العراق.
بدء مسارات (إطفاء) وحلحلة المشاكل بين دول المنطقة التي شهدت حالات توتر أو خصومة في السابق -إيران / السعودية، إيران / مصر، مصر/ تركيا، تركيا / سوريا، سوريا / دول الخليج -.
عودة سوريا إلى جامعة الدولة العربية وإعادة إشغالها لمقعدها الذي غابت عنه ما يقارب 11 سنة.
حالات عدم الاستقرار المالي والاقتصادي والأمني التي تشهدها معظم دول المنطقة والإقليم، وأثرها على أجندات هذه الدول وبرامج عملها.
محلياً (داخل الكيان المؤقت):
أزمة سياسية حادة تكاد تعصف بـ “المجتمع الإسرائيلي”.
أزمة عسكرية متمثلة بالمشاكل التي تعاني منها المؤسسة العسكرية على الصعيدين البشري والمادي، مشاكل الاحتياط، مشاكل الدافعية، مشاكل انخفاض التجنيد، مشاكل في سلاسل الدعم اللوجستي الإداري والناري.
عقبات فنية وتقنية تحول دون القدرات المعادية والوصول إلى أهدافها والعودة بأمان.
خلاف في وجهات النظر بين العدو والولايات المتحدة فيما يخص الملف النووي الإيراني، واعتبار الملف النووي الإيراني ملف أمريكي بامتياز، وباقي (الفواعل) الدولية الإقليمية؛ ما هي إلّا (فواعل) ثانوية تابعة لأمريكا وما تقرره في هذا الشأن.
تباين في الآراء بين صناع القرار في الكيان المؤقت فيما يخص وسائل وآليات التعامل مع الملف النووي الإيراني.
ثالثاً: قدرات العدو:
فيما يخص قدرات العدو فإننا سنتحدث عن أهم القدرات المطلوبة لتنفيذ ضربة ناجحة لمشروع إيران النووية، وكذلك متطلبات الحماية من رد الفعل الإيراني المطلوب توفرها لترجح كفة الجدوى على كفة الأكلاف عند اتخاذ قرار الحرب.
يمتلك العدو سلاح جو يتمتع بقدرات استراتيجية قادرة على تنفيذ ضربات ناجحة في دائرة التهديد الأولى -سوريا، مصر، الأردن، لبنان- وحتى جزء من دائرة التهديد الثانية المتمثلة بالعراق واليمن، والعودة بسلام دون الحاجة إلى عمليات دعم وإسناد بالتزود بالوقود جواً في طريق تنفيذ المهام.
قدرات جوية مساندة ما زالت تحت التجريب والفحص ومراكمة الخبرات -طائرات التزويد بالوقود جواً، طائرات F35 الاستراتيجية-.
قدرات تقنية قادرة على تشويش بيئة المعركة وساحتها القريبة.
قدرات دفاع مشكوك في قدرتها وفعاليتها على التعامل مع عمليات القصف المدفعي -المباشر والقوسي- الشامل والغزير.
نقص حاد في البنى التحتية المطلوبة لحماية الجبهة الداخلية.
خلاف في وجهات النظر -فيما يخص إيران- بين العدو ومعظم الدول المطلوب اجتياز أجوائها لضرب إيران ثم العودة.
نقص في الوسائط الجوية القادرة على تغطية كامل أهداف المشروع النووي الإيراني.
القذائف التعبوية خارقة للحصون -عائلة الـ GBU – مشكوك في قدرتها على التعامل مع تحصينات برنامج إيران النووي.
رابعاً: قدرات إيران:
منظومات دفاع جوي مثبتة الفاعلية، قادرة على كشف الأهداف الجوية قبل دخولها المجال الجوي الإيراني بمئات الكيلومترات.
منظومات نار؛ أرض – جو وسطح – جو وجو- جو، قادرة على التعامل مع التهديدات الجوية بمختلف مناسيب ارتفاع طيرانها.
منظومات نار أرض – أرض مثبتة الفاعلية، قادرة على استهداف قواعد النار ومنصات انطلاق أي تهديد ضد إيران في شعاع نار يصل إلى 2000 كلم متر تقريباً.
قدرات نارية رديفة -حزب الله في لبنان، أنصار الله في اليمن، الحشد الشعبي في العراق، حلفاء إيران في سوريا- قادرة على التعامل مع أي تهديد “إسرائيلي” لإيران في حال طلبت الأخيرة مثل هذا الإسناد أو الدعم.
قدرات دفاع سلبي قادرة على تأمين الحماية المطلوبة للأصول البشرية والمادية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
المساحة الشاسعة للجمهورية الإيرانية والتي تصل إلى مليون وستمائة كيلومتر مربع، تشكل عامل ردع ذاتي لمن يفكر في استهداف إيران وقدراتها؛ على قاعدة عدم القدرة على السيطرة أو التأثير الحقيقي في مثل هذه المساحات الشاسعة.
