أجرى الرئيس الإريتري أسياس أفورقي زيارتين مهمتين إلى كل من الصين وروسيا في أواخر مايو الماضي وأوائل يونيو الجاري (2023)، وذلك بالتزامن مع احتفال إريتريا بذكرى مرور 30 عاماً على الاستقلال عن إثيوبيا في عام 1993.
وتكشف جولة أفورقي لكل من بكين وموسكو عن إجادته اللعب على المتناقضات الدولية والإقليمية بما يحقق مصالحه الاستراتيجية سواء على صعيد استمرار نظامه في الداخل الإريتري أو تعزيز حضوره في نطاقه الإقليمي المضطرب، لاسيما أنه تعرض للمزيد من الضغوط الأمريكية والغربية خلال الفترة الماضية بسبب تداعيات الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي، وفي إطار قلقه من الاضطرابات التي تشهدها المنطقة في ضوء استمرار الأزمة السودانية، وتصاعد نشاط الإرهاب في الصومال، وتزايد الاضطرابات السياسية في إقليم أرض الصومال، وما قد يترتب عليها من تهديد للأمن الإقليمي بما في ذلك الأمن الإريتري، وهو ما قد يجعل سياسة المحاور التي تلوح في أفق المشهد الأفريقي -لاسيما محور بكين موسكو- بمثابة ملاذ آمن بالنسبة لأفورقي كي يتحصن بها أمام ضغوط واشنطن والغرب، والذي يحافظ من خلالها على مكتسباته الاستراتيجية في المنطقة.
دوافع رئيسية
هناك جملة من الدوافع لدى الرئيس أفورقي للتقارب مع بكين وموسكو تزامنًا مع المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية، وتتمثل أبرز تلك الدوافع فيما يلي:
1- كسر حالة العزلة الدولية: وهي المفروضة على النظام الإريتري على مدار السنوات الماضية والتي كانت لها تداعياتها السلبية على الدولة الإريترية، بالرغم من الانفراجة التي أعقبت توقيع اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018، إلا أن العلاقات الإريترية مع المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب قد شهدت توترًا متصاعدًا بسبب تورط الجيش الإريتري في الحرب الإثيوبية الأخيرة على إقليم تيجراي.
لذلك، تستهدف تحركات أفورقي تعويض العقد الضائع من عدم التعاون مع العالم الخارجي عبر بوابتي الصين وروسيا. وتتزامن تلك الخطوة مع إعلان إريتريا مؤخرًا استئناف عضويتها في الهيئة الحكومية الدولية للتنمية "إيجاد" واستعدادها للعمل من أجل التكامل الإقليمي، وذلك بعدما انسحبت منها في عام 2007.
2- تحصين النظام الإريتري دوليًّا: يدرك أفورقي أهمية الحصول على الحماية السياسية من جانب روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) ضد الإجراءات العقابية الأممية المحتملة ضد نظامه، وإحباط العقوبات المفروضة عليه أو التخلص منها، لاسيما أن واشنطن والغرب يمارسان المزيد من الضغوط على أسمرة خلال السنوات الأخيرة.
3- مناهضة الهيمنة الأمريكية والغربية: يبدو أن أفورقي يسعى إلى بناء توجه أفريقي مناهض للغرب، والذي يتلاقى مع توجهات كل من الصين وروسيا على الساحة الدولية، وهو ما تجلى في خطاب أفورقي -خلال زيارتيْه للبلدين- الذي كشف فيه مناهضته للهيمنة الغربية والأمريكية التي اتهمها بمحاولة تخريب العلاقات بين روسيا وأفريقيا على سبيل المثال، كما أبدى دعمه لمحاولات بكين وموسكو بخصوص تأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب وأكثر عدلًا ليحل محل الهيمنة الأمريكية المنفردة على مدار العقود الثلاثة الأخيرة.
4- معاقبة واشنطن على مواقفها المتشددة تجاه أسمرة: تشهد العلاقات الإريترية-الأمريكية توترًا متصاعدًا خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعدما فرضت واشنطن بعض العقوبات على أربعة كيانات حكومية إريترية في نوفمبر 2021 على خلفية مشاركة القوات الإريترية في حرب تيجراي شمالي إثيوبيا، والذي اتضح أيضًا في عدم دعوة الإدارة الأمريكية للحكومة الإريترية للمشاركة في أعمال قمة واشنطن-أفريقيا التي انعقدت في منتصف ديسمبر 2022، الأمر الذي دفع أفورقي للانفتاح على المعسكر الروسي-الصيني في سبيل مواجهة الضغوط الأمريكية على أسمرة التي ربما تتزايد خلال الفترة المقبلة.
