تدرك الولايات المتحدة وحلفاؤها أن هجوم كييف المضاد من غير المرجح أن يسحق روسيا، لكنهم يأملون في إلحاق قدر كافٍ من الألم لزعزعة الكرملين ويواجه كل من الرئيس بوتين والرئيس زيلينسكي المستقبل بعدم اليقين مع دخول الحرب مرحلة محورية>
لقد بدأ الهجوم الأوكراني المضاد الذي تم الإعلان عنه كثيرًا، لكن السياسة بدأت في الغليان بالفعل. ففي الأسبوع الماضي هدد سياسيون ومحللون مقربون من الرئيس بوتين بهرمجدون النووية مرة أخرى وقالوا إن موسكو قد تعطل الإنترنت في أوروبا عن طريق قطع الكابلات تحت الماء. كما أن حلف شمال الأطلسي هو أيضًا قعقعة سيوف. فقد أعلن أمينه العام ينس ستولتنبرغ مرارًا وتكرارًا أن مستقبل أوكرانيا يكمن في التحالف العسكري. وتم تغيير مسار الرحلات الجوية في أوروبا بسبب أكبر مناورات جوية للتحالف العسكري أجريت هذا الشهر فوق ألمانيا والدنمارك وهولندا.
من واشنطن إلى بكين، يتلاعب صانعو السياسة بنتائج الهجوم المضاد المحتملة. إنهم يعرفون أنها تمثل لحظة حاسمة ليس في الحرب الروسية الأوكرانية فقط، بل في السياسة العالمية. فمن المرجح أن تحدد نتيجته مستقبلنا لعقود، لا الروس ولا الأوكران، ولا من يدعمهم يخوض المعركة بثقة، فعدم اليقين حاضر في تفكيرهم.
وهناك الكثير من المعروف والمجهول في ميدان المعركة، وعلى المسرح السياسي الأوسع للحرب الذي يدعو للثقة أو التيقن من النتيجة، ولا تداعيات الحرب الجيوإستراتيجية الطويلة الأمد. بعبارات بسيطة: لا نعرف من سينتصر. ومع ذلك، يمكن الحديث عن سيناريوهات أربعة: نصر أوكراني، نصر روسي حاسم، حالة مراوحة يمكن أن تشتعل في أي وقت، وربما قادت لمفاوضات، أو تصعيد، يعني نشر روسيا أسلحة نووية إستراتيجية في المعركة، وربما تورط الناتو، وهو كابوس لبوتين.
فإذا انتصرت أوكرانيا، فبوتين لن ينجو، وستدخل روسيا حالة من الحروب الأهلية والفوضى على الرغم من أنها تملك رؤوسًا نووية أكثر من أي بلد في العالم. في المقابل، وفي حال انتصرت روسيا، فالكارثة ليست على أوكرانيا، بل ستكون نكسة عظيمة للغرب.
وعلى أوروبا التعايش مع قوة عدوان عسكرية على أعتابها، وستتقوى روسيا والصين بالنصر الروسي. ولا يبدو أن أيًّا من هذين الخيارين واضح، ما يعني البحث عن خيار ثالث، أو نتيجة ثالثة، وهو الامر المفضل عند صنّاع السياسة. وسيكون وقف الحرب والبدء بالمفاوضات هزيمةً للغرب، وشعوراً بالراحة لدى الرئيس الأميركي جو بايدن، وهذا خياره المفضّل، إلا أن سلطة الغرب الذي سيواجه مناخًا سياسيًا متغيرًا بشكل دائم ستتأثر. فالأعصاب متوترة في أوروبا والولايات المتحدة، وحلفاء كييف الدوليون ينتظر ون الأدلة على قدرة الجيش الأوكراني على تحويل الدعم العسكري الضخم الذي حصل عليه إلى مكاسب على الأرض.
ويعترف المسؤولون الأوكرانيون تحديدًا أنهم لا يستطيعون، أو أنهم ليس لديهم القدرة لاستعادة السيادة على الأراضي التي خسروها. واستخدم الجيش الروسي الشتاء للتحصن على طول خطوط القتال، ولا يزال أثر الأسلحة القوية مثل صواريخ كروز “ستورم شادو” المقدمة من بريطانيا غير معروف. وبدلاً من تحرير المناطق المحتلة، سيحاول الأوكران إضعاف سيطرة الروس عليها، بما يثير أزمة في موسكو.
علّقَ دبلوماسي غربي: "كلما تسبّب الجيش الأوكراني بألم للجيش الروسي، كلما تفككت سيطرة بوتين على السلطة في الكرملين، أو هكذا تفترض النظرية" التي يطلق البعض عليها نظرية "النجاح الكارثي". أي نصر عسكري يمكن أن يفضي إلى الفوضى، والحرب الأهلية حتى وسط العدو. ولدعم هذه الفرضية يتحدث المحللون عن تداعيات هزائم روسيا العسكرية من العام 1905 ضد اليابان، إلى الهزيمة العسكرية أمام الألمان عام 1917، وأفضت كلتاهما إلى ثورات، كانت الأولى منها غير ناجحة، أما الثانية فقد أسقطت النظام الملكي، وأدت إلى ولادة الاتحاد السوفييتي الذي بصم القرن العشرين.