خامساً: رد الفعل الإيراني:
جئنا على هذا العنوان كونه يمثل الشق الثاني – الأكلاف – من معادلة الجدوى والاكلاف التي تحكم اتخاذ أي قرار حرب، وهنا سنتحدث عن أكلاف أي ضربة لإيران، آخذين بعين الاعتبار ما قاله ويقوله قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من سياسيين وعسكريين من أن أي اعتداء على إيران سيواجه برد آني وحاسم بغض النظر عن الجغرافيا أو المكان الذي خرج منه هذا التهديد أو ساعد في تفعيله وخروجه إلى حيز التنفيذ.
أما عن الأكلاف فنعتقد أن أهمها سيكون على النحو الآتي:
الرد على كل قواعد سلاح الجو في الداخل الفلسطيني المحتل، ما يدفع إلى الاعتقاد أن الطائرات المشاركة في مثل هذه الضربة المفترضة، لن تجد مدارج هبوط تهبط فيها حال عودتها.
ضرب معظم الأصول المدنية والإدارية لنظام الحكم في هذا الكيان المؤقت، من مقرات قيادة وسيطرة، أو وزارات وإدارات.
تهديد جدي على الأصول البشرية في هذا الكيان المؤقت، يؤدي إلى (هجرة) عكسية، تُفرغ الكيان من أهم متطلبات بقائه، ألا وهو العامل البشري.
ضرب كل القواعد الأرضية التي قدمت دعماً -فنياً أو مادياً- لأسراب الطائرات المغيرة على إيران.
ضرب القواعد البحرية في البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وكذا الخليج العربي التي ساندت أو غطت أو شاركت في مثل هذه العملية، بغض النظر عن تبعية هذه القواعد أو جنسية دولها.
تعطيل سلاسل توريد الطاقة الخارجة من منطقة الخليج والتي تمثل ما يقارب 32 % من احتياط العالم، وما يقارب من 19 % من كمية الطاقة التي تصدرها هذه المنطقة للعالم يومياً.
عامل توتير جدي وحقيقي لعلاقة هذا الكيان مع أهم داعميه -حبل الناس- في العالم خصوصاً أمريكا، التي تقول جهاراً نهاراً؛ بالفعل وبالقول إن الملف الإيراني ملف أمريكي بامتياز.
سادساً: التقدير:
أمام هذه المشهدية، والمعطيات السياسية والتعبوية الكلية؛ فإننا لا نعتقد أن العدو قادر على اتخاذ قرار بالخروج لضربة عسكرية ضد مشروع إيران النووي، تتقدم جدواها على أكلافها، حتى لو تأمنت -الأمر المستبعد جداً- مشاركة أمريكا في مثل هذا الجهد؛ حيث أن أكلاف مثل هذا القرار على الكيان المؤقت غير قابلة للتحمل مطلقاً، كما أن رد الفعل الإيراني سوف يؤثر على مصالح أمريكا الحيوية في المنطقة والمتمثلة، بأمن الطاقة –مصادر وممرات وأسعار– وأمن حلفائها الرئيسيين الذين تعهدت بحمايتهم سابقاً وحالياً -دول الخليج العربي- بشكل رئيسي وباقي أصدقائها في المنطقة، لذلك لا نرى قرائن أو شواهد تشي أن حرباً ضد إيران يُهدد بها العدو الصهيوني ممكنة الوقع، على الأقل حتى نهاية هذا العام 2023.
إلّا أن مساراً حرجاً قد يخرج هذا التقدير عما ذهب له، يتمثل هذا المسار بقيام العدو بضرب بعض الأهداف الإيرانية المنتشرة في سوريا والعراق، بحيث تلحق هذه الضربة أضراراً جسيمة في الأصول البشرية والمادية الإيرانية هناك، ما سيدفع الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى تشغيل بعض تلك القدرات في الرد على مثل هذه الضربة مما قد ينتج عنه حالة اشتباك ناري بين الطرفين، سينحصر -الاشتباك- بالأراضي السورية، محاولة -إيران- رسم قواعد اشتباك جديدة تفضي إلى منع -تحويل التهديد إلى فرصة- العدو من معاودة استهداف سوريا وما فيها ومن فيها من قدرات سورية أو إيرانية.
نختم بالقول بأن الدول لا تبني استراتيجيتها بناء على حسن نوايا الأعداء، أو افتراض عقلانية تصرفاتهم؛ إنما تفترض سوء نية العدو، وإمكانية ارتكابه الأخطاء في التقدير، لذلك ترسم هذه الدول مسار بناء قواتها لتنهض بعبء التصدي للتهديدات والمخاطر الناتجة عنها -ردعاً أو دفاعاً أو حسماً-، والعاقل لا ينام لعدوه ولو كان نملة.