5- حشد حلفاء دوليين لإريتريا: حاول أفورقي تقديم نفسه كحليف مهم لكل من الصين وروسيا في أفريقيا، وهو ما برز في دفاعه عن الموقف الروسي تجاه حرب أوكرانيا، واتهامه للغرب بالمسئولية عن الوضع الراهن في أزمة شرق أوروبا، إضافة إلى تأكيد دعمه للصين في المحافل الدولية، ومعارضته بشكل مستمر لأي إدانة عالمية لسياسة الصين تجاه بعض الملفات الشائكة مثل تايوان والتبت وهونج كونج.
6- التحضير للقمة الروسية-الأفريقية المقبلة: يدعم أفورقي قمة روسيا-أفريقيا المقرر إقامتها في مدينة سان بطرسبرغ الروسية في يوليو 2023، والتي تمثل فرصة لخروج أفورقي من عزلته الدولية، كما أنها فرصة لتعميق الشراكة الاستراتيجية مع موسكو، وعرض الفرص الاقتصادية والمشروعات الاستثمارية المتاح تنفيذها في إريتريا.
7- استقطاب الاستثمارات الأجنبية: يسعى أفورقي إلى توظيف تقاربه مع كل من بكين وموسكو في استكشاف مسار إنمائي للاقتصاد الإريتري المتردي بما يتناسب مع الوضع الإريتري الداخلي، وبما يدعم حفاظ أسمرة على سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية ومعارضة التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي الإريتري، وذلك عبر فتح آفاق رحبة للتعاون الاقتصادي والتجاري مع الطرفين، من خلال انخراط الشركات الصينية والروسية في العديد من المشروعات الاستثمارية بأسمرة في قطاعات مختلفة مثل البنية التحتية والاتصالات والزراعة والتعدين ومصايد الأسماك والرعاية الصحية والحوكمة.
8- إعادة بناء الجيش الإريتري: تعرضت القوات الإريترية خلال العامين الماضيين للمزيد من التحديات والخسائر عقب انخراطها في الحرب الإثيوبية الأخيرة، وهو ما يدفع أفورقي للاستعانة بالخبرات الروسية في إعادة تأهيل وتحديث المؤسسة العسكرية الإريترية، وتفعيل ما تم الاتفاق عليه خلال زيارة سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الأخيرة إلى أسمرة في يناير 2023 فيما يتعلق بالمجال الأمني والعسكري، لاسيما أن أسمرة لا تزال تخشى انتقام جبهة تحرير تيجراي بسبب مشاركة الجيش الإريتري في الحرب عليها منذ نوفمبر 2020، كما أن أفورقي يعتقد أنها تسعى إلى الإطاحة بحكمه والسيطرة على إريتريا تمهيدًا لإعلان حلم دولة تيجراي الكبرى الذي أعلنت عنه في عام 1975.
9- أهمية إريتريا الاستراتيجية: يدرك أفورقي أن التموضع الجيوبولتيكي لبلاده له تأثير فريد في القرن الأفريقي، وأنه حيوي للترابط المباشر بين الشرق الأقصى وأفريقيا. ويبدو أنه يرغب في أن تكون إريتريا مركزًا إقليميًّا تجاريًّا في المنطقة مستقبلًا، لكي يستعيد مكانته في العالم الجديد الذي تسعى إليه روسيا والصين. ويدفعه لذلك وجود إريتريا في قلب طريق الحرير البحري الصيني، وهي التي ترتبط بمبادرة الحزام والطريق بعدما وقعت على الانضمام إليها في نوفمبر 2021. إذ يسعى أفورقي لتقديم نفسه لبكين على أن بلاده يمكن أن تكون رابطًا محتملًا بين الصين والعمق الأفريقي ومناطق استراتيجية أخرى خارج القارة، خاصة أن هناك روابط بحرية تبدأ من إريتريا مرورًا إلى تنزانيا وجنوب أفريقيا ووصولًا إلى أمريكا اللاتينية.
بينما تمتلك إريتريا موارد وثروات طبيعية مثل الذهب والنحاس والزنك، وهو ما يمثل دافعًا قويًّا للانخراط الروسي في أسمرة، إضافة إلى الاستفادة من أهمية الموقع الجغرافي في تعزيز التواجد العسكري الروسي في مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
تداعيات محتملة
ربما تفرض جولة أفورقي الخارجية عددًا من التداعيات المحتملة التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- دعم النظام الإريتري: ربما يستعين أفورقي بالروس للانخراط في الداخل الإريتري من خلال قوات فاغنر الروسية الأمنية، وذلك في حالة اضطراب الأوضاع الداخلية في بلاده أو تزايد الضغوط الأمريكية والغربية على نظامه خلال الفترة المقبلة. إضافة إلى احتمال مطالبته بالدعم الصيني والروسي في مجلس الأمن الدولي حال تعرض نظامه لإجراءات عقابية محتملة هناك. وإن كان ذلك عكس توجهات أفورقي على مدار العقود الثلاثة الماضية منذ صعوده للسلطة، حيث لم يستعن بأي قوة خارجية لمواجهة التحديات التي تواجهه على الصعيدين المحلي والدولي، الأمر الذي يعكس شعور أفورقي بحجم التحديات التي تواجهه نتيجة المتغيرات التي طرأت على النظام الدولي خلال الفترة الأخيرة.
2- تغيير السلوك الإقليمي الإريتري: قد تضغط بكين على أسمرة من أجل الانخراط في الكيانات الأفريقية القارية مثل الاتحاد الأفريقي وغيره من المنظمات والمبادرات الإقليمية مثل الانضمام إلى اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2021، وذلك بهدف استعادة أسمرة لمكانتها الإقليمية، التي قد تمكن بكين من توظيف أفورقي لتسكين بعض الملفات الساخنة في المنطقة مثل الأزمة السودانية الراهنة، إلى جانب استفادة بكين من الموقع الجغرافي المتميز لإريتريا في تسهيل انتقال التجارة من العمق الأفريقي إلى البحر وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي.
3- تسهيلات عسكرية إريترية: ربما يدفع التقارب الروسي-الإريتري إلى سماح أسمرة لروسيا بالحصول على موطئ قدم استراتيجي من خلال تدشين قاعدة عسكرية روسية في ميناء مصوع، مما يعزز النفوذ الروسي في منطقة القرن الأفريقي، ويضمن لها القرب من مسرح الأحداث في عدد من المناطق الاستراتيجية الأخرى مثل الخليج العربي والشرق الأوسط والمحيط الهندي.
وعلى صعيد آخر، تضمن الصين عبر بوابة إريتريا تأمين مصالحها الاستراتيجية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر بما في ذلك قاعدتها العسكرية المتمركزة في جيبوتي، إضافة إلى قربها الاستراتيجي من منطقة المحيط الهندي، وحماية تجارتها البحرية هناك.
4- ضغوط غربية متزايدة على إريتريا: ربما تمارس واشنطن والغرب مزيدًا من التضييق على أفورقي خلال المرحلة المقبلة وصولًا إلى محاولة التخلص من نظامه، وهو ما قد يمثل رسالة تحذيرية من الغرب للحكومات الأفريقية الأخرى من التقارب مع بكين وموسكو، في خضم تصاعد التنافس بين الطرفين على الساحة الأفريقية، الأمر الذي قد يدفع أفورقي إلى توسيع دائرة خطابه المعادي للغرب وواشنطن بما يعزز إحكام سيطرته على الحكم في الداخل، إلى جانب تقديم المزيد من التنازلات لموسكو وبكين من أجل ضمان حمايتهم ورعايتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية له في المرحلة المقبلة.
وإجمالًا، يدرك الرئيس أفورقي حجم المتغيرات الاستراتيجية على الساحة الدولية التي امتدت آثارها إلى المشهد الأفريقي، وأيضًا حجم الضغوط التي تواجهه على الصعيدين المحلي والدولي في ضوء استمرار العقوبات الأمريكية والغربية على نظامه خلال السنوات الأخيرة، ويبدو أنه لم يعد بمقدوره مواجهتها بمفرده، مما دفعه للبحث عن حلفاء جدد مناهضين لما أسماه بالهيمنة الغربية، في سبيل ضمان حمايته ورعايته على الصعيد الدولي، اتقاءً للعقوبات الأممية المحتملة، وإطالة أمد نظامه في السلطة بإريتريا.