ومن التكتيكات التي سيتبعها الجيش الأوكراني محاولة عزل شبه جزيرة القرم عن روسيا الفدرالية من خلال تدمير جسر كيرتش للمرة الثانية. وتعدّ القرم التي ضمت عام 2014 من أهم المناطق، وذات قيمة عاطفية لبوتين. وتقول النظرية إن فقدان بوتين السيطرة على شبه الجزيرة يعني فقدان الثقة داخل روسيا. ويخشى البعض من تداعيات هذا النجاح الكارثي الذي سيقود ربما إلى تصعيد. فهل يلجأ بوتين المحشور في الزاوية إلى الخيار النووي؟ وقد قال مرشد بوتين للسياسة الخارجية سيرغي كاراغانوف الأسبوع الماضي إن روسيا قد تلجأ للسلاح النووي لكسر الدعم الغربي لأوكرانيا. وبدا الخطاب الناري واضحاً من كلام رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الذي يشبه بوتين، وإعلانه عن وصول أسلحة نووية إستراتيجية. في وقت هدد فيه الرئيس، ورئيس الوزراء السابق ديمتري ميدفيديف بتخريب خطوط الإنترنت التي تربط أوروبا ببقية العالم.
كل هذا لم يمنع الناتو من إظهار الدعم لأوكرانيا، فهو، وإن كان منقسماً حول عضوية كييف في الحلف، إلا أنها لقيت دعماً هذا الشهر من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي عبّر عن دعم لدخول أوكرانيا في الناتو. فبعدما كان قد أعلن أن الحلف ميت دماغياً، بات يرى فيه جسراً يربط بين غرب أوروبا وشرقها.
وسواء عوّل حلفاء أوكرانيا على نصر حاسم أم لا، فالأميركيون يتطلعون إلى انتصارات كافية تدفع روسيا إلى طاولة المفاوضات. ولو لم يفهم زيلينسكي وقادته العسكريون الرسالة التي أوضحها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في مقابلة مع فريد زكريا على “سي أن أن”، فقد قال إن أميركا تريد “دعم أوكرانيا لتحقيق أكبر قدر من التقدم في ساحة المعركة، وكي تكون في وضع جيد على طاولة المفاوضات".
وتقوم إستراتيجية بايدن في أوكرانيا على: التحرك نحو المفاوضات عندما تكون أوكرانيا في وضع قوة نسبي، ومحادثات سرية مع الصين. وبحسب المصادر الاستخباراتية، فقد توصل بايدن العام الماضي إلى اتفاق مع نظيره الصيني شي جينبينغ يقوم على ممارسة بكين الضغط على بوتين كي لا يستخدم السلاح النووي، مقابل تعهد أميركا والغرب بعدم توفير أسلحة متقدمة قادرة على ضرب العمق الروسي. وتستطيع صواريخ كروز ستورم شادو ضرب روسيا، وسواء أمدتها بريطانيا بموافقة تكتيكية من واشنطن، فلدى بايدن خيار الإنكار. ويعتمد كل هذا على زيارة وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى بكين هذا الأسبوع، فمنذ لقاء الرئيسين في بالي في تشرين الثاني/نوفمبر فقد تدهورت العلاقات بشكل كبير، وسواء اتجه الوضع إلى الانفراج أم لا فالدم الفاسد باق.
ورفض بايدن تزويد أوكرانيا بنظام الصواريخ ام جي أم -140، المعروف بـ “اي تي إي سي أم أس” الذي لديه مدى أوسع من ستورم شادو البريطاني. وحاولت بريطانيا الضغط على بايدن لتزويد كييف يه، لكنه لم يتزحزح عن موقفه. ويخشى بايدن من انهيار القنوات الخلفية مع الصين، وتأكيد هذه النقطة عرض بايدن محادثات على الصين معاهدة نووية وليس مع روسيا، وهذه إشارة أخرى إلى تطلّع البيت الأبيض إلى مرحلة ما بعد نهاية الحرب الروسية- الأوكرانية.
ويرسل بايدن وسوليفان إشارات، لأنهما مثل الأوكرانيين يتطلعان الى الحملات الرئاسية التي ستكون في أوجها بحلول آذار/مارس. فقد شكك كثير من المرشحين الجمهوريين ـ علاوة على زملائهم في الكونغرس ـ في استمرار تقديم الدعم المالي للحرب في أوكرانيا.
وكشف آخر استطلاع عن تراجع دعم الحرب الأوكرانية، إذ عبّر 50 في المئة من الناخبين الجمهوريين عن رغبتهم بتخفيف الدعم إلى كييف. ويبدو بوتين مرتاحاً للعب لعبة طويلة، حالة كان أداء جيشه جيداً في الحرب الحالية، ولا يهمه إرسال شباب جدد إلى مفرمة اللحم في أوكرانيا. ويعتقد أنه يستطيع مواصلة الحرب لفترة طويلة، وللأسباب نفسها التي يخشاها زيلينسكي: “إستراتيجية بوتين واضحة: زِدْ من القسوة” حسب المحلل السياسي في العلوم الإنسانية في فيينا إيفان كراتسيف، ويعتقد بوتين أن الغرب “سيفقد الصبر، وعندها سيتغير كل شيء مع الانتخابات الرئاسية